2012/04/28

من هي الجهة المسئولة عن الأحداث الأخيرة في بنغازي ؟

 شهدت مدينة بنغازي في اليومين الماضيين (الخميس والجمعة) أحداثاً تعتبر خطيرة
 بالمقاس الليبي ( بالطبع لو قيست بأحداث العراق، أو الصومال، أو أفغانستان فإنّها تعتبر حميدة !).
أحداث الخميس كانت تتركّز على سجن الكويفية حيث هرّب بعض زوّار السجن مسدّسات وأسلحة أخرى منها رمّانات إلى أقربائهم المسجونين، وتمكّنت الشرطة من معرفة المسجونين الذين تحصّلوا على هذه الأسلحة، ومن الطبيعي أن الشرطة تعرّفت أيضاً على أولئك الزوّار الذين هرّبوا هذه الأسلحة.أحداث الجمعة تمثّلت في تفجيرات خطيرة أمام المحكمة الإبتدائيّة تركت دماراً كبيراً في المحكمة وفي الآماكن المحيط بها، لكنّها بحمد الله لم تترك ضحايا من البشر كما علمنا. كانت ردود الأفعال من بعض سكّان بنغازي كلّها تصب اللوم على المجلس الإنتقالي وعلى الحكومة لعجزهما، ولإهمالهما "المتعمّد" لبنغازي !.
أنا والله إستغربت من هذه "الشوفينيا" الجديدة لأهلنا في بنغازي، وهذا البكاء صباح مساء على "أحوال بنغازي التعيسة"، وعلى إهمال الحكومات لها بدءاً بحكومات عهد الطاغية القذّافي، ومروراً بحكومتي الدكتور محمود جبريل والدكتور عبد الرحيم الكيب؛ مع بالطبع تحميل المجلس الإنتقالي في شخص المستشار مصطفى عبد الجليل المسئوليّة الكبرى.  حتى في الدعايات الإنتخابيّة التي تخصّصت قناة "ليبيا الأحرار" بإفراد جلّ وقتها لها حتى خالني بأن قناة ليبيا الأحرار تحوّلت إلى قناة محلّية تمثّل حصريّا وحكريّاً بنغازي من كثرة تركيزها على بنغازي دون غيرها من مدن ليبيا الأخرى بما في ذلك العاصمة طرابلس؛ فما بالك بمدن الجنوب الليبي، ومدن غرب البلاد.  أنا أدعو بهذه المناسبة لأن يتغيّر إسم قناة ليبيا الأحرار إلى قناة "بنغازي الأحرار" حتى يكون الإسم معبّراً عن الواقع.
أنا أريد من أهلنا في بنغازي أن يتوقّفوا عن هذا النحيب على مدينتهم، وأن يتخلّوا عن مرض "جنون الإضطهاد" الذي بدأت أعراضه تظهر وتتضخّم بين سكّان بنغازي لأسباب أظنّها أكبر بكثير من مجرّد "الشعور بالحرمان" !. كما أريد من أهلنا في بنغازي أن يعودوا إلى أنفسهم ليراجعوها بدل وضع اللوم على الآخرين، والخروج علينا في ثياب "المضطهد المسكين" الذي لايجد من يأسف لحاله أو يرأف به. إن الذي حدث في اليومين الماضيين في بنغازي هو إنتاج بنغازينو 100%، ولا علاقة للمجلس الإنتقالي ولا للحكومة الإنتقاليه به الّلهمّ إلاّ من زاوية مسئولية هاتين الجهتين السياديّتين على كل ما يحدث في ليبيا وبنغازي جزءاً منها.
الشرطة تعرف تحديداً من هو المسئول عن كل ما حدث في بنغازي يومي الخميس والجمعة، ويعرفون المسئولين شخصيّاً لكنّهم لم يرغبوا إعلام الليبيّين بذلك لأسباب لا أعرفها لكن بإمكاني تخمينها. هناك أقوال قويّة جدّاً على دراية بما جرى (ليست الشرطة بالطبع) تفيد بأنّ ما حدث في بنغازي أخيراً كان من تخطيط وتدبير وتنفيذ الجماعات الإسلاميّة المتشدّدة التي تنتشر في بنغازي ودرنة تحديداً، والسلفيّون على وجه الخصوص. القضية تتعلّق بقصّة إغتيال الشهيد عبد الفتّاح يونس التي ما زلنا نجهل تفاصيلها لأسباب بوسعنا تكهّنها أيضاً، وسجناء الكويفية المذكورين أعلاه هم ربّما من بين المتّهمين في تلك القضيّة... أمّا بقيّة السيناريو فأتركه للقارئ العزيز ليدلو بدلوه فيه.
مازلنا أيّها السادة والسيّدات نعاني وللأسف من آفة "الأنانيّة" وحب الذات، وما زالت ليبيا كبلد تعاني من إنكار أهلها لها؛ فالكثير منّا وللأسف فكّروا في مدنهم وأنفسهم قبل أن يفكّروا في بلدهم وأهلهم أبناء وبنات ليبيا الحبيبة... وتلك تعتبر مصيبة كبيرة قد تتحوّل إلى مرض عضال من الصعب إجتثاثه من عقول وتفكير الليبيّين.

هكذا كانت بنغازي مهمّشة في عهد الطاغية
هكذا كانت بنغازي مهمّشة في عهد الطاغية
هكذا كانت بنغازي مهمّشة في عهد الطاغية
هكذا كانت بنغازي مهمّشة في عهد الطاغية
هكذا كانت بنغازي مهمّشة في عهد الطاغية
هكذا كانت بنغازي مهمّشة في عهد الطاغية

ملاحظة: الرجاء التفرّج معي على الصور المعروضة أعلاه لتروا بأم أعينكم كم كانت مدينة بنغازي "مهمّشة" في عهد الطاغية القذّافي... هل يوجد في العاصمة مثل ما يتواجد في بنغازي من مبان فاخرة؟. ماذا عن بقيّة المدن الليبيّة... ماذا عن الزاوية، ماذا عن زوارة، وماذا عن الزنتان. ماذا عن غدامس، ماذا عن الكفرة، وماذا عن ودّان. ماذا عن مصراته، ماذا عن البيضاء، وماذا عن الرجبان. ماذا عن درنة، ماذا عن يفرن، وماذا عن غريان. ماذا عن سبها، ماذا عن صبراته، وماذا عن البطنان. ماذا عن العجيلات، ماذا عن غات، وماذا عن صرمان؟.

أليست هذه وغيرها كلّها تعتبر مدناً ليبيّة ومن حقّها أن تحصل على جزء من ثروة البلد؟. لماذا يا أيّها السادة ما زلنا نعيش بمفهوم: عش ودع غيرك يموت؟.
تعالوا معاً لنبني ليبيا بكل مدنها وقراها، ولكلّ أهلها بدون تمييز أو تمايز إلاّ لمن تفوّق في العطاء من أجل الوطن.

2012/04/26

الفرق بين الرشوة والحافز

 الرشوة هي أن تعطي لشخص ما من أجل أن يتحايل على القانون، والحافز هو أن تعطئ لشخص ما بهدف العمل في إطار القانون ومن أجل المحافظة عليه.

يوم الثلاثاء الماضي، وبينما كنت في طريقي متجهاً إلى المستشفى الجامعي بكوفنتري حيث مكان عملي أدرت مؤشّر راديو السيارة فإستقرّ أليّاً على راديو 4 التابع للبي بي سي؛ حيث أنّني في صباح كل ثلاثاء أستمع إلى برنامج إسبوعي رائع في  هذه المحطّة إسمه " علميّة الحياة" للبروفيسور العراقي المولد جيم الخليلي، وهو أستاذ في الفيزياء  التنظيريّة في جامعة سورري جنوب لندن وله أبحاث ومؤلّفات عديدة في مجال تخصّصه.
يقوم البروفيسّور جيم الخليلي بإستضافة عدد من عباقرة العلوم الحياتيّة في مختلف التخصّصات، ويطرح معهم الكثير من القضايا التي تربط حياة البشر بالعلم والتقنية. البرنامج في طبيعته علمي إنفتاحي بشكل كبير، وفلسفي أيضاً، كما أنّه يزخر بالكثير من ملكات الذكاء والإبداع للعقل البشري من خلال العقول التي يستضيفها.

كان برنامج الثلاثاء الماضي عن " الرشوة والحافز.. والفرق بينهما من الناحية العمليّة".... وكان هذه المرّة منقول مباشرة من داخل جامعة عريقة في جنوب غربي بريطانيا، حيث تمّت إستضافة بوفيسّور في "سيكولوجيّة الإقتصاد" حضرته مئات من الخبرات التخصّصيّة المختلقة في مجالات الصحة والتخطيط الصحّي، برمجة إقتصاديّة، مشاريع إستثماريّة مستقبليّة، مشاريع التخطيط العمراني وعلاقته بتنميّة الإقتصاد، وغيرها من التخصّصات المشابهة.

المحاضر كان على قدر كبير من الذكاء وسرعة البديهة بذلك القدر الذي يشعرك وأنت تستمع إليه بأنّه إنسان متفتّح على عالمه المحيط به، ويتفاعل مع عصره الذي يعيش فيه بشكل يوحي إليك بكل سهولة على أن هذا الإنسان هو بالفعل "عبقري" بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة... وفوق كل تلك الصفات التي أجزم بأنّها لم تكن مبالغاً فيها؛ فإنّه كان مرحاً خفيف الظل، وكثير الدعابة ممّا سهّل مهمّة مستمعيه في التفاعل معه بشكل إيجابي وتدافعي.
كان عنوان محاضرته هو: هل يجوز دفع حوافز للذين يعانون من السمنة لينقصوا من أوزانهم ( لتخسيس أنفسهم)؟!!.
تراءى لي في الوهلة الأولى بأن الموضوع يعتبر بسيطاً ولا غرابة فيه (بديهي !) فأجبت عليه في نفسي وأنا أقود سيارتي: إنّها فكرة جيّدة من شأنها بأن توفّر أمولاً كثيرة لوزارة الصحّة، بمعنى أنّه قد يكون إستثماراً في محلّه. فكّرت حينها بعقل طبيب مهتم بصحّة الناس فقلت في نفسي... إن تأثير السمنة على صحة الشخص البدين كبير وخطير مما يؤدّي إلى تعرّضه للكثير من الأمراض الخطيرة التي تستنفذ أغلب ميزانيّة الخدمات الصحيّة وتسحوذ عليها؛ مما قد يحرم المجالات الأخرى التي تعني بشئون صحّة الإنسان ورفاهيّته منها بذلك الشكل الذي ربّما سوف يترك أثاراً سلبيّة من الصعب ترميمها.
قلت في نفسي: نعم من الممكن دفع مبالغ تحفيزيّة للبدينين كي تشجّعهم على التخسيس، وبدأت أفكّر في تعميم الفكرة على التدخين، وشرب الخمر، وتناول العقاقير التي تؤدّي إلى الإدمان. فكّرت في ما أبعد من ذلك ـ وهم بلادي دائماً في عقلي وتفكيري ـ فقلت: نعم.. يمكن عمل الشئ نفسه لتشجيع الناس على القيادة (قيادة السيّارات) الآمنة ممّا سوف يقلّل لا محالة من نسبة الحوادث بحيث يمكننا في ليبيا المحافظة على أرواح أهلنا التي تضيع رخيصة هكذا وبدون أسباب جوهريّة. قلت أيضاً: بالإمكان إستخام هذه الفكرة ـ فكرة الأموال التحفيزيّة ـ لإقناع الميليشيات المسلّحة بالتخلّص من أكداس الأسلحة مما يحمي بلادنا من شرورها.
مرّت كل هذه الأفكار في خيالي بينما كان البروفيسّور يلقي مقدّمته السريعة وهو يتحدّث عن الفرق بين الحوافز والرشاوي وعلى أن ما يفصل بينهما أحياناً قد يكون شعرة رفيعة بحيث تتراكب هذه المواضيع على بعضها في كثير من المجالات. أيقظني المحاضر من سروحي حين قدّم سؤالاً لجموع الحاضرين بهدف إشراكهم في المحاضرة بطريقة أعجبتني جدّاً.
تبيّن لي حينها بأن الموضوع أكثر تعقيداً، وأكثر عمقاً ممّا توقّعت؛ فأحسست بأنّني ربّما تعاملت مع الموضوع بكثير من السطحيّة... فوراء مثل هذا السؤال "الفلسفي" تقبع ربما مؤلفات من الكتب، وبحور من الأفكار والآراء.
كما سبق لي وأن قلت في هذا المقال بأن المحاضر كان ذكيّاً وسريع البديهة وبدون شك يمتلك الكثير من الخبرة في مجال التحاضر.. فهو في واقع الأمر بمجرّد إنهاء مقدّمته القصيرة جدّاً توجّه إلى الحضور وطلب منهم الإجابة على سؤال محاضرته حسب مفاهيمهم وتصوّراتهم. إنقسم الحاضرون إلى طائفتين... واحدة كانت مع دفع الحوافز لزائدي الوزن كي ينقصوا من أوزانهم، وطائفة كانت ضد الفكرة. تلك كانت مفاجأة بالنسبة لي؛ فالذين وافقوا على الفكرة ظننتهم من الواقعيّين مما شوّقني بدون شك للإستماع لأراء الطرف الآخر (المضاد). ما زاد من مفاجأتي هو أن المضادّين للفكرة كانوا هم الأغلبيّة !. أعلن المحاضر ذلك بدون تعليق أو إستنتاجات، بل إنّه على الفور طلب من أحد المضادّين للفكرة بأن يقول للبقيّة لماذا إعترض هو على الفكرة. تحدّث رجل، ثم تحدّثت إمراءة ( طبيبة أخصائيّة) كأطراف مضادّة، وقال كل منهما رأيه ففتح تفكيرهم في عقلي أفاقاً جديدة وأبعاداً لم أتصوّرها. قالت الطبيبة الأخصائيّة مدافعة عن رأيها المضاد لدفع حوافز: أنا ضد الفكرة لأنّ دفع المال للناس من أجل إنقاص الوزن يعتبر إهانة وخدش لكرامة الإنسان ( لم أفكّر بذلك المستوى الإنساني الرّاقي !). وقف بعد ذلك أحد الموافقين على فكرة دفع الحوافز ـ وهو خبير إقتصادي ـ ليرد على الطبيبة الأخصائيّة بأن زيادة الضرائب على بعض المواد الضارة بالصحّة كالخمر والسجائر يهدف إلى دفع الناس للإقلاع عن تناول هذه المواد الضارة بالصحة فهل يعتبر هذا رشوة ولكن بطريقة إيهاميّة... مضيفاً: فكيف نرضى بأن تدفع لنا رشاوي لترك التدخين والإقلاع عن شرب الخمر، لكنّنا لا نرضى بأن تدفع لنا حوافز للتخلّص من السمنة؟. قلت في نفسي حينها بأن الإنسان يظل يتعلّم إلى أن يموت !.
 تواصل النقاش التسلسلي بعد ذلك بشكل إستحسنته بكل إهتمام فقد بدأت النقاشات الجانبيّة المنظّمة، وإسترسلت الأفكار واحدة تفتح الباب لأخرى بعدها، وسرعان ما دخل النقاش في متاهات فلسفيّة موغلة في العمق؛ فتراءى لي حينها بأن هذه الحلقة سوف لن تنتهي أبداً.
بطبيعة الحال سرعان ما إنتهت رحلتي الصباحية إلى محطّة وقوف السيّارت بالمستشفى، ولم يبقى أمامي إلاّ أن أحرم نفسي من الإستماع إلى نهاية تلك المحاضرة الشيّقة، فقمت متردّداً بتوقيف محرّك السيّارة وخرجت منها غير راض عن نفسي مع أنّني أعشق مهنتي وأحب عملي.

في طريقي من محطة وقوف السيّارات إلى مدخل المستشفى وأنا أسترجع ما سمعته في ذلك الصباح قلت في نفسي: إن الهوّة بيننا وبين هؤلاء الناس في طريقة التفكير والتعاطي مع الأشياء تعتبر كبيرة جدّاً، وإنّ هناك فرق كبير بين المتعلّم والمثقف وهذا بدون شك يحدّد مستوى الإدراك، ومستوى التعاطي مع الأشياء، ومستوى التعامل بين الناس. قلت في نفسي أيضاً: ربّما تصل مستويات التعليم في بلادنا إلى 86%، لكن مستوى المثقّفين الحقيقيّين لا يتعدّى 5% من مجمل المتعلّمين حسب إعتقادي... وهذا هو الفرق الجوهري بيننا وبينهم.   

2012/04/14

كيف نبنى دولة على متناقضات ؟

كل فرد منّا يولد إنساناً قبل أن يكون عربيّاً أو أعجميّا، وقبل أن يكون مسلماً أو نصرانيّاً... .وقبل أن يكون متعلّماً أو أميّا.

قال الخليفة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً، وظل هذا القول "الصارم" من أمير المؤمنين ( رئيس الدولة) الذي خرج إلى العلن في وقت لم يكن فيه ميثاق حقوق الإنسان قد صدر، ولم تكن فيه منظّمات حقوق الإنسان قد تشكّلت، ولم يكن فيه مكان لتنظيمات المجتمع المدني كما نعرفها اليوم مع أنه كانت توجد جماعات تعني بالدفاع عن حقوق الناس، ورد المظالم، والدفاع عن المظلومين.

نعم... فكل منّا يولد حرّاً غير مكبّل بأية إلتزامات مهما كان نوعها اللهم إلاّ ما كان يدخل في خواص الإنسان التي وضعها الله في حامضه النووي والتي وإن كانت تختلف بين هذا وذاك إلاّ أنّها في مجملها ترسم الشخصيّة الإعتباريّة لكل مخلوق بشري، وما الإختلافات بين البشر إلا واحدة من حكم الله سبحانه وتعالى حتى يتسنّى لنا معشر البشر تعلّم طرقاً للتعايش فيما بيننا وبذا يظل المخلوق الإنساني مترابطاً مع بيئته والمجتمع الذي يعيش فيه حفاظاً على غريزة البقاء.

الحياة كما نعرف هي في حركة دائمة، وهي تسير في إتجاه واحد... أي إلى الأمام، والأمام فقط. كل شئ في هذا الكون الذي يحيط بناء يتحرّك بدءاً من الذرّة ومروراً بالجبال الشامخة وإنتهاء بالكواكب والنجوم العملاقة. قطار الحياة يسير إلى الأمام ونحن وغيرنا من المخلوقات الأخرى نركبه بدون أن نعرف وجهته، وبدون أن نعرف زمن الرحلة، وبدون أن نحدّد نحن ساعة الوصول إلى مبتغانا؛ لكنّنا بدون شك نشارك في رسم خريطة الطريق... برنامج الرحلة. رحلتنا في الحياة هي حدث لا يتكرّر، وهي رحلة اللاّ عودة، وهي في واقع الأمر رحلة ذهاب بلا عودة، وهي بدون تذاكر.

إذاً..... والحالة هذه يمكننا القول بأنّنا مرغمين على السير قدماً في هذه الحياة، والتوافق معها في سيرانها لأنّنا إن لم نفعل ذلك فإنّنا سوف ننتهي قبل الآوان. فكما أن المسافر في أي مكان من العالم يتعلّم الكثير من الخبرات الحياتيّة والإجتماعيّة في رحلته، فإنّنا أيضاً نتعلّم الكثير في رحلتنا الحياتيّة.

نتعلّم كيف نتنفّس، ثم كيف نشرب، ثم كيف نبكي للتعبير عن رغباتنا في بادئ الأمر إلى أن نتعلّم كيف نفعل ذلك بأساليب أكثر "حضاريّة" حين نتمكّن من إستيعاب وإستعمال لغة التخاطب مع الغير. نتعلّم لغة الإشارة أوّلاً، ثم لغة المحادثة، ثم لغة الكتابة ومدارسنا التي نتعلّم منها هذه "اللغات" هي "البيوت"... بيوت "المربّين ( والدين، إخوة، جيران، حاضنين، رعاة، وغيرهم). اللغة التي نتعلّمها بطبيعة الحال هي لغة المربّي، ولغة البيت، أو لغة المكان.

وكما أنّنا لا نختار أسمائنا، فإنّنا حتماً لا نختار اللغة التي تلقّن لنا بهدف التعلّم. نحن لا نختار اللغة التي نتعلّمها، لكنّنا نلزم بتعلّمها وهذا النوع من الإلزام نادراً ما نندم عليه في حياتنا.

بعد أن نتعلّم اللغة، نتعلّم القيم الإنسانيّة الأساسيّة في البدء، ثم المنقّحة بعد ذلك. قيمنا الأساسيّة تكون في العادة قيم عموميّة، لكن قيمنا المنقّحة كثيراً ما تكون قيم خصوصية؛ وهي التي تحدّد شخصيّتنا فيما تبقّى من حياتنا. نحن نتعلّم قيمنا العموميّة برغبتنا، لكن قيمنا الخصوصيّة تفرض علينا من طرف من يقوم بتربيتنا، وبحكم البيئة والمكان الذي نعيش فيه. بمعنى... أن كل فرد منّا يولد إنساناً كبقيّة البشر، لكنّه يتعلّم فيما بعد كيف يكون عربيّاً، وكيف يكون مسلماً أو نظائر كل منهما بما يتوفّر في بيئتنا المحيطة.

إذاً... والحالة هذه أيضاً، فإنّه من حق كل منّا بأن يتساءل: لماذا لا نتعامل مع بعض كبشر(عولمة)؛ بدل أن نتعامل كقوم بلغة واحدة (قوميّة)، أو كطائفة بإعتقاد واحد (دين)؟. قال الله تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}، وقال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ}وهنا نلمس "التهديد" من الله "لقضي بينهم" ذلك لأن الله لا يريد من البشر بأن يتفرّقوا بسبب "الْعِلْمُ" وهو العلم بالشئ (الدين) وليس العلم الذي نتعلّمه في حياتنا. إذاً.. من هنا نرى بأن الناس تفرّقوا فقط بسبب الإعتقاد "الدين"، ولم تفرّقهم خواصّهم كبشر.


عدد كبير من النواب السلفيين غابوا عن حضور جلسة البرلمان، بسبب الوقوف دقيقة حداد على روح البابا شنودة ، وخروج من كانوا موجودين منهم أثناء الحداد.

ذكر الله لنا هنا بأن سبب الإختلاف بيننا هو "الدين" وليس اللغة، والسبب أن اللغة هي وسيلة للتواصل - مهما كانت طبيعة وشكل هذه اللغة - والناس دائماً يبحثون عن أية وسيلة للتواصل ولو كان ذلك بإستخدام لغة الإشارة أو الرسومات أو الأشكال. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.

كذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى أرادنا أن نختلف في اللغة وأن نتفق في الإعتقاد.. فقد قال الله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَ‌ٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}، وقال: { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}؛ فنحن على إختلاف لغاتنا ولهجاتنا نلتقي ونتواصل، لكنّنا رغم اوامر التوحّد لنا من ربّنا فإنّنا ما زلنا نتفلسف في تفسيراتنا للدين ونبحث عن كل إختلاف بيننا حتى نجد مدعاة للتقاتل من أجل ذلك الإختلاف؛ وإلاّ لماذا قسّم الإسلام إلى هذه المذاهب والشيع والمدارس الفقهيّة التي تتناحر فيما بينها؟.

لو أن الذين ينصّبون من أنفسهم حماة للدين ومدافعين عنه تركوه لحاله، لكان الإسلام إنتشر في جميع أنحاء المعمورة، ولكان آمن به كل إنسان على وجه الأرض.

التناقض في سلوكيّاتنا

لا عيب في أن يختلف البشر فيما بينهم، لكن العيب في أن تتحوّل هذه الإختلافات إلى أسباب للتناحر. قال رسول الله فيما روي عنه: إن إختلاف أمّتي رحمة فيما بينهم... فهل تعلّمنا كيف نحوّل الإختلاف إلى رحمة؟.

نحن في أمسّ الحاجة لأن نتعلّم كيف نتحاور، وأن نتعلّم فن الإصغاء للغير إن كنّا بالفعل نبحث عن ذواتنا في أنفسنا.

المشكلة التي تعاني منها شعوب العالم الثالث – وليبيا من بينها – تكمن في تفشّي الأنانيّة وحب الذات... في تضخّم علّة الأنا وإنتشارها الكبير، فهذه العلّة برهنت على أنّها معدية وبشكل كبير، وهي وللأسف سريعة الإنتشار بين الناس في بلاد العالم المتخلّف؛ والسبب ربما يعود إلى إنحدار المستويات الإنسانيّة بداخلنا بما فيها القيم والأحاسيس.

ألا يوجد بيننا من يكذب ويصر على الكذب؟. ألا يوجد بيننا من يقسم بأغلظ الإيمان فإذا بنا نكتشفه يكذب في أبسط الأمور؟. ألا يوجد بيننا من يصوم ويصلّي... ثم يلتحي الرجل، وتتحجّب المرأة فإذا بنا نكتشف بأن كل ذلك كان بهدف جني ثمار دنيويّة؟.
كنت أتردّد على لحّام (جزّار) يبيع اللحم الحلال، وما أن تدخل محلّه حتى تتناهى إلى أسماعك كلمات الله من جهاز في محلّه يقرأ القرآن المجوّد تباعاً، وتجد على جدران محلّه أيات من القرآن أو صور الكعبة مما يوحي إليك بأنّه تقي وورع . كان ذلك هو الإحساس الذي إنتابني، وكان ذلك هو الإنطباع الذي إختمر في تفكيري عن صاحب هذا المحل في بادئ الأمر، إلى أن أكتشفت يوماً بأنّه كان قد عمل تغييراً في حاسبته الإليكترونيّة كي تضيف جنيهاً لكل معاملة بدون أن تشعر بها. حين تجمع الأرقام الموجودة على واصل المبايعة تجدها متطابقة تماماً لما يطلب منك دفعه، لكنّني إكتشفت الحيلة يوماً حين حسبت ما إشتريت فإكتشفت الخطأ وعندما واجهته أرجع لي جنيهاً بدون أدنى علامات التأسّف أو الإحساس بالذنب. 
الإسلاميّون (الإخوان، السلفيّون، والفصائل المتشدّدة الأخرى بما فيها الجماعة الليبيّة الإسلاميّة المقاتلة) كلّهم بدون إستثناء لا يؤمنون بالديموقراطيّة، ولا يعترفون بالدولة المدنيّة، ولا توجد صناديق الإقتراع في أدبيّاتهم لكنّنا نراهم الآن وهم يتسابقون على تشكيل الأحزاب، بل إنّنا نجدهم يبعدون كلمة "الإسلاميّة" من أسماء أحزابهم، كما نسمعهم يتحدّثون عن الدولة المدنيّة ويقولون صراحة بأنّهم من دعاة هذا الخط السياسي؛ ولكن حين فاز إخوان مصر نشاهدهم الآن وهم مازالوا في شهر العسل فإذا بهم بدأوا يعبثون بالأصول الديموقراطيّة رويداً رويداً، ووجدنا منهم السارق ( عضو حزب نور الذي سرق 100 جنيه مصري وطرد من الحزب على تلك الخلفيّة المخجلة !)، وسوف نكتشف كل خدعهم في المستقبل القريب حين يعمدون إلى تغيير الدستور بما يمكّنهم من إقامة "دولة الخلافة" التي يحلمون بها، وحينها سوف يصبح إلغاء جميع أسس الديموقراطيّة العصرية لزوم الواقع المستحدث.

علينا أن نكون على بيّنة من أمرنا، وأن لا يغفّلنا هؤلاء بأساليبهم المراوغة فهم شئنا أم أبينا، وسواء إعترفوا بها أو أنكروها ينتمون قلباً وفكراً إلى تنظيم الإخوان المسلمون الذي لا ينتمي إلى ليبيا، ولا يقر في أدبيّاته بإنتماء العضو لدولته القطريّة، وعلى عضو الجماعة أن يغلّب إنتمائه التنظيمي على إنتمائه الوطني ذلك لأن التنظيمات الإسلاميّة لا تؤمن بالدولة من حيث الأساس... خاصة إذا كانت هذه الدولة مدنيّة عصريّة تؤمن بالديموقراطيّة وتطبّقها.

2012/04/06

ليبيا بعقولها وليس ببترولها

ثروة ليبيا الحقيقيّة تكمن في أدمغة أبنائها وليست في نفط أبارها، وحضارة الدول تقاس بعقول وتفكير أناسها.... فالبشر هم من يفكّر في التغيير ويصنع المستقبل

حين خرج علينا مجموعة من الليبيّين فجأة وهم يعلنون "برقة" ككيان مستقل بكل توابع ذلك الإعلان من إستدعاء سفراء دول وقناصلة، وكذلك تشكيل مجلس وطني وتعيين رئيساً له بما يمثّل ذلك من خروج كلّي على شرعيّة الدولة الليبيّة؛ قالوا بأنّهم إنّما فعلوا ذلك بهدف إنشاء نظام فيدرالي في ليبيا يقضي على المركزيّة ويوفّر الخدمات للناس. الرؤوس التي خطّطت لهذا المشروع لم تفعل ذلك كرد فعل لممارسات معيّنة، ولم تقدم على ما فعلت بهدف تحسين الخدمات للناس؛ ذلك لأن كل واحد منهم يعرف يقيناً بأن ليبيا تمر بمرحلة حكم إنتقالي مؤقّت بعد القضاء على نظام حكم الطاغية القذّافي الذي حكم بلادنا لأكثر من 42 سنة بتفكير أحادي وبأسلوب ديكتاتوري قد يندر العثور على شبيه له.

نظام حكم القذّافي كان مرتكزاً في الأساس على نظريّة أمنيّة همّها الأوّل والأخير هو تمكينه من البقاء في الحكم لأطول مدّة ممكنة، ولا أدري إن كان يفكّر في البداية لتوريث نظام حكمه لأبنائه أم لا، لكنّنا عرفنا لاحقاً بأن كل ممارساته كانت تصب في ذلك الإتجاه.

الثقافة الأمنيّة والطموحات الفرديّة كانتا جوهر نظرية الحكم في عقل وتفكير الطاغية القذّافي، وبذلك فقد عمد على تكريس ذلك الأسلوب في طريقة حكمه فركّز كل أجهزة وأليّات الحكم حول شخصه؛ ومن هنا كان الطاغية القذّافي هو من أوجد "المركزيّة" المطلقة في ليبيا، وكان هو من حرم كل المدن الليبيّة من الخدمات وحوّل المواطن الليبي في كل أنحاء ليبيا إلى "مكافح" أو "مكابد" من أجل توفير أدنى متطلّبات الحياة اليوميّة له ولأفراد أسرته بدءاً بالمأكل وإنتهاء بالسفر.

مشكلة الدولة في ليبيا في عهد الطاغية القذافي لم تكن فقط في تركّز سفارات الدول في العاصمة طرابلس، ولم تكن في وجود مركز واحد للجوازات في طرابلس، ولم تكمن في إضطرار أبناء الشعب الليبي في كل أنحاء البلاد للسفر مئات الكيلومترات من أجل الحصول على شهادة حسن السيرة والسلوك، أو من أجل تقديم طلب للحصول على وظيفة. المشكلة كانت في كل شئ بسبب تلك المركزيّة المطلقة التي حكم بها الطاغية القذّافي ليبيا؛ ولكن يظل الإنطباع هو نفس الإنطباع...

برغم كل ذلك، وبرغم كل تلك العقود الأربعة من المعاناة رضى الليبيّون بما قذف إليهم من فضلات موائد القذّافي، وقبلوا مصيرهم تحت سلطته فلم يخرج الليبيّون إلى الشوارع للمطالبة بحقوقهم لأكثر من 42 سنة من سنوات حكمه البغيض، فما بالك ببعض منهم يعقد مؤتمراً مفتوحا يدعو له سفراء وممثلي دول العالم ليعلن من خلاله على الملأ خروج برقة على الشرعيّة الوطنيّة بطريقة أساءت لأكثر من 95% من أبناء الشعب الليبي. قال أولئك الذين كانوا متحمّسين للمشروع بأنّهم إنّما فعلوا ذلك بهدف القضاء على المركزيّة، وبأنّهم لم يكونوا يسعون لفصل برقة عن بقيّة الدولة الليبيّة. أين كان هؤلاء ومن يؤمن بطريقة تفكيرهم كل تلك ال42 سنة حيث كان المواطن في ليبيا – في كل ليبيا - يعاني من المركزيّة المطلقة؟.

حين هاجم أغبياء تنظيم القاعدة مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر 2001 كان تفكير قادة القاعدة حينها وعلى رأسهم أسامة بن لادن هو "القضاء على أمريكا" ظانّنين بأن ثروة أمريكا تكمن في سوق أسهمها وإذا تمكّنوا من تدمير مركز التجارة العالمي فإنّهم بذلك سوف يدمّرون الإقتصاد الأمريكي وبذلك يمكنهم إرغام أمريكا على الركوع والخضوع لمطالبهم التي قالوا إنها كانت تهدف إلى إعادة حقوق الشعب الفلسطيني التي تعدى عليها الصهاينة بمساعدة أمريكا.

دُمّر مركز التجارة العالمي، وأصيب سوق الأسهم الأمريكي بإنتكاسة غير مسبوقة مازال يعاني منها الإقتصاد الأمريكي ( وبناء عليه االإقتصاد العالمي) إلى يومنا هذا؛ ولكن هل أجبرت أمريكا على الركوع أو السجود أو حتى سماع ملا تريد أن تسمعه؟.

بالطبع لم يتغيّر في أمريكا شيئاً يذكر أكثر من بعض التنغيصات، وبالطبع ظلّت أمريكا سيّدة للعالم الحديث وقائدة له بدون منازع..... لماذا؟. لأن أمريكا بنت مجدها على عقول أبنائها ولم تبنيه على ثروة حقول النفط أو مردودات التجارة. بوسع أمريكا أن تبني نفسها من جديد في أي وقت لأن ثروة أمريكا تكمن في عقول أهلها وليس في نفط أبارها.

يبدأ تاريخ الولايات المتحدة منذ عام 1783 حين تمكّن الأمريكيّون من هزيمة المستعمر الإنجليزي في حرب تحريريّة إستمرّت لأكثر من 10 سنوات، وقد خرج الأمريكيّون من هذه الحرب برقعة محدودة من الأرض قوامها 13 ولاية وبقوة بشرية لا تزيد على الأربعة ملايين؛ فكانت تلك هي النواة التي نمت بسرعة هائلة لتصبح أعظم قوة في العالم وأغناها في خلال 150 عاما، وظلّت تحتفظ بهذا الزخم لأكثر من 8 عقود من الزمن لم تشرف على نهايتها بعد... بل في حقيقة الأمر لم تقترب منها على الإطلاق برغم تفجيرات تنظيم القاعدة الظلامي.

بدأت الولايات المتحدة التي تم إعلانها في عام 1776 في التوسّع تدريجيّاً فإشترت حكومتها لويزيانا من فرنسا عام 1803، وإستولت على فلوريدا من إسبانيا عام 1819، ثم ضمّت تكساس من المكسيك في عام 1848؛ فإستطاعت بذلك وخلال فترة زمنية قصيرة أن تتحوّل من دولة صغيرة متشرنقة على سواحل المحيط الأطلسي إلى إمبراطوريّة كبرى تسيطر على المحيطين الأطلسي والهادئ، وبدأت اتحادا كونفيدراليا قبل أن تتحوّله إلى فيدرالي.... أي أنّها بدأت في بناء نفسها بالإندماج وليس بالتقسيم.

يبدأ الدستور الأمريكي ( وهو أقدم دستور مكتوب على وجه الأرض) بالعبارة التالية: {نحن، شعب الولايات المتحدة ؛ وحتى نشكّل وحدة متكاملة ويتم العدل ونضمن الامن القومي ونحقّق حماية عامة، ونبني مستقبلا جيّدا نؤمّن من خلاله الحرية لانفسنا؛ فإنّنا نتبنى هذا الدستور للولايات المتحدة الأمريكية}.... قال الأمريكيّون منذ أكثر من قرنين من الزمان: وحتّى نشكّل وحدة متكاملة ... أي أن الأمريكيّين كانوا يطمحون إلى الوحدة ويحلمون بها حين أسّسوا دولتهم، ومازال هذا الحلم يراود الأمريكيّين رغم أنّهم الآن في بحبوحتهم ليسوا محتاجين إلى إتخاذ تلك الخطوة حيث أن نظام الحكم مهما كان نوعه ما هو إلاّ وسيلة لتحقيق الرخاء، وحين يجد الأمريكيّون أنفسهم في حاجة لإعلان وحدة وطنيّة سياسيّة فإنّهم سوف يعلنوها؛ فهم بدون شك متوحّدون إجتماعيّاً ويكفي أنّك حين تتقابل مع أي أمريكي ومن أية ولاية أمريكيّة وتسأله من أين أنت؛ فإنّه يقول لك بدون أدنى تردد – بل وبكل فخر - : أنا من الولايات المتحدة الأمريكيّة.

في المقابل قام الإتحاد السوفييتي على إتحاد 15 جمهوريّة، وقامت يوغوسلافيا على إتحاد 5 جمهوريّات ولكن في أقل من قرن من الزمان تشتت تلك الكيانات، وتشرذمت كل من تلك الدولتين إلى كيانات صغيرة لم يعد لها وزن إجتماعي أو إقتصادي في عالم اليوم؛ ذلك لأن تلك الوحدات كانت قد قامت بالقوّة، وكان قد حافظ عليها النفط والجيش وما إن تدهور الإقتصاد وضعف الجيش حتى تمرّد الناس فأعلنوا الإنفصال تلو الإنفصال إذ لم تقم تلك الكيانات الإصطناعيّة بأية محاولة جديّة لبناء الإنسان؛ بل إنها إعتمدت على مصادر الثروة الموجوده في باطن الأرض لبناء دولة من الكتل الخرسانيّة والميادين الواسعة (العمران) ففشل المسعى.

إن قوّة وحضارة وعراقة كل بلد لا تقاس بمقدار ثرواتها الطبيعيّة وإنّما تقاس بثرواتها البشريّة كيفاً لا كمّاً؛ فالثروة المكنوزة تحت الأرض غير متجدّدة لكن ثروة البشر تظل متجدّدة إلى أن تنتهي الحياة الدنيا. إن الثروات الطبيعية أوجدها الله للبشر بقدر محسوب بهدف أن يتسفيد منها الإنسان في بناء نفسه ومستقبله... فالثروة لوحدها لا تبني المجد ولا تصنع التقدّم.

موقع ليبيا بين بعض دول العالم الغنيّة من حيث معدّل دخل الفرد السنوي الإحصائي

تنتج السعوديّة 9.7 مليون برميل من النفط يوميّاً ( هناك من يقول 10.3) وحساباً بالسعر الحالي للنفط والذي يبلغ في المتوسّط 117 دولار للبرميل فإن مدخولات السعودية اليومية من النفط فقط تبلغ 1.13 بليون دولار أمريكي، أي ما يعادل 412 بليون دولار في السنة.... ماذا حقّقت السعودية بهذه الأموال.

لو قمنا بمقارنة السعوديّة بإندونيسيا وماليزيا مثلاً من حيث مقدار التقدّم الذي حققته كل منها فإننا سرعان ما نلاحظ وجود فروقاً شاسعة بيّن هذه الدول الثلاث في كل مناحي الحياة. فبينما يبلغ الدخل السنوي للسعوديّة للفرد ( الدخل السنوي مقسوماً على عدد السكّان) 22,500 دولار أمريكي، يبلغ هذا الدخل في ماليزيا 14,600 دولاراً، ويبلغ في إندونيسيا 4,293 دولاراً فقط. لماذا إذاً حقّقت كل من إندونيسيا وماليزيا ثورة صناعية باهرة بينما مازالت السعودية تستورد حتى "الشماغ" من الخارج؟. الإجابة على مثل هذا السؤال قد تحتاج إلى مجلّدات لكنّني قد ألخّصها في عبارة واحدة تقول: إن ثروة أي بلد في العالم إنّما هي ثروة بشريّة بالدرجة الأولى قبل أن تكون ثروة تأتي عن طريق مصادر طبيعيّة غير متجدّدة.

إنّ قيمة الإنسان تكمن في الثروة التي يصنعها وليس في الثروة التي يرثها.... فالأولى متجدّدة والثانية فانية إن لم يتم إستثمارها.
أما بالنسبة لإخوتنا الليبيّين الذين يتحدّثون عن النفط والحرمان من الثروة، وبأن إنتاج النفط الليبي يأتي كلّه من شرق البلاد، وبأن أهالي الشرق لا يستفيدون من ثروات مناطقهم، وبقيّة تلك الأفكار والمعتقدات الضحلة والقصيرة النظر حتى الغشيّ فإنّني أود أن أذكّرهم بهذه الحقائق: يبلغ إحتياطي ليبيا المؤكّد ( حسب عام 2010) من النفط 47 بليون برميل من المتوقّع أن ينضب خلال 76 سنة ( هناك تقديرات علميّة قويّة تقول خلال 40 سنة) لو أن وتيرة الإنتاج بقيت مستقرّة بمقدار 1.7 مليون برميل يوميّاً. في المقابل يبلغ إحتياطي السعودية المؤكّد 264.52 بليون برميل من المتوقّع بأن ينضب خلال 81 سنة بوتيرة إنتاج يومية تبلغ 8.9 مليون برميل يوميّاً، في حين يبلغ إحتياطي فنزويلاّ من النفط 296.5 بليون برميل من المتوقّع نضوبه خلال 391 سنة بوتيرة إنتاج حاليّة مقدارها 2.1 مليون برميل يوميّاً.

قال "أبوبكر بويرة" وهو من أكبر المنادين بتقسيم ليبيا إلى ثلاثة مناطق مستقلّة يجمعها "إتحاد فيدرالي" بأن حركته قد تلجأ إلى توقيف تدفّق إمدادات النفط اذا تقاعست الحكومة المركزية عن تلبية مطالب حركته الإنفصاليّة لمنحها المزيد من المقاعد في الجمعية الوطنية. يطالب بويرة ومن يقف معه بعدد ثلث أعضاء المجلس الوطني المقترح على إعتبار أن عدد سكّان المناطق الشرقيّة التي سوف تتكوّن منها دولة برقة المستقبلية يبلغ مليوني نسمة... أي ثلث عدد سكّان ليبيا. إذا كانت هذه الأرقام صحيحة فإن السيّد أبوبكر بويرة قد يكون محقّاً فيما يتعلّق بالتمثيل في المجلس الوطني إذ أنّني أشاركه الرأي بأن يكون التمثيل مبنيّاً على عدد السكّان وليس على الرقعة الجغرافيّة؛ فالبشر هم من سوف يستخدم خيرات البلد وثرواتها لبناء أنفسهم وبناء بلدهم.


إن المطالبة بالعدل يجب ألاّ تدفع إلى إحداث الظلم أو التشجيع عليه وإلاّ فإنّها سوف تتحوّل إلى نفاق. من حق كل الليبيّين في جميع أنحاء ليبيا أن يطالبوا بالعدل ( ليس بالضرورة بالمساواة، فالفرق بين العدل والمساواة قد يكون كبيراً)، ومن حق جميع سكّان ليبيا أن ينعموا بخيرات بلادهم بكل عدل وبدون منّة من أحد، لكن مثل هذه الأمور تأتي بالممارسة الديموقراطيّة من خلال صناديق الإقتراع وليس من خلال فرض الأمر الواقع بقوّة الترهيب وبلغة العنف.


ليبيا أيّها السادة والسيّدات غنيّة بأهلها، وبالمتعلّمين من أبنائها وبناتها فعلينا أن نبحث عنهم ونمكّنهم من بناء ليبيا الحديثة والعصريّة وهذا لن يتأتّى بفرض الأمر الواقع، ولا بتطبيق منهجيّات معيّنة تنادي بها مجموعة أو طائفة من أبناء المجتمع؛ بل إنّها تتحقّق من خلال مشاركة كل الليبيّين والليبيّات بدون إستثناء وبدون إقصاء وبدون تغوّل فئة على أخرى في بناء بلدهم والتمتّع بخيراتها.

وختاماً... أودّ أن أهمس في أذان أخوتي وأخواتي أبناء ليبيا - بدون إستثناء - بأن طرابلس عاصمتنا تحتضن بين أركانها ما يقارب 1.7 مليون ساكن أي ما يزيد قليلاً عن ربع سكّان ليبيا كلّها، وهؤلاء كما نعرف ينحدرون من جميع مناطق ليبيا... (من شرقها، ومن غربها، ومن شمالها، ومن جنوبها)؛ وبذا فهم يعكسون فسيفساء التنوّع السكّاني في ليبيا. طرابلس تفخر بأنّها تمثّل شعاعاً حضاريّا ينير طريق كل الليبيّين في كل ربوع وطننا، ذلك لأنّ طرابلس تقيم فيها أغلب العقول الليبيّة المبدعة التي تمثّل أغلب كفاءات الوطن؛ وهذا لا يجب إعتباره إنتقاصاً من قدرات بقيّة سكّان ليبيا، بل إنّه - وبكل قوّة - يعتبر دفعاً لعجلة التقدّم والنمو في ليبيانا الحبيبة.... لماذا إذاً هي الدعوة إلى التقسيم، وماذا سوف يحقّق لكم النفط يا من تنادون بالإستحواذ على نفط ليبيا وحصر الإستفادة منه في داخل حدود دولتكم المزمع تأسيسها؟.

أعيد وأقول... إن ثروة البلد تكمن في عقول أبنائها، وليس في بترول أبارها إن كنتم تعقلون.