2022/02/07

الصيرفة الإسلاميّة والمتاهات المصرفيّة (الحلقة الثالثة)

في حلقة اليوم سوف ألقي الضوء على ما يسمّى ب"الصيرفة الإسلاميّة"، وجذورها التاريحيّة. ففي المجمل؛ تعتبر البنوك الاسلامية تجربة حديثة نسبيا في العالم الاسلامي, و يقول شيوخ الدين بأنّ الحاجة إليها كانت قد جاءت تلبية للحاجة الملحّة لمؤسسات مصرفية تلبّي احتياجات المسلمين, و في نفس الوقت تلتزم بما يسمّى ب"أحكام الشريعة الاسلامية" بعيدا عن المعاملات "الربوية" للبنوك العالمية.
في واقع الأمر يعود تاريخ المعاملات التجاريّة بين المسلمين إلى ما قبل الإسلام. ففي زمن الجاهلية، كان الإقراض بفائدة، ولما جاء الإسلام، أقرّ مبدأ "المضاربة"، لما يظنّون بأنّها تعتبر بديلاً عن نظام الفائدة؛ حيث أعتبر الكثير من رجال الدين بأن فائدة المصارف تعتبر "ربا"، وذلك يعتبر حراماً.


المضاربة هي بدورها كانت موجودة في قريش قبل مجئ الإسلام، وحينما بُعث الرسول عليه السلام بدين الله أقرّ المضاربة ولم يعتبرها مخالفة للدين الإسلامي؛ وروي عنه أنّه عليه السلام كان قد "ضارب" لخديجة بمالها إلى الشام قبل أن يتزوّجها. أمّا بعد النبوّة؛ فتقول الكثير من المصادر بأن الرسول عليه السلام سمح بإستمرار المضاربة، وكان الناس من حوله يتعاقدون بالمضاربة فلم ينكر عليهم ذلك.
أمّا "الإيداع" فهو بدوره كان من تعاملات الأغنياء من قريش قبل نزول الوحي، ولم يتحدّث الرسول بأية ممانعة لذلك؛ بل إنّه في عهد الخلافة الإسلاميّة من بعده كانت قد إنتشرت معاملات "الإيداع"؛ حيث كان الميسورون يودعون المال عند "الزبير بن العوام" على سبيل القرض المسترد بلا فائدة، ومن ثمّ أصبح الزبير غنيّاً؛ حيث أنّه حينما مات كان بحوزته قرابة مليوني درهم ومائتي ألف... كما تقول بعض المصادر. فمن أين أتته تلك المليونين ونيّف؟!.
أمّا في العصر الحديث؛ فتقول كتب التاريخ بأن أوّل ظهور لمؤسّسات التمويل الاسلامي يعود الى سنة 1940؛ حيث أنشأت في "ماليزيا" صناديق للإدّخار بدون فوائد؛ وفي عام 1950 إنتقلت فكرة إعتماد صيغ تمويل تلتزم بما يسمّى "أحكام الشريعة الاسلامية" الى دولة الباكستان. غير أن المحاولات الجادة في العصر الحديث لإنشاء بنوك تقدم خدمات و أعمال مصرفية تتفق مع "أحكام الشريعة الاسلامية" كانت قد بدأت في عام 1963 من خلال تجربة بنوك الإدّخار المحلّية التي ظهرت في صعيد مصر بمحافظة الدقهلية على يد الدكتور أحمد عبد العزيز النجّار. و لقد إعتمدت بنوك الإدّخار المحلّية في عملها على أساس تجميع المدّخرات الصغيرة لصغار الفلاحين و إعادة توظيفها على قاعدة المشاركة بعيداّ عن سعر الفائدة سواء أخذاً أو عطاءً. ولم تعش تلك التجربة لأكثر من 4 سنوات حيث برهنت على أنّها من الناحية العمليّة لا يمكن تنفيذها على مستوى الدولة من خلال المصارف نظراً لإحتياج المصارف إلى مردودات ماليّة تساعدها على تنفيذ أعمالها؛ ويتأتّى لها ذلك من خلال فرض رسوماً محددة ومعروفة تظمن لها الإستمرار في أعمالها من ناحية، وتساعدها على التوسّع في مجال الخدمات المصرفية من ناحية أخرى؛ وكان ذلك تحت بند "الفائدة المصرفيّة".


وفي باكستان، كانت هناك تجربة أخرى على يد "الشيخ" أحمد إرشاد مدعوما من الملك فيصل ملك السعودية، وكذلك "الشيخ" أمين الحسيني. وكانت التجربة الباكستانيّة قد إعتمدت على مقاربات تفضي بتحويل البنوك التقليدية الى بنوك إسلاميّة لا تتعامل ب"الربا"؛ مع الإبقاء على الآليّات المعمول بها في تلك البنوك؛ لكن هذه المحاولة هي نفسها لاقت مصير سابقتها حيث لم تستمر أكثر من عدة أشهر بسبب شح المردودات المصرفية وعجز المصارف المتعاملة بدون فوائد عن القيام بأعمالها بدون مساعدة الدولة لها لدفع مصاريفها اليوميّة.
أمّا في عام 1970؛ فقد قدّم كل من الوفد المصري و الباكستاني لمؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلاميّة المنعقد في كراتشي عاصمة الباكستان إقتراحاّ بإنشاء "بنك إسلامي دولي" أو إتحاداً دوليّاً للبنوك الاسلامية؛ و ذلك خلال المؤتمر الثاني لوزراء خارجية الدول الإسلامية المنعقد في كراتشي، وكانت قد تمّت بالفعل دراسة المشروع و تقديم تقريراً ينص على ضرورة تطوير "نظام إسلامي" يكون بديلاً للنظام العالمي الذي قالت عنه بعض الوفود الإسلامية - وخاصّة تلك المتشددة بعض الشئ مثل السعودية وباكستان وبعض الدول الخليجية الأخرى - بأنّه يعتبر نظاماً ربويّاً، وإعتبروه "محرّماً شرعاً" وفق ذلك التعريف.
أمّا في عام 1971؛ فقد شهد ذلك العام تأسيس "بنك ناصر الاجتماعي" الذي بدأ بممارسة نشاطاته المصرفية عمليّا في عام 1972، ونصّ قانونه التأسيسي على عدم التعامل بالفائدة. و قد إسترعت هذه التجربة اهتماما كبيرا جعلها تُدرج على جدول أعمال إجتماع وزراء خارجية الدول الإسلامية عام 1972 في مدينة جدة الذي درس إمكانية إقامة بنوك إسلامية محلية و بنك إسلامي دولي، ولكن لم يخرج المجتمعون حينها بإتفاق إقراري بينهم.


أمّا في عام 1973 ، فقد طرحت في إجتماع وزراء مالية الدول الإسلامية في مدينة جدة من جديد فكرة إقامة بنوك إسلامية تعمل على تقديم خدمات مصرفية متكاملة وبدون فوائد، كما ناقش المجتمعون حينها كل الجوانب النظرية والعملية لإقامة نظام للبنوك و المؤسسات المالية الإسلامية. وقد لاقت تلك الفكرة الترحيب و القبول؛ حيث إنتهى الاجتماع الى ضرورة وضعها موضع التنفيذ.
وبرغم كل تلك الإرهاصات، وإصرار بعض الدول الإسلاميّة ذات أنظمة الحكم المتشددة، والتي تعتمد على دعم شيوخ الدين في مشروعيّتها وإستمراريّتها برغم الغياب الكلّي للديموقراطيّة فيها؛ برغم كل ذلك يمكن القول بأن العمل المضني من أجل تأسيس نظام مصرفي "إسلامي" - كما يصر شيوخ الدين - كانت بدايته الفعلية ربّما في عام 1975 حينما صدر المرسوم الأميري في دولة الإمارات بتأسيس بنك دبي الإسلامي الذي إشتمل على تقديم خدمات مصرفية متكاملة. و تم في نفس السنة تأسيس البنك الاسلامي للتنمية و هو مؤسسة دولية لتمويل التنمية تشارك فيها جميع الدول الاسلامية.
تلك كانت ربما حوصلة تاريخية لنشوء ما يعرف ب"الصيرفة الإسلاميّة"، وقد رأينا بأن المسلمين لم يقدروا على الإتفاق لتأسيس مصارف إسلامية تتعامل بدون فوائد مصرفية تمكّن المصارف من أداء مهامها بدون الإعتماد على الدعم الحكومي... بمعنى إنشاء مصارف بجودة عالمية تكون معتمدة على نفسها بدون الحاجة إلى دعم مالي حكومي، وتقدر على منافسة المصارف والمؤسّسات المالية العالمية الكبرى من خلال مواردها الذاتيّة.
وختاماً لحلقة اليوم؛ أطرح عليكم قائمة بمحاولات "البنوك الإسلامية" العبور فوق مشروع "الفائدة المصرفيّة"، وسترون بأن كل تلك المحاولات كانت ليست أكثر من "إيهام" الزبون بأنّها لا تتعامل بنظام الفائدة "الربوي" كما تقول إداراتها المطعّمة بممثلين من شيوخ الدين على هيئة "إستشاريين" أو من الناحية العملية "مفاتئ" :-
  1. المرابحة: هي نوع من أنواع البيوع وهي بيع بضاعة بنفس السعر التي أشتراها بها البائع مع أضافة "ربح" معلوم بنسبة من سعر الشراء أو مبلغ أضافي محدد مسبقاً بناء على وعد بالشراء من العميل وهي تسمّى "المرابحة المصرفية"، وهي أن يوقع عقد بين من يريد شراء بضاعة والمؤسسة المصرفية الإسلامية حيث تقوم المؤسسة المصرفية بشراء البضاعة ومن ثم "تضيف" على الثمن الأصلى مبلغ صغير(فائدة) كمصاريف أضافية؛ ومن ثم تبيعها لمن يريد شراء البضاعة (العميل) عن طريق أقساط يدفعها العميل، وهذا ما يبرر عدم شرائه للبضاعة مباشرة من مالكها الأول تحت إسم "الإجارة".
  2. الإجارة: هي من العقود "الشرعية" المعلومة في الفقه الإسلامى وأساسها يكمن في بيع "منافع الأشياء" مع بقاء أصولها في ملكية البائع؛ ومنها نوعان: الإجارة المنتهية بالتمليك، والإجارة الموصوفة بالذمّة.
  3. الاستصناع: عقد "الأستصناع" هو عقد يبرم مع جهة مصنّعة بحيث تتعهد بموجبه بتصنيع سلعة ما وفقا لشروط معينة يفرضها المصرف "المصرف الإسلامي" وعند حلول الأجل يقدّم الصانع منتوجه للمصرف؛ وفي حالة قبول المصرف لها يبيعها المصرف على أنها سلعة خاصة "مصنّعة محلّيا"، و"فائدة" المصرف هي "المبلغ الزائد" عن التكلفة الكلّية للسلعة والتي يحددها المصرف ذاته.
  4. المضاربة: المضاربة في "علم" فروع الفقه هي عقد بين شخصين، يقدّم أحدهما بموجبه مالاً إلى الآخر ليتاجر فيه "بنصيب من الربح" (فائدة)، فإن لم يكن ثمّة ربح فالمال لصاحبه، وإن كان فيه وديعة فمن المال، وليس على الذي إتّجر في المال شيئاً من الوديعة. ويسمّى الطرف الذي يقدّم المال "صاحب المال" أو رب المال أو المالك أو المقارِض. ويسمّى الطرف الذي يتولّى التجارة والعمل "العامل" أو صاحب العمل أو المضارب أو رب العمل أو الأمين أو المقارَض.
  5. المقارضة: المقارضة هي من "القراض"، وهو من عقود المعاوضة غير اللازمة والجائزة بالسُنّة التقريرية والإجماع، وهي مما كان معمولاً به في الجاهلية فأقرّه الإسلام.
  6. المشاركة: المشاركة هي أن يقدم الطرفان المال بينما الإدارة قد تكون من الطرفين أو أحدهما على شرط أخذ مبلغ إضافي(فائدة) من صافي الربح مقابل المجهود؛ وسمّي بالمشاركة لأن شرطه مشاركة الطرفين للربح والخسارة كما يحق لأيّ من الأطراف أن يبيع مساهمته لطرف ثالث خلال مدة العقد.
  7. القرض الحسن: القرض الحسن هو قرض يدفعة المصرف وفق شروط معينة متفق عليها ولا يقاضى المصرف أي زيادة عند سداد المبلغ من قبل المقترض.
  8. الحسابات الجارية: الحسابات الجارية هي خدمة توفّرها المصارف الإسلامية كما هي في المصارف العادية وهي قبول والإحتفاظ كأمانة بأموال يودعها العملاء لا تضاف عليها أية فائدة "ولا تتحمّل أية مخاطر" ويمكن للمصرف ان "يضيف عليها جوائز"(فائدة) غير مسبقة التحديد، وتسمح بعض المصارف الإسلامية بالسحب على المكشوف "لبعض" العملاء ولا تتقاضى عليهم أية فوائد، وإنّما يكون المال المودع بمثابة قرض "حسن" يخضع "لشروط" محددة يتم الإتفاق عليها.
تلك كانت قائمة غير حصريّة لما يسمّى ب"الصيرفة الإسلاميّة"، وأختم القول بالتنويه إلى أن هناك بعض "فقهاء المسلمين" مثل شيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوي من يرى بأن "لا حرمة" في معظم معاملات المصارف التقليدية، وقد خصّ بالذكر أنه "يحل" للمسلم أخذ "فائدة" عن المبالغ التي يودعها في المصرف، وكذلك "فائدة" على "الاقتراض" من المصرف لغرض إقامة المشاريع أو شراء العقارات والسيارات. كما يرى الكثير من خبراء المال والصيرفة في العالم الإسلامي أنه "لا يوجد" أي فرق جوهري بين المصارف الإسلامية والمصارف العادية باستثناء ""تغيير المسمّيات"" !!.
في الحلقة الموالية سوف أتعرّض لبعض الخزعبلات المصرفيّة بإسم الدين، وكيف هم "المتاجرون بإسم الدين" يضحكون على الناس ب"تغيير المسمّيات". 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك