2022/02/08

الصيرفة الإسلاميّة والمتاهات المصرفيّة (الحلقة الرابعة)

في حلقة اليوم سوف أتحدّث بالمزيد عن الصيرفة العالميّة، وسوف أتحدّث في الحلقة الموالية عن "الصيرفة الإسلاميّة". أعتقد بأن حلقات هذا الموضوع سوف تتمدّد إلى 10 حلقات متكاملة كلّها تصب في محاولة توضيح الكثير من المفاهيم والأفكار حتى يصبح بوسع كلّ منّا في أن يختار لنفسه ما يناسبه وما يستجيب لمتطلباته بعيداً عن تدخّل الآخرين أو نفوذهم.
علينا بأن نكون على بيّنة بأن الصيرفة العالمية هي في واقعها صيرفة بلاد العالم المتقدّمة، والبقية هي ليست أكثر من توابع تمارس ما تجد أنفسها ملزمة بممارسته أحياناً وبدون الحاجة لأي تفكير أو مراجعة.
الصيرفة العالميّة هي في جوهرها وأساسها صيرفة أوروبيّة سواء رضينا أو كرهنا، وهذه الصيرفة لم تخرج هكذا بين يوم وليلة بدون مخاض عسير ومحاولات كثيرة وشاقّة. فقد كان رأس المال ملكاً للأغنياء وأصحاب السيادة والسلطان يستخدمونه كما يشاءون وبالطريقة التي يرون، وأحياناً قد يستخدمونه لإستعباد المحتاجين من البشر.
كان الملوك والأمراء هم من يحتكر رؤوس الأموال، وكانوا هم وحدهم من يقرّر كيفيات الإنفاق وحيثياته وأوجهه؛ وحينما كانت الكنيسة - من خلال رجال الدين في أوروبا - تتحكّم في مصائر البشر وتفتئ لهم بصكوك الغفران التي سوف تدخلهم الجنّة.. حينها كان الناس في أوروبّا يظنّون بأن رجل الدين هو مرسل من عند الرب، ولا يفعل إلّا ما يأمره به الرب. وبذلك طغى رجال الدين وتآمروا مع الحكّام الطغاة بذلك القدر الذي دفع عموم الناس إلى التذمّر من سيطرة شيوخ الدين وتدخّلهم في كل شئ في حياتهم.
بعد إرتفاع كم التذمّر إلى مستويات تجاوزت مقدرة الناس على التحمّل؛ قامت ثورة الشعوب الأوروبيّة على الكنيسة، ومن حينها تحرّرت الشعوب الأوروبية من سيطرة ونفوذ شيوخ الدين، ومن هناك بدأت تلك الشعوب تعبر نحو المستقبل، ومن حينها بالفعل بدأت أوّل إرهاصات النهضة الأوروبية الحديثة التي نتنعّم كلّنا بمخرجاتها وبمردوداتها.
بكل تأكيد فإن أوروبا كانت قد مرّت بمراحل صعبة في مسيرة نهضتها التي نشاهدها الآن، ولم يكن هناك ذلك التقدّم الملحوظ في بداية الثورة على الكنيسة. فبمجرّد إنزواء رجال الدين إلى الخلفية، وما إن أٌبعد رجال الدين عن الواجهة حتّى خرجت النعرات العرقية والإختلافات الجغرافيّة؛ وبالفعل نشبت الكثير من الحروب بين الدول الأوروبية نفسها، وتكوّنت الإمبراطوريّات التي طغت وتجبّرت، وتم إستعباد الإنسان للإنسان. تمكّنت أوروبا أخيرا من التصالح فيما بينها، ومن بعدها توحّدت أوروبا ضد غيرها من البشر والبلدان، وبدأت تلك الحملات الإستعمارية الأوروبية ضد بلاد العالم المتأخّرة فكانت فترة الإستعمار العالمي قد سادت العلاقات بين أمم العالم حتى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ ومن هناك تعلّمت أوروبا الكثير من أخطائها وبدأت العقول الأوروبية الناهضة والمفكّرة تصعد إلى الواجهة. حينما تقدّم أهل المعرفة مسيرة الحياة في أوروبا تسيّد العلم وأخذ يترسّخ في عقول البشر. بدأ الناس في أوروبا - ومن تبع أوروبا وسار في طريقها مثل أمريكا الشمالية واليابان وكوريا - بدأ الناس في تلك البلدان يهدأون ويستخدمون عقولهم في تفسير الأشياء وترسيم المعاملات اليومية، وبمجرّد تسيّد علماء العقل على من كانوا يسمّون ب"علماء الدين" حتى بدأت الإختراعات والإكتشافات، ومن ثمّ حدثت الفورة العلمية والصناعيّة التي تراها وتتنعّم بها شعوب أوروبا بالفعل.
وحينما إزداد الطلب البشري على وسائل التعليم والتعلّم، كثرت المدارس والجامعات وتشعّبت على إثرها مناهج ومسالك البحث العلمي وهذا بكل تأكيد تطلّب توفير المال، والمال تطلّب تخليق إدارات مصرفيّة، ومن هناك تكوّنت المصارف والمؤسّسات المالية الكبيرة التي كانت تحتكرها الشركات الصناعية والإستكشافية الكبرى مما أدّى إلى توفّر المال عند البعض وشٌحّه عند الآخرين. بدأ رجال الأعمال في تسيير دفّة المؤسّسات المالية والتي من بينها البنوك، وكانت القروض تعطى لأناس دون غيرهم وبأسعار خدمات كبيرة وضخمة أطلق عليها فوائد أو أسعار خدمات أو ضرائب. وإستمر الحال على ما هو عليه حتى بدأ عصر الحكومات الديموقراطية التي يراقبها الشعب من خلال مؤسّسات هو من ينتخب المنتمين إليها؛ وذلك أوجد هيئات رقابية صارمة، وأجهزة متابعة يقظة من بينها الصحافة الحرّة ووسائل الإعلام التي تتعامل مع الناس وتستجيب لرغباتهم وتتفاعل مع أحلامهم وطموحاتهم. خرجت بعد ذلك ظواهر جديدة لم يتعوّد الناس على مثلها من قبل مثل المحاسبة Accountability والشفافية Transparency والمراقبة والمتابعة والتقييمات الدورية الملزمة Audits. كل تلك الظواهر الجديدة أنتجت قدرات إنتاجيّة تنافسيّة تصدّرت هي بدورها كل الواجهات، وأخذت تتنافس فيما بينها على أسس قانونية وأخلاقية وإبداعية متنامية.
كل تلك المؤسّسات الرقابية التي أوجدها العقل البشري حينما تحرّر من سيطرة رجال الدين مكنّت الإنسان من التحضّر والتمدّن والتعصرن؛ ومن هناك ظهرت بلاد العالم المتقدّمة وهي تتميّز بوجود الكثير من الخدمات والتسهيلات التي لا تتوفّر في غيرها. ذلك بكل تأكيد فرض وجود هيئات دوليّة تهتم بحقوق الإنسان والعمل على رفاهيّته؛ وذلك هو بالفعل ما أرجع للمرأة الكثير من حقوقها التي كانت مسلوبة من قبل رجال الدين الذين كانوا يرونها ناقصة ولا يحق لها بأن تتساوى مع الرجل. كانت تلك الفكرة راسخة عند رجال الدين في كل الديانات؛ لأننا هنا وبكل بساطة نتحدّث عن "رجال" الدين، ومن الطبيعي أن يؤثر الرجل نفسه على المرأة بحكم تحكّمه في نقل رسالة الرب إلى البشر وفق توصيفه ووفق طريقة تفكيره.
من خلال تلك المسيرة تكوّنت ونمت وترعرعت المؤسسات الماليّة في العالم، ونشأت المصارف والشركات الإستثمارية الكبرى، وكذلك أسواق المال (البورصات)، وأصدرت حكومات البلاد المتقدّمة قوانيناً صارمة لتنظيم أسس المعاملة بين الزبون وصاحب العمل أو الشركة أو المؤسسة. أصدرت الحكومات المتحضّرة قوانيناً صارمة للمصارف من حيث التسليف والإقراض والتمويل والتبنّي والرعاية المالية، وكان بالفعل وضع مراقبة وسيطرة حكومات بلاد العالم المتقدّمة على كميّات وأشكال الفوائد المصرفية. وبالفعل كان المستفيد من كل تلك الإجراءات الحكومية الصارمة هو المواطن، والمستفيد هو الشركات الصناعية والإنتاجيّة، والمستفيد هو المؤسسات التي تقدم خدمات للناس. حددت الحكومات كمية الفائدة والكيفية التي يتم بها التعامل مع الزبون بحيث تعطى كل الحرية للزبون بأن يبحث في كل مكان عن أفضل العروض وأن يكون هو المختار وليس المضطر حينما يحتاج إلى قرض مالي من أحد المصارف. أصبح كل تعامل مع المصارف أو المؤسسات المالية المعتبرة يتم من خلال عقود واضحة البنود ومشروحة الشروط للزبون بحيث تركت الحرية للزبون في أن يختار ما يناسبه من خلال مبدأ "العرض والطلب". بذلك كانت المصارف والمؤسسات المالية في البلاد المتقدّمة كلّها تخدم المواطن قبل خدمة أنفسها، وكان كل ذلك يتأتّى من زاوية المراقبة الحكومية ووجود الجهات الإعتبارية التي تناصر المواطن وتدافع عنه. من خلال كل تلك الأسس خرجت أخيراً إلى العلن وإنتشرت بشكل كبير جداً فكرة PPI أو ما يعرف ب Payment Protection Insurance، وتفرّغ الكثير من رجال القانون والحقوقيّون والجهات القضائيّة للدفاع عن المواطن ضد أية شركات إستغلالية أو أي نوع من مظاهر الإستغلال المالي للمواطن نتيجة للحاجة أو الإضطرار أو عدم الحصول على المعلومة اللازمة قبل أخذ أي قرض أو الدخول في أي مشروع إستثماري.
الحديث في مثل هذه الأمور لا ينتهي ولا يمكن حصره بأي شكل من أشكال الإختصار، ولكن الخلاصة هي أن تلك الأجرة التي تشترطها البنوك على المقترضين هي أجرة مشروعة وقانونيّة ومعروفة ومعلنة وإختيارية، والأهم أنّها تكون موثّقة كتابيّاً بوجود شاهدين على الأقل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك