2015/08/05

مسّ من الجنّ - الفصل الثاني: وفي أنفسكم أفلا تبصرون(9)

 
الفصل الأوّل: الحلقات السابقة . . . . الفصل الثاني: الحلقة الأولى الحلقة الثانية الحلقة الثالثة الحلقة الرابعة 

الحلقة الخامسة الحلقة السادسة الحلقة السابعة الحلقة الثامنة


(الحلقة التاسعة)

الخروج من اليم .... جهاز الأعصاب الطرفيّة

 أريد أن أعيد إلى الأذهان هنا بأنّنا حينما عزمنا على السفر في أوّل مرّة قاصدين أعماق المحيط كنّا نتوقّع بأن تكون الرحلة طويلة وشاقّة ولكن ما كان يطمئننا هو متع الرحلة وما قد نشاهده في طريقنا نحو الأعماق السحيقة. كانت الرحلة مخيفة لأنّها تهدف إلى تجلية الكثير من المتخفّى في قاع المحيط الكبير. وبالفعل تمكّنا بسلام من سبر الأغوار العميقة والمظلمة والمبهمة، ومع أنّنا لم نتمكّن من رؤية كل شئ كان يقع في طريقنا لعدّة عوامل منها الوقت بكل تأكيد، إلّا أنّنا نستطيع الآن تنفّس الصعداء فقد بلغنا العمق وشرعنا بالفعل في رحلة الخروج بهدف العودة إلى اليابسة.
عودتنا إلى اليابسة سوف لن تكون عبر طنجة ولا عبر زوارة ولا عبر السويس، وإنّما عبر اللاذقيّة في سوريا.... فلماذا اللاذقية ولماذا نتحمّل كل ذلك العناء ونحن نسبح في مياه المتوسّط؟.
قبل الإجابة على هذا السؤال الذي بكل تأكيد يعتبر مهمّاً، دعوني أعود بكم إلى علامة بارزة كانت في طريقنا حينما دخلنا ميناء زوارة ولم نعيرها إهتماماً حينها، لكنّني الآن أحسست بأهمّيتها نظراً لأهمّيتها بالفعل. فحينما دخلنا من الشاطئ الرملي في زوارة الهادئة مررنا بمعلم طبيعي هو بمثابة الغمّازة في وجه زوارة المستدير كإستدارة القمر والزاهي كإبتسامة العمر. تلك "النونة" في خد زوارة الوردي هي "جزيرة فروة" الجذّابة.
 والسؤال البسيط الذي يبرز هنا هو: لماذا الآن أتذكّر فروة وما علاقة فروة بما أتحدّث عنه من الدماغ والأعصاب والآحاسيس والتفاعلات؟. 
جزيرة فروة هي بمثابة "العقدة الجذريّة الظهريّة" Dorsal Root Ganglion التي تعبر بها كل الآحاسيس الطرفيّة في طريقها إلى القرن الخلفي للنخاع الشوكي، وهي حسّاسة مثل الوردة. إن نحن رفقنا بها إسترحنا وأحسسنا بالأمن والآمان بدون آلام وبدون منغّصات، ولكن إذا نحن عبثنا بها أو أهملناها عانينا من آلام شديدة جدّاً قد تحوّل حياتنا إلى جحيم مستعر. ذلك هو الحال بالنسبة لجزيرة فروة، حيث إن نحن إهتمّينا بها وأعطينها ما تسحق من إهتمام فإنّها سوف تكون مصدراً للرزق بالنسبة للكثير من الليبيّين والليبيّات وإن نحن أهملناها تحوّلت إلى معبر للمهاجرين الآفارقة ومركزاً للمتاجرة بأرواح البشر.
أعود إلى رحلة الخروج من أعماق المحيط ناحية مياه المتوسّط الدافئة في طريقنا نحو ميناء اللاذقية في سوريا، ورحلتنا في المتوسّط تم وصف ملامحها في الحلقة السابقة من هذه السلسلة... ولكن لماذا "اللاذقّية"؟.
قبل أن أجيب على هذا السؤال دعوني أبحث في معضلة أخرى واجهتني وأنا أمخر المتوسّط متجّها نحو الشرق، حيث لم أتمكّن من تحديد الوجهة التي ينظر بها البحر المتوسّط؟.... أو بمعنى آخر، ما هي واجهة المتوسّط وما هي مؤخّرته؟. هل تقع أوروبا في الواجهة أم أنّها أفريقيا هي من تقع في الواجهة، والإجابة على هذا السؤال مهمّة بالنسبة لموضوع هذه الرحلة الطويلة؟.
دعوني هنا أذكركم ببعض الحقائق العلميّة بخصوص النخاع الشوكي، بما ربّما قد يجيب على السؤال السابق بخصوص تحديد واجهة المتوسّط ومؤخّرته. 
من المعروف تشريحيّاً أن النخاع الشوكي يعبر في قناة طويلة تسمّى "القناة الشوكيّة"، وهذه القناة الطويلة هي محميّة بالكامل بمحيط عظمي صلب تدعّمه أربطة وعظلات من الخلف، ويدعّمه من الأمام عمود ضخم من الفقرات العظميّة يبلغ عددها 29 فقرة تكون بمثابة الجسر الذي يتكأ عليه النخاع الشوكي ويحمي مقدّمته من الأذى أو الإلتواء أو العطب.
  هناك ثوابت جغرافيّة أخرى يجب التنويه إليها، وهي أن أوروبّا المطلّة على البحر المتوسّط تتكوّن شواطئها في أغلبها من صخور كبيرة وسلسة جبال الألب في حين تتميّز شواطي أفريقيا المطلّة على المتوسّط برمليتها وقلّة الصخور فيها، وسلسلة الأطلس هي عميقة في تراب الشمال الأفريقي وبعيدة عن حواف المياه.
من هنا يمكن القول بأّن البحر المتوسّط ينظر إلى أوروبّا ويعطي مؤخّرته إلى أفريقيا ويثني رجليه في آسيا حينما تكون رقبته في الغرب بمثابة مضيق جبل طارق ويمثّل رأسه المحيط الأطلسي. أعتقد الآن بأن الصورة أضحت واضحة، وميناء اللاذقية يعتبر بمثابة أحد الطرفين السفليين (الرجلين) بالنسبة لجسم البحر المتوسّط(النخاع الشوكي).

الآن يمكننا التحدّث عن مراسم الخروج من المتوسّط والدخول إلى اليابسة من جديد، ومن هناك بكل تأكيد سوف نعبر إلى معالم على اليابسة تشمل صخوراً وتراباً ومجاري مائيّة وودياناً ومسارباً وكائنات تتحرّك... ذلك ما يشابة عالم العضلات ومحيطها وهو ما سوف يكون حديث الحلقة القادمة بإذن الله.

لنترك الآن تضاريس الحياة إلى تضاريس البشر... لنترك المحيط الأطلسي والبحر المتوسّط  ورمال شاطئ زوارة وسهول اللاذقّية، لننتقل من النخاع الشوكي إلى عالم "الأعصاب الطرفيّة" Peripheral Nervous System، وكيفيّة تشكّلها بعد خروجها من الحبل الشوكي.
في الحلقة الثانية من هذا الفصل، لاحظنا بأن الأعصاب الطرفيّة الحسّية تعود من منشأها تحت الجلد مثلاً إلى القرن الخلفي من النخاع الشوكي لتوصل رحلتها إلى أعلى في إتجاه المخّ لتنتهي في التلفيف الخلف مركزي وتتواصل من هناك مع نظيرتها الحركيّة التي تنشأ في التلفيف الأمام مركزي، ومن هناك تشرع في عملية النزول نحو النخاع الشوكي لتخرج من ثمّ مكوّنة الأعصاب الحركيّة الطرفيّة والتي تنتهي في أغلب الأحيان في العضلات فتحرّكها لتقوم بواجباتها كما هو مطلوباً منها.
   في هذه الحلقة بالطبع سوف نصاحب الأعصاب الحركيّة الطرفيّة وهي تتشكّل في بداياتها الأولى على أطراف القرن الأمامي للنخاع الشوكي، ونعبر معها خطوة بخطوة حتى تنتهي في العضلات والتي سوف تكون محور الحديث في الحلقة القادمة كما أسلفت.
في البداية دعونا نتعرّف على الفقرات (فقرات العمود الفقري) لأنّها محطّة عبور مهمّة جداً بالنسبة للأعصاب الطرفيّة بمجرّد تكوّنها، وهي أيضاً تعتبر نقطة دخول للقادمين من الأعصاب الحسيّة الطرفية في آخر مسيرتها تجاه العصب الشوكي.
بكل تأكيد يوجد مثل هذه 29 فقرة عظميّة تختلف في الحجم والشكل لكنّها تتفق في الجزئيّات التركيبيّة، فكل فقرة توجد بها خمسة أجنحة تسمّى نتوءات، وهذه النتوءات أو الأجنحة الجانبيّة تعتبر مهمّة جدّاً في أمرين: أولهما التشكيل والدعم والمساندة بالنسبة للعمود الفقري، وثانيهما أنها تسمح بمرور الأعصاب جيئة(حسّية) وذهاباً(حركيّة). هذه الفقارات أيضاً تكوّن فيما بينها قناة طوليّة تسمّى قناة الحبل الشوكي، وهي مع جارتها العلويّة وجارتها السفليّة تكوّن قناتين جانبيّتين تسمّى كل واحدة منهما "القناة الفقارية" وهي التي تسمح بمرور الأعصاب الذاهبة والأعصاب العائدة.
 بقيّة الحديث عن تكوين العمود الفقري سبق التعرّض إليها في الحلقة السابقة لمن يريد الإطلاع عليه أن يعود إلى تلك الحلقة بالضغط أعلاه على الإيقونة المناسبة.
كما ذكرت عاليه، فمن الثلثين الطرفيين للقرن الأمامي للحبل الشكوي من كل جانب تتكّون الأعصاب الطرفيّة الحركيّة والتي تتقابل مع الأعصاب الحسّية القادمة من أطراف الجسم النائية ويكوّن العصبان الجذريان مع بعض عصباً أكبر يسمّى "العصب الشوكي" ويكون هذا العصب مغمّداً Myelinated بمجرّد خروجه من القناة الفقارية الجانبيّة واحدة من جهة اليمين والأخرى من جهة اليسار.
   وقبل التمادي في الوصف والتوصيف بخصوص الكيفية التي تتكوّن بها الأعصاب الطرفيّة، أود أن أذكر هنا بأنّ الحبل الشوكي ينتهي عند أغلب البالغين (90%) في المستوى الواقع بين الفقرة القطنيّة الأولى والفقرة القطنيّة الثانية، ومن هناك يتحوّل الحبل الشوكي إلى مخروط نحاعي ينتهي في خيط طويل ورفيع يثبّت الجزء السفلي من الحبل الشوكي في عظم العصعص بهدف الإبقاء عليه في موضعه بدون أن يتأثّر بحركة وإنثناءات الجسم. الحبل الشوكي في نهايته المخروطية يرسل ألاف من الألياف العصبية الحركيّة تتشكّل على هيئة ذيل الحصان تسمّى "ذيل الفرس" تكوّن فيما بينها كل الأعصاب التي تغذّي الطرفين السفليين (الأرجل)، وهي كذلك تكوّن ذلك العصب الشهير والمسمّى "العصب النَسَائي" الذي كثيراً ما يتعرّض للضغط عليه من قبل الغضروف الذي ينزلق ما بين الفقرات لسبب من الأسباب فيحدث الكثير من الألم ويسبب ضعف العضلات وضمورها لو بقيت لمدة طويلة بدون تدخّل جراحي يرفع الضغط عنها من قبل العضروف.  
وعودة إلى الحبل الشوكي وعمليّة تشكيل الأعصاب الطرفية، ففي كل مستوى بين فقرتين متجاورتين يخرج عصب طرفي إلى اليمين وآخر إلى اليسار وهما حركيّان، ويأتي عصب من كل جانب هو بمثابة العصب الحسّي.
بعيد ذلك تبدأ الأعصاب تتواصل مع بعضها لتشكّل فيما بينها شبكة مترابطة بشكل غاية في الإبداع والإتقان وهذا بالفعل يعتبر في حساباتنا إنعكاساً لتقدير الخالق وحسن تدبّره، وهذه المنطقة لوحدها تكفي لأن يؤمن الإنسان بوجود الله ويعترف بعظمته.
ومن خلال تلك الشبكات المتركّبة تتكوّن الضفائر العصبية وهي تعتبر بصدق صورة أخرى من صور إبداع الخالق، ولعلّ أهم هذه الضفائر العصبيّة هما الضفيرة العضديّة Brachial Plexus....

 والضفيرة العجز-قطنيّة Lumbo-sacral Plexus والتي يتشكّل منها العصب النَسَائي المشار إليه أعلاه.....

وبعد ذلك بالطبع تتكوّن بقية الأعصاب الطرفية حتى نهاياتها التي تدغم في العضلات وبقية الأجزاء المتحركة في الجسم ويتم هناك نوع آخر من التناغم اللامتناهي في الدقة والإبداع، وسوف أتعرّض إلى ذلك التركيب البديع (العضلات) في الحلقة القادمة بإذن الله.

وقبل أن أنهي هذه الحلقة التي وردت فيها معلومات كثيرة تعتبر دقيقة وربما تحتسب بأنّها مهنية وتخصّصيّة وقد تكون صعبة للإستيعاب بالنسبة للقارئ العادي الذي لا يمتلك خلفية طبية جيّدة، لكنني بصدق حاولت ما وسعت من الجهد بأن أبسّط الأمور إلى حدودها الدنيا بهدف نشر الفائدة للجميع.... أقول، وقبل إنهاء هذه الحلقة دعوني أضيف معلومتين أراهما غاية في الأهمية للمتخصّص على وجه التحديد لكنّهما قد تكونان مفيدتان للمهتم وذلك الذي يعمل على تنويع ثقافته وتوسيع مداركه. 
النقطة الأولى تطرح معلومة ميسّرة جداً وملخّصة لأبعد الحدود تتحدّث عن أنواع الأعصاب الطرفية من حيث الحجم والمقدرة على التوصيل...


والنقطة الأخيرة تتعلّق بتوزيع الأعصاب الصغيرة (شعيرات عصبيّة) تحت الجلد ومدى تواصلها بالحبل الشوكي بطريقة وهندسة فريدة من نوعها بما يسهّل تتبعها إلى مصدرها أو مصبّها  في الحبل الشوكي ممّا يساعد على تشخيص العلّة لتي تعطّلها وتتسبّب في فقدانها للمقدرة على تأدية وظائفها على الوجه المطلوب.
وهذه أمثلة لبعض الأعصاب الطرفية الشهيرة:
وتحيّة عطرة لكم جميعاً على أمل اللقاء ثانية.....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك