2012/04/26

الفرق بين الرشوة والحافز

 الرشوة هي أن تعطي لشخص ما من أجل أن يتحايل على القانون، والحافز هو أن تعطئ لشخص ما بهدف العمل في إطار القانون ومن أجل المحافظة عليه.

يوم الثلاثاء الماضي، وبينما كنت في طريقي متجهاً إلى المستشفى الجامعي بكوفنتري حيث مكان عملي أدرت مؤشّر راديو السيارة فإستقرّ أليّاً على راديو 4 التابع للبي بي سي؛ حيث أنّني في صباح كل ثلاثاء أستمع إلى برنامج إسبوعي رائع في  هذه المحطّة إسمه " علميّة الحياة" للبروفيسور العراقي المولد جيم الخليلي، وهو أستاذ في الفيزياء  التنظيريّة في جامعة سورري جنوب لندن وله أبحاث ومؤلّفات عديدة في مجال تخصّصه.
يقوم البروفيسّور جيم الخليلي بإستضافة عدد من عباقرة العلوم الحياتيّة في مختلف التخصّصات، ويطرح معهم الكثير من القضايا التي تربط حياة البشر بالعلم والتقنية. البرنامج في طبيعته علمي إنفتاحي بشكل كبير، وفلسفي أيضاً، كما أنّه يزخر بالكثير من ملكات الذكاء والإبداع للعقل البشري من خلال العقول التي يستضيفها.

كان برنامج الثلاثاء الماضي عن " الرشوة والحافز.. والفرق بينهما من الناحية العمليّة".... وكان هذه المرّة منقول مباشرة من داخل جامعة عريقة في جنوب غربي بريطانيا، حيث تمّت إستضافة بوفيسّور في "سيكولوجيّة الإقتصاد" حضرته مئات من الخبرات التخصّصيّة المختلقة في مجالات الصحة والتخطيط الصحّي، برمجة إقتصاديّة، مشاريع إستثماريّة مستقبليّة، مشاريع التخطيط العمراني وعلاقته بتنميّة الإقتصاد، وغيرها من التخصّصات المشابهة.

المحاضر كان على قدر كبير من الذكاء وسرعة البديهة بذلك القدر الذي يشعرك وأنت تستمع إليه بأنّه إنسان متفتّح على عالمه المحيط به، ويتفاعل مع عصره الذي يعيش فيه بشكل يوحي إليك بكل سهولة على أن هذا الإنسان هو بالفعل "عبقري" بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة... وفوق كل تلك الصفات التي أجزم بأنّها لم تكن مبالغاً فيها؛ فإنّه كان مرحاً خفيف الظل، وكثير الدعابة ممّا سهّل مهمّة مستمعيه في التفاعل معه بشكل إيجابي وتدافعي.
كان عنوان محاضرته هو: هل يجوز دفع حوافز للذين يعانون من السمنة لينقصوا من أوزانهم ( لتخسيس أنفسهم)؟!!.
تراءى لي في الوهلة الأولى بأن الموضوع يعتبر بسيطاً ولا غرابة فيه (بديهي !) فأجبت عليه في نفسي وأنا أقود سيارتي: إنّها فكرة جيّدة من شأنها بأن توفّر أمولاً كثيرة لوزارة الصحّة، بمعنى أنّه قد يكون إستثماراً في محلّه. فكّرت حينها بعقل طبيب مهتم بصحّة الناس فقلت في نفسي... إن تأثير السمنة على صحة الشخص البدين كبير وخطير مما يؤدّي إلى تعرّضه للكثير من الأمراض الخطيرة التي تستنفذ أغلب ميزانيّة الخدمات الصحيّة وتسحوذ عليها؛ مما قد يحرم المجالات الأخرى التي تعني بشئون صحّة الإنسان ورفاهيّته منها بذلك الشكل الذي ربّما سوف يترك أثاراً سلبيّة من الصعب ترميمها.
قلت في نفسي: نعم من الممكن دفع مبالغ تحفيزيّة للبدينين كي تشجّعهم على التخسيس، وبدأت أفكّر في تعميم الفكرة على التدخين، وشرب الخمر، وتناول العقاقير التي تؤدّي إلى الإدمان. فكّرت في ما أبعد من ذلك ـ وهم بلادي دائماً في عقلي وتفكيري ـ فقلت: نعم.. يمكن عمل الشئ نفسه لتشجيع الناس على القيادة (قيادة السيّارات) الآمنة ممّا سوف يقلّل لا محالة من نسبة الحوادث بحيث يمكننا في ليبيا المحافظة على أرواح أهلنا التي تضيع رخيصة هكذا وبدون أسباب جوهريّة. قلت أيضاً: بالإمكان إستخام هذه الفكرة ـ فكرة الأموال التحفيزيّة ـ لإقناع الميليشيات المسلّحة بالتخلّص من أكداس الأسلحة مما يحمي بلادنا من شرورها.
مرّت كل هذه الأفكار في خيالي بينما كان البروفيسّور يلقي مقدّمته السريعة وهو يتحدّث عن الفرق بين الحوافز والرشاوي وعلى أن ما يفصل بينهما أحياناً قد يكون شعرة رفيعة بحيث تتراكب هذه المواضيع على بعضها في كثير من المجالات. أيقظني المحاضر من سروحي حين قدّم سؤالاً لجموع الحاضرين بهدف إشراكهم في المحاضرة بطريقة أعجبتني جدّاً.
تبيّن لي حينها بأن الموضوع أكثر تعقيداً، وأكثر عمقاً ممّا توقّعت؛ فأحسست بأنّني ربّما تعاملت مع الموضوع بكثير من السطحيّة... فوراء مثل هذا السؤال "الفلسفي" تقبع ربما مؤلفات من الكتب، وبحور من الأفكار والآراء.
كما سبق لي وأن قلت في هذا المقال بأن المحاضر كان ذكيّاً وسريع البديهة وبدون شك يمتلك الكثير من الخبرة في مجال التحاضر.. فهو في واقع الأمر بمجرّد إنهاء مقدّمته القصيرة جدّاً توجّه إلى الحضور وطلب منهم الإجابة على سؤال محاضرته حسب مفاهيمهم وتصوّراتهم. إنقسم الحاضرون إلى طائفتين... واحدة كانت مع دفع الحوافز لزائدي الوزن كي ينقصوا من أوزانهم، وطائفة كانت ضد الفكرة. تلك كانت مفاجأة بالنسبة لي؛ فالذين وافقوا على الفكرة ظننتهم من الواقعيّين مما شوّقني بدون شك للإستماع لأراء الطرف الآخر (المضاد). ما زاد من مفاجأتي هو أن المضادّين للفكرة كانوا هم الأغلبيّة !. أعلن المحاضر ذلك بدون تعليق أو إستنتاجات، بل إنّه على الفور طلب من أحد المضادّين للفكرة بأن يقول للبقيّة لماذا إعترض هو على الفكرة. تحدّث رجل، ثم تحدّثت إمراءة ( طبيبة أخصائيّة) كأطراف مضادّة، وقال كل منهما رأيه ففتح تفكيرهم في عقلي أفاقاً جديدة وأبعاداً لم أتصوّرها. قالت الطبيبة الأخصائيّة مدافعة عن رأيها المضاد لدفع حوافز: أنا ضد الفكرة لأنّ دفع المال للناس من أجل إنقاص الوزن يعتبر إهانة وخدش لكرامة الإنسان ( لم أفكّر بذلك المستوى الإنساني الرّاقي !). وقف بعد ذلك أحد الموافقين على فكرة دفع الحوافز ـ وهو خبير إقتصادي ـ ليرد على الطبيبة الأخصائيّة بأن زيادة الضرائب على بعض المواد الضارة بالصحّة كالخمر والسجائر يهدف إلى دفع الناس للإقلاع عن تناول هذه المواد الضارة بالصحة فهل يعتبر هذا رشوة ولكن بطريقة إيهاميّة... مضيفاً: فكيف نرضى بأن تدفع لنا رشاوي لترك التدخين والإقلاع عن شرب الخمر، لكنّنا لا نرضى بأن تدفع لنا حوافز للتخلّص من السمنة؟. قلت في نفسي حينها بأن الإنسان يظل يتعلّم إلى أن يموت !.
 تواصل النقاش التسلسلي بعد ذلك بشكل إستحسنته بكل إهتمام فقد بدأت النقاشات الجانبيّة المنظّمة، وإسترسلت الأفكار واحدة تفتح الباب لأخرى بعدها، وسرعان ما دخل النقاش في متاهات فلسفيّة موغلة في العمق؛ فتراءى لي حينها بأن هذه الحلقة سوف لن تنتهي أبداً.
بطبيعة الحال سرعان ما إنتهت رحلتي الصباحية إلى محطّة وقوف السيّارت بالمستشفى، ولم يبقى أمامي إلاّ أن أحرم نفسي من الإستماع إلى نهاية تلك المحاضرة الشيّقة، فقمت متردّداً بتوقيف محرّك السيّارة وخرجت منها غير راض عن نفسي مع أنّني أعشق مهنتي وأحب عملي.

في طريقي من محطة وقوف السيّارات إلى مدخل المستشفى وأنا أسترجع ما سمعته في ذلك الصباح قلت في نفسي: إن الهوّة بيننا وبين هؤلاء الناس في طريقة التفكير والتعاطي مع الأشياء تعتبر كبيرة جدّاً، وإنّ هناك فرق كبير بين المتعلّم والمثقف وهذا بدون شك يحدّد مستوى الإدراك، ومستوى التعاطي مع الأشياء، ومستوى التعامل بين الناس. قلت في نفسي أيضاً: ربّما تصل مستويات التعليم في بلادنا إلى 86%، لكن مستوى المثقّفين الحقيقيّين لا يتعدّى 5% من مجمل المتعلّمين حسب إعتقادي... وهذا هو الفرق الجوهري بيننا وبينهم.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك