2015/03/22

مسّ من الجن (4)

(الحلقة الرابعة)
السحر عبر العصور
السحر في اللغة المجازيّة يقصد به كل ما لطف مأخذه وخفي سببه ومنه إقتران السحر بالجمال، ومنه المناظر الخلاّبة الساحرة، ومنه العيون الجميلة الساحرة، ومنه الطبيعة السحريّة. أما المعني اللغوي الحقيقي للسحر فهو "الخداع والتمويه". 
السحر أصله التمويه بالحيل والتخاييل، وهو أن يفعل الساحر أشياء أو يقول كلاماً غير مفهوم او بحس موسيقي أو بوتيرة معيّنة يفقهها الساحر من كثرة التكرار والتعلّم من الخبرات السابقة. كما يقوم الساحر ببعض الحركات البهلوانيّة أحياناً والغريبة الشاذة في آحايين أخرى بهدف التأثير النفسي على المسحور مما يدفع بالمسحور بالخضوع لوقع التخيّل وربما الهلوسة أحياناً وقد يبدأ المسحور الذي عادة ما يعاني من كآبة والكثير من العصاب نتيجة لمعاناته النفسيّة خلال الفترة التي يظن فيها بأنّه مسحور ولا يستطيع أن يتحكّم في تصرّفاته فيدفعه الساحر الذكي أو من يسمّي نفسه بالراقي ( وهو من يقرأ ما يعرف ب"الرقية" على أسماع من يظن بأنّه مسحور) فيصبح عصبيّاً بشكل كبير جداً ويبدأ في التنفّس السريع المتواصل ممّا يقلّل من كميّة ثاني أكسيد الكربون في الدم الأمر الذي يؤدّي إلى قلوية كبيرة في الدم ونقص في كميّة الكالسيوم في الدم نتيجة لنقص الكالسيوم المؤيّن (الأيّوني) فيقلّل ذلك من مقدرة الكرات الدمويّة الحمراء على تحميل الأكسجين الأمر الذي يؤدّي غلى شح أكسجيني في خلايا الدماغ فتختل الوظائف ويبدأ المصاب في الهذيان والعصبيّة وقد يتشنّج ذلك الشحص وأحياناً يرتجّ الجسم وقد يصاب بالخضّة الجسديّة أو الطرفيّة نتيجة لقلّة الأكسجين ولنقس الكالسيوم المؤيّن ويستغلّ طارد السحر أو قارئ الرقية تلك الحالة لجهله بالطبع ليخبر المصاب بأنّه بالفعل ممسوس بالسحر، مما يرسّخ الفكره في عقله وفي تفكيره ويتحوّل إلى مخبول يظن بأنّه بالفعل مسحور( المزيد في هذا الإطار سوف يأتي تحت بند الجانب الطبّي للسحر).
  السحر أصله الإستمالة، وكلّ مَن إستمالك فقد سحرك، وهو يعني التمويه أيضاً إستناداً لقوله تعالى:{سحروا أعين الناس}، بما  يعني موّهوا عليهم حتى ظنّوا أن حبالهم وعصيّهم تسعى.

السحر عبر التاريخ
يعود التعامل بالسحر إلى ما قبل التاريخ، فقد مارس إنسان العصر الحجري الطقوس والتعاويذ السحريّة فالرسوم والرموز التي نقشت على جدران الكهوف والمغارات والكتب والأساطير القديمة تدل على ذلك، فقبائل "النياندرتال" و"الكرومانيين" الذين عاشوا على هذه الأرض منذ ما يزيد عن 80 ألف سنة أحسّوا أنهم يواجهون شراسة الطبيعة وجهاً لوجه، إضافة إلى الحيوانات الضارية والأفاعي الشرسة والوحوش الكاسرة؛ فاستعانوا على ذلك كله بالسحر حيث كان لكل قبيلة ساحر تستعين به على مواجهة تلك الصعاب، فيرسم للناس صورة دب مثلا على الأرض، ثم يقوم بالدوران حولها عدة مرات وهو يترنّم ببعض الكلمات التي لها مدلول سحري مع تأدية بعض الرقصات البهلوانيّة، ثم يغرس بعصاه الحجرية في عنق الدب المرسوم، وبعدها ينطلق الصيادون يتعقبون آثار الدببة ليعودوا بها صريعة.
وتعاملت كل شعوب الأرض وعبر العصور بالسحر، وكلّما تعمّق الإنسان في التاريخ القديم كلما ان شعفه بالسحر كبيراً وفي المقابل كلّما دخل الإنسان العصر الحديث بعلومه وإكشافاته وخدماته المتطوّرة كلّما قل إهتمامه بالسحر وقد يقتصر التعامل بالسحر في المجتمعات المتقدّمة كدول إسكندينافيا على التندّر أو من باب "الفنتازيا".
 فعلى ضفاف نهر الفرات نهضت أركان مدينة بابل، حيث كانت تزخر بشتى العلوم والفنون وعلى رأسها السحر، وكان الناس هناك يعبدون الكواكب ويعتقدون بتأثيرها على حياة البشر.
وفي عهد الفراعنة في مصر فقد دفنت أسراراً وألغازاً، وتليت طلاسم وتعاويذ عند أقدام الأهرامات، وكان النيل ينقل أصداءها، وترانيمها، بل كان إحدى المرايا التي تنعكس على صفحته بعض من هذه الأسرار والطلاسم المعقدة فارتبط الهرم بالنيل، وإرتبط الاثنان بالإنسان المصري القديم. وشكّل الجميع معتقدا غاية في الغموض، وكان أساس ذلك كله السحر، والسحر وحده. فهل حقا ما يشاع من أن كل من سولت له نفسه الاقتراب من مقابر الآلهة عند الأهرامات تحل به اللعنة الماحقة، لعنة الفراعنة؟! وهل هذه اللعنة أساسها السحر أم هو لغز آخر مجهول؟!.  
أمّا في بلاد الهند، بلاد الغرائب والعجائب، وأغرب ما فيها السحر، الذي امتزج بالطقوس الدينية، ويتجلّى ذلك في الديانة البوذية التي إحتضنت السحر وأصبح مقدسا عند الهندوس، ووضعوا له كتابا وهو "الفدا". ولم تتغير حالة الهند اليوم على ما كانت عليه سابقا، فالسحرة والكهان والعرّافون، ومروّضوا الثعابين يبلغ تعدادهم بالملايين.... وهي تجارة رابحة جدّاً !.
أمّا في بلاد الإغريق، فقد كان للسحر مكانة عالية عند اليونانيّين، حيث كانوا على أثر الأمم السابقة في أمر الاعتقاد بالرقم والعزائم والطلاسم، وتأثير الأرواح الشريرة وإلى غير ذلك من الاعتقادات السحرية. معبودات اليونان أهمّهم كان زويوس وهيرا مازالت تدخل في عذائم وأقسام ضد الجن والشياطين في السحر العربي حتى يومنا هذا.
وفي ديانة زرادشت الفارسيّة، كان رجال الدين وقتها يهتمّون كثيراً بالسحر، ويعتقد بأنّ كلمة السحر بالإنجليزية Magic كانت قد أتت من أفراد قبيلة ماجاي الميدية الذين كانوا رجال الدين الرئيسيين في الديانة الزرادشتية. في العصور الوسطى قام ألبرت الكبير (1206 - 1280) Albertus Magnus بجمع عدد كبير من التعويذات السحرية ومن الجدير بالذكر إن ألبرت لم يكن ساحرا بل كان رجل دين مسيحي مهتم بعلم الخيمياء وكان غرضه الرئيسي هو البحث العلمي[23].
ومع بداية عصر النهضة والثورة الصناعية، حل التفسير العلمي محل الخرافات والأساطير. فقد قام الكيميائي البروسي كارل رايخنباخ في عام 1850 بتجربة على البرافين والفينول لغرض معرفة ما أسماه بالقوة الغريبة أو القوة الغامضة لبعض المواد التي أستعملت في السابق من قبل السحرة في طقوسهم وتوصّل إلى خلاصة مفادها أن هناك "تدفق" إيجابي وسلبي في المادتين وقدم نظريته بان هناك إستعمالات أخرى غير معلومة للمواد بجانب الاستعمالات المعلومة ولكن نظريته لم تلق قبولا من قبل علماء عصره.
وفي القرن التاسع عشر ومع موجة الاستعمار الأوروبي للشرق تعرّف العالم الغربي عن كثب على أساطير الشرق الغامضة وخاصة في الهند ومصر وبدأ حينها وكأنّ ولعاً جديداً بالسحر وطقوسه قد أخذ يستحوذ على عقول البعض، وتشكّلت بالفعل جماعات منظمة تحاول دراسة السحر. 

وخلاصة القول فإنّ هناك نقاط تشابه كثيرة حول الكتابات القديمة حول السحر والتي مازال بعضها مستخدماً حتى يومنا هذا، ومنها على سبيل المثال:
1- إستعمال ما يسمى بالكلمات السحرية وهي كلمات يعتقد البعض إنها قادرة على تطويع وتوجيه الأرواح.
2- إستعمال آلات موسيقية بدائية مصنوعة من الخشب وإحداث أصوات متناغمة نوعا ما أثناء الطقوس.
3- إستعمال رموز وكتابات وشيفرات غامضة لغرض إستحضار الأرواح.
4- إستعمال وسيط بين القوى الخفيّة والسحرة وكان الوسيط في العادة عبارة عن أشخاص يزعمون القدرة على إستقبال رسائل من القوى الغير مرئية(الأرواح أو الجن).
وتعتبر المغرب ربما من أكبر البلاد العربيّة تعاملاً مع السحر بكل مراحله، حيث يكثر السحرة وينتشرون في كل ركن من أنحاء المغرب. إذ عرف المغاربة منذ العصور الغابرة معتقدات تعبّدية وسحرية ما زالت بقاياها صامدة ومتداولة بيننا حتى الان، فقد عبد البربر وهم المغاربة الأقدمون عيون الماء والاشجار والكبش ملك القطيع والكواكب وجن المغارات والعيون والهواء، وأعتقدوا في السحر، أي في إمكانية خلق هيئة أو حيوان أو بشر أما برسمه أو من خلال النطق بإسمه، وإعتقدوا أنهم بذلك يستطيعون التحكّم فيه والإمساك به وتدميره أو معاقبته، ومارسوا أيضا عبادة الموتى، وكانوا يوجّهون قبورهم جهة مشرق الشمس ويدفنون مع موتاهم المجوهرات والجرار والقصاع الطينية لإعتقادهم في خلود الروح.
واذا كانت تلك هي معتقدات أسلاف البربر، فإن الكثير من المعتقدات والممارسات السحرية التي لا تزال رائجة حتى اللحظة الراهنة في المغرب، هي عبارة عن إستمرار لتلك المعتقدات القديمة التي سادت منذ ما قبل التاريخ، وأضيفت إليها خلال المراحل التاريخية اللاحقة بعض المعتقدات والطقوس الرومانية، خلال فترة الوجود الروماني بالمغرب، أي قبل الفتح الاسلامي للمغرب. كما إنضافت اليها في العصور الوسطى تأثيرات أفريقية حملها معهم الى المغرب التجّار الذين كانوا يجلبون العبيد من غرب أفريقيا، بالإضافة الى التأثيرات القادمة من الشرق الإسلامي.
ويشهد التاريخ أن ملوك أكثر السلالات الحاكمة في المغرب أصولية وتشبّثا بأحكام الشريعة الإسلامية، وهم المرابطون والموحّدون، كانوا يشجّعون أو يغضون الطرف عن إنتشار السحر والسحرة، وكانت في عصورهم للسحر أسواقاً عامرة يؤمها عامة الناس على مرأى ومسمع من السلطات، بل إن الملوك المرابطين حسب روايات تاريخية كانوا يستشيرون المنجّمين، قبل عبورهم مضيق جبل طارق نحو الأندلس!!.
ويحكي المؤرخ إبن عذاري المراكشي في هذا الصدد، أن الأمير أبا القاسم الذي كان يرافق يوسف بن تاشفين المرابطي، خلال غزوته للضفة الأندلسية من مضيق جبل طارق، لم يعط الأمر لجنوده بمهاجمة الجيوش المعادية الا بعد ما حصل على موافقة منجّمه... حيث يقول المرّاكشي "فأمر الأمير أبوالقاسم منجّمه بأخذ طالع الوقت والنظر فيه فوجده أوفق طالع وأسعد وأدلها على أن الظفر للمسلمين والدايرة للمشركين، حسب ما جرى الأمر عليه.

والمعروف في علم الاجتماع أنّه في زمن التحوّلات العميقة تتنامى مشاعر عدم الإستقرار ويزداد إنتشار الخرافات كلّما زادت ظروف الحياة صعوبة، أي أن الخرافات تكثر وتنتشر بإنتشار حالات القلق والإضطراب والشعور بالضعف والعجز عن مواجهة مشكلات الحياة ومخاطرها"، ولذلك فإن السحر كما هي الخرافة في المجتمعات البدائيّة، إنما يقوم بتهدئة المخاوف الناشئة عن الإضطرابات التي تسود زمن التحّلات الراهن.

وختاماً في هذا السياق، يمكن القول بأن التعويذة والتي كانت عبارة عن كلمات أو كتابات مخلوطة بمواد خاصّة يقوم بها رجل الدين في طقوس خاصّة كانت تستخدم كتعويذة تهدف إلى تغيير المستقبل، وغالبا ما كانت التعويذة تتم على مراحل تحت مزاعم إستحظار قوى إلهية من خلال إحتواءها على "قوى خارقة" ويضاف إلى رهبانية المشهد إستعمال روائح خاصّة أو طقوس معيّنة عادّةما تتبّع بكل قدسيّة وكأنّها منزّلة من السماء !.

في الحلقات الموالية سوف تقرأون:
5- ماذا يقول شيوخ الدين والمشعوذون عن السحر.
6- الشيطان في المفاهيم القديمة.
7- ماذا يقول شيوخ الدين عن الشيطان.
 
8- الرقية عبر التاريخ.
9- ما يقوله شيوخ الدين عن الرقية.
 10- ما ورد في القرآن عن الجن.
11- ما ورد في القرآن عن السحر.
12- ما ورد في القرآن عن الشيطان.
13- ما ورد في القرآن عن الرقية.
14- أجزاء الدماغ المتربطة بالإعتقاد.
15- إختلالات في وظائف الدماغ وعلاقتها بالإعتقاد والتخيّل.
16- حالات مرضيّة ودوائيّة وإرتباطها بالتخيّل وسماع الأصوات الغريبة.
17- مقدّمة للمحرّرعن الفرق بين عالمنا وعالمهم.
18- رأي المحرّر في موضوع الجن.
19- رأي المحرّر في موضوع السحر.
20- رأي المحرّر في موضوع الشيطان.
21- رأي المحرّر في ما يسمّى ب"الرقية الشرعيّة".
22- مقال ختامي وردود على إستفسارات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك