ثروة ليبيا الحقيقيّة تكمن في أدمغة أبنائها وليست في نفط أبارها، وحضارة الدول تقاس بعقول وتفكير أناسها.... فالبشر هم من يفكّر في التغيير ويصنع المستقبل
حين خرج علينا مجموعة من الليبيّين فجأة وهم يعلنون "برقة" ككيان مستقل بكل توابع ذلك الإعلان من إستدعاء سفراء دول وقناصلة، وكذلك تشكيل مجلس وطني وتعيين رئيساً له بما يمثّل ذلك من خروج كلّي على شرعيّة الدولة الليبيّة؛ قالوا بأنّهم إنّما فعلوا ذلك بهدف إنشاء نظام فيدرالي في ليبيا يقضي على المركزيّة ويوفّر الخدمات للناس. الرؤوس التي خطّطت لهذا المشروع لم تفعل ذلك كرد فعل لممارسات معيّنة، ولم تقدم على ما فعلت بهدف تحسين الخدمات للناس؛ ذلك لأن كل واحد منهم يعرف يقيناً بأن ليبيا تمر بمرحلة حكم إنتقالي مؤقّت بعد القضاء على نظام حكم الطاغية القذّافي الذي حكم بلادنا لأكثر من 42 سنة بتفكير أحادي وبأسلوب ديكتاتوري قد يندر العثور على شبيه له.
نظام حكم القذّافي كان مرتكزاً في الأساس على نظريّة أمنيّة همّها الأوّل والأخير هو تمكينه من البقاء في الحكم لأطول مدّة ممكنة، ولا أدري إن كان يفكّر في البداية لتوريث نظام حكمه لأبنائه أم لا، لكنّنا عرفنا لاحقاً بأن كل ممارساته كانت تصب في ذلك الإتجاه.
الثقافة الأمنيّة والطموحات الفرديّة كانتا جوهر نظرية الحكم في عقل وتفكير الطاغية القذّافي، وبذلك فقد عمد على تكريس ذلك الأسلوب في طريقة حكمه فركّز كل أجهزة وأليّات الحكم حول شخصه؛ ومن هنا كان الطاغية القذّافي هو من أوجد "المركزيّة" المطلقة في ليبيا، وكان هو من حرم كل المدن الليبيّة من الخدمات وحوّل المواطن الليبي في كل أنحاء ليبيا إلى "مكافح" أو "مكابد" من أجل توفير أدنى متطلّبات الحياة اليوميّة له ولأفراد أسرته بدءاً بالمأكل وإنتهاء بالسفر.
مشكلة الدولة في ليبيا في عهد الطاغية القذافي لم تكن فقط في تركّز سفارات الدول في العاصمة طرابلس، ولم تكن في وجود مركز واحد للجوازات في طرابلس، ولم تكمن في إضطرار أبناء الشعب الليبي في كل أنحاء البلاد للسفر مئات الكيلومترات من أجل الحصول على شهادة حسن السيرة والسلوك، أو من أجل تقديم طلب للحصول على وظيفة. المشكلة كانت في كل شئ بسبب تلك المركزيّة المطلقة التي حكم بها الطاغية القذّافي ليبيا؛ ولكن يظل الإنطباع هو نفس الإنطباع...
برغم كل ذلك، وبرغم كل تلك العقود الأربعة من المعاناة رضى الليبيّون بما قذف إليهم من فضلات موائد القذّافي، وقبلوا مصيرهم تحت سلطته فلم يخرج الليبيّون إلى الشوارع للمطالبة بحقوقهم لأكثر من 42 سنة من سنوات حكمه البغيض، فما بالك ببعض منهم يعقد مؤتمراً مفتوحا يدعو له سفراء وممثلي دول العالم ليعلن من خلاله على الملأ خروج برقة على الشرعيّة الوطنيّة بطريقة أساءت لأكثر من 95% من أبناء الشعب الليبي. قال أولئك الذين كانوا متحمّسين للمشروع بأنّهم إنّما فعلوا ذلك بهدف القضاء على المركزيّة، وبأنّهم لم يكونوا يسعون لفصل برقة عن بقيّة الدولة الليبيّة. أين كان هؤلاء ومن يؤمن بطريقة تفكيرهم كل تلك ال42 سنة حيث كان المواطن في ليبيا – في كل ليبيا - يعاني من المركزيّة المطلقة؟.
حين هاجم أغبياء تنظيم القاعدة مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر 2001 كان تفكير قادة القاعدة حينها وعلى رأسهم أسامة بن لادن هو "القضاء على أمريكا" ظانّنين بأن ثروة أمريكا تكمن في سوق أسهمها وإذا تمكّنوا من تدمير مركز التجارة العالمي فإنّهم بذلك سوف يدمّرون الإقتصاد الأمريكي وبذلك يمكنهم إرغام أمريكا على الركوع والخضوع لمطالبهم التي قالوا إنها كانت تهدف إلى إعادة حقوق الشعب الفلسطيني التي تعدى عليها الصهاينة بمساعدة أمريكا.
دُمّر مركز التجارة العالمي، وأصيب سوق الأسهم الأمريكي بإنتكاسة غير مسبوقة مازال يعاني منها الإقتصاد الأمريكي ( وبناء عليه االإقتصاد العالمي) إلى يومنا هذا؛ ولكن هل أجبرت أمريكا على الركوع أو السجود أو حتى سماع ملا تريد أن تسمعه؟.
بالطبع لم يتغيّر في أمريكا شيئاً يذكر أكثر من بعض التنغيصات، وبالطبع ظلّت أمريكا سيّدة للعالم الحديث وقائدة له بدون منازع..... لماذا؟. لأن أمريكا بنت مجدها على عقول أبنائها ولم تبنيه على ثروة حقول النفط أو مردودات التجارة. بوسع أمريكا أن تبني نفسها من جديد في أي وقت لأن ثروة أمريكا تكمن في عقول أهلها وليس في نفط أبارها.
يبدأ تاريخ الولايات المتحدة منذ عام 1783 حين تمكّن الأمريكيّون من هزيمة المستعمر الإنجليزي في حرب تحريريّة إستمرّت لأكثر من 10 سنوات، وقد خرج الأمريكيّون من هذه الحرب برقعة محدودة من الأرض قوامها 13 ولاية وبقوة بشرية لا تزيد على الأربعة ملايين؛ فكانت تلك هي النواة التي نمت بسرعة هائلة لتصبح أعظم قوة في العالم وأغناها في خلال 150 عاما، وظلّت تحتفظ بهذا الزخم لأكثر من 8 عقود من الزمن لم تشرف على نهايتها بعد... بل في حقيقة الأمر لم تقترب منها على الإطلاق برغم تفجيرات تنظيم القاعدة الظلامي.
بدأت الولايات المتحدة التي تم إعلانها في عام 1776 في التوسّع تدريجيّاً فإشترت حكومتها لويزيانا من فرنسا عام 1803، وإستولت على فلوريدا من إسبانيا عام 1819، ثم ضمّت تكساس من المكسيك في عام 1848؛ فإستطاعت بذلك وخلال فترة زمنية قصيرة أن تتحوّل من دولة صغيرة متشرنقة على سواحل المحيط الأطلسي إلى إمبراطوريّة كبرى تسيطر على المحيطين الأطلسي والهادئ، وبدأت اتحادا كونفيدراليا قبل أن تتحوّله إلى فيدرالي.... أي أنّها بدأت في بناء نفسها بالإندماج وليس بالتقسيم.
يبدأ الدستور الأمريكي ( وهو أقدم دستور مكتوب على وجه الأرض) بالعبارة التالية: {نحن، شعب الولايات المتحدة ؛ وحتى نشكّل وحدة متكاملة ويتم العدل ونضمن الامن القومي ونحقّق حماية عامة، ونبني مستقبلا جيّدا نؤمّن من خلاله الحرية لانفسنا؛ فإنّنا نتبنى هذا الدستور للولايات المتحدة الأمريكية}.... قال الأمريكيّون منذ أكثر من قرنين من الزمان: وحتّى نشكّل وحدة متكاملة ... أي أن الأمريكيّين كانوا يطمحون إلى الوحدة ويحلمون بها حين أسّسوا دولتهم، ومازال هذا الحلم يراود الأمريكيّين رغم أنّهم الآن في بحبوحتهم ليسوا محتاجين إلى إتخاذ تلك الخطوة حيث أن نظام الحكم مهما كان نوعه ما هو إلاّ وسيلة لتحقيق الرخاء، وحين يجد الأمريكيّون أنفسهم في حاجة لإعلان وحدة وطنيّة سياسيّة فإنّهم سوف يعلنوها؛ فهم بدون شك متوحّدون إجتماعيّاً ويكفي أنّك حين تتقابل مع أي أمريكي ومن أية ولاية أمريكيّة وتسأله من أين أنت؛ فإنّه يقول لك بدون أدنى تردد – بل وبكل فخر - : أنا من الولايات المتحدة الأمريكيّة.
في المقابل قام الإتحاد السوفييتي على إتحاد 15 جمهوريّة، وقامت يوغوسلافيا على إتحاد 5 جمهوريّات ولكن في أقل من قرن من الزمان تشتت تلك الكيانات، وتشرذمت كل من تلك الدولتين إلى كيانات صغيرة لم يعد لها وزن إجتماعي أو إقتصادي في عالم اليوم؛ ذلك لأن تلك الوحدات كانت قد قامت بالقوّة، وكان قد حافظ عليها النفط والجيش وما إن تدهور الإقتصاد وضعف الجيش حتى تمرّد الناس فأعلنوا الإنفصال تلو الإنفصال إذ لم تقم تلك الكيانات الإصطناعيّة بأية محاولة جديّة لبناء الإنسان؛ بل إنها إعتمدت على مصادر الثروة الموجوده في باطن الأرض لبناء دولة من الكتل الخرسانيّة والميادين الواسعة (العمران) ففشل المسعى.
إن قوّة وحضارة وعراقة كل بلد لا تقاس بمقدار ثرواتها الطبيعيّة وإنّما تقاس بثرواتها البشريّة كيفاً لا كمّاً؛ فالثروة المكنوزة تحت الأرض غير متجدّدة لكن ثروة البشر تظل متجدّدة إلى أن تنتهي الحياة الدنيا. إن الثروات الطبيعية أوجدها الله للبشر بقدر محسوب بهدف أن يتسفيد منها الإنسان في بناء نفسه ومستقبله... فالثروة لوحدها لا تبني المجد ولا تصنع التقدّم.
موقع ليبيا بين بعض دول العالم الغنيّة من حيث معدّل دخل الفرد السنوي الإحصائي
تنتج السعوديّة 9.7 مليون برميل من النفط يوميّاً ( هناك من يقول 10.3) وحساباً بالسعر الحالي للنفط والذي يبلغ في المتوسّط 117 دولار للبرميل فإن مدخولات السعودية اليومية من النفط فقط تبلغ 1.13 بليون دولار أمريكي، أي ما يعادل 412 بليون دولار في السنة.... ماذا حقّقت السعودية بهذه الأموال.
لو قمنا بمقارنة السعوديّة بإندونيسيا وماليزيا مثلاً من حيث مقدار التقدّم الذي حققته كل منها فإننا سرعان ما نلاحظ وجود فروقاً شاسعة بيّن هذه الدول الثلاث في كل مناحي الحياة. فبينما يبلغ الدخل السنوي للسعوديّة للفرد ( الدخل السنوي مقسوماً على عدد السكّان) 22,500 دولار أمريكي، يبلغ هذا الدخل في ماليزيا 14,600 دولاراً، ويبلغ في إندونيسيا 4,293 دولاراً فقط. لماذا إذاً حقّقت كل من إندونيسيا وماليزيا ثورة صناعية باهرة بينما مازالت السعودية تستورد حتى "الشماغ" من الخارج؟. الإجابة على مثل هذا السؤال قد تحتاج إلى مجلّدات لكنّني قد ألخّصها في عبارة واحدة تقول: إن ثروة أي بلد في العالم إنّما هي ثروة بشريّة بالدرجة الأولى قبل أن تكون ثروة تأتي عن طريق مصادر طبيعيّة غير متجدّدة.
إنّ قيمة الإنسان تكمن في الثروة التي يصنعها وليس في الثروة التي يرثها.... فالأولى متجدّدة والثانية فانية إن لم يتم إستثمارها.
أما بالنسبة لإخوتنا الليبيّين الذين يتحدّثون عن النفط والحرمان من الثروة، وبأن إنتاج النفط الليبي يأتي كلّه من شرق البلاد، وبأن أهالي الشرق لا يستفيدون من ثروات مناطقهم، وبقيّة تلك الأفكار والمعتقدات الضحلة والقصيرة النظر حتى الغشيّ فإنّني أود أن أذكّرهم بهذه الحقائق: يبلغ إحتياطي ليبيا المؤكّد ( حسب عام 2010) من النفط 47 بليون برميل من المتوقّع أن ينضب خلال 76 سنة ( هناك تقديرات علميّة قويّة تقول خلال 40 سنة) لو أن وتيرة الإنتاج بقيت مستقرّة بمقدار 1.7 مليون برميل يوميّاً. في المقابل يبلغ إحتياطي السعودية المؤكّد 264.52 بليون برميل من المتوقّع بأن ينضب خلال 81 سنة بوتيرة إنتاج يومية تبلغ 8.9 مليون برميل يوميّاً، في حين يبلغ إحتياطي فنزويلاّ من النفط 296.5 بليون برميل من المتوقّع نضوبه خلال 391 سنة بوتيرة إنتاج حاليّة مقدارها 2.1 مليون برميل يوميّاً.
قال "أبوبكر بويرة" وهو من أكبر المنادين بتقسيم ليبيا إلى ثلاثة مناطق مستقلّة يجمعها "إتحاد فيدرالي" بأن حركته قد تلجأ إلى توقيف تدفّق إمدادات النفط اذا تقاعست الحكومة المركزية عن تلبية مطالب حركته الإنفصاليّة لمنحها المزيد من المقاعد في الجمعية الوطنية. يطالب بويرة ومن يقف معه بعدد ثلث أعضاء المجلس الوطني المقترح على إعتبار أن عدد سكّان المناطق الشرقيّة التي سوف تتكوّن منها دولة برقة المستقبلية يبلغ مليوني نسمة... أي ثلث عدد سكّان ليبيا. إذا كانت هذه الأرقام صحيحة فإن السيّد أبوبكر بويرة قد يكون محقّاً فيما يتعلّق بالتمثيل في المجلس الوطني إذ أنّني أشاركه الرأي بأن يكون التمثيل مبنيّاً على عدد السكّان وليس على الرقعة الجغرافيّة؛ فالبشر هم من سوف يستخدم خيرات البلد وثرواتها لبناء أنفسهم وبناء بلدهم.
إن المطالبة بالعدل يجب ألاّ تدفع إلى إحداث الظلم أو التشجيع عليه وإلاّ فإنّها سوف تتحوّل إلى نفاق. من حق كل الليبيّين في جميع أنحاء ليبيا أن يطالبوا بالعدل ( ليس بالضرورة بالمساواة، فالفرق بين العدل والمساواة قد يكون كبيراً)، ومن حق جميع سكّان ليبيا أن ينعموا بخيرات بلادهم بكل عدل وبدون منّة من أحد، لكن مثل هذه الأمور تأتي بالممارسة الديموقراطيّة من خلال صناديق الإقتراع وليس من خلال فرض الأمر الواقع بقوّة الترهيب وبلغة العنف.
ليبيا أيّها السادة والسيّدات غنيّة بأهلها، وبالمتعلّمين من أبنائها وبناتها فعلينا أن نبحث عنهم ونمكّنهم من بناء ليبيا الحديثة والعصريّة وهذا لن يتأتّى بفرض الأمر الواقع، ولا بتطبيق منهجيّات معيّنة تنادي بها مجموعة أو طائفة من أبناء المجتمع؛ بل إنّها تتحقّق من خلال مشاركة كل الليبيّين والليبيّات بدون إستثناء وبدون إقصاء وبدون تغوّل فئة على أخرى في بناء بلدهم والتمتّع بخيراتها.
وختاماً... أودّ أن أهمس في أذان أخوتي وأخواتي أبناء ليبيا - بدون إستثناء - بأن طرابلس عاصمتنا تحتضن بين أركانها ما يقارب 1.7 مليون ساكن أي ما يزيد قليلاً عن ربع سكّان ليبيا كلّها، وهؤلاء كما نعرف ينحدرون من جميع مناطق ليبيا... (من شرقها، ومن غربها، ومن شمالها، ومن جنوبها)؛ وبذا فهم يعكسون فسيفساء التنوّع السكّاني في ليبيا. طرابلس تفخر بأنّها تمثّل شعاعاً حضاريّا ينير طريق كل الليبيّين في كل ربوع وطننا، ذلك لأنّ طرابلس تقيم فيها أغلب العقول الليبيّة المبدعة التي تمثّل أغلب كفاءات الوطن؛ وهذا لا يجب إعتباره إنتقاصاً من قدرات بقيّة سكّان ليبيا، بل إنّه - وبكل قوّة - يعتبر دفعاً لعجلة التقدّم والنمو في ليبيانا الحبيبة.... لماذا إذاً هي الدعوة إلى التقسيم، وماذا سوف يحقّق لكم النفط يا من تنادون بالإستحواذ على نفط ليبيا وحصر الإستفادة منه في داخل حدود دولتكم المزمع تأسيسها؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك