2022/02/13

الصيرفة الإسلاميّة والمتاهات المصرفيّة (الحلقة الخامسة)

في حلقة اليوم سوف أتحدّث عن "الصيرفة الإسلاميّة"، وسوف أحاول أن أكون صادقاً ومنصفاً في نقل ما وجدته في هذا الخصوص.
فبغض النظر عمّا يكتب في المراجع والدوائر الإسلاميّة التي يشرف عليها رجال الدين ومن هم في خانتهم؛ فإنّه يمكن القول وبصراحة أنّه لم يكن في تاريخ المسلمين منذ بداية النبوّة وربما حتى يومنا هذا.. لم يكن هناك أي إهتمام بالأعمال المصرفية أكثر من البيع والشراء والمبادلات النوعيّة وعمليات الإقراض البسيطة التي تتحكّم فيها في الغالب الطبيعة البشرية لمنطقة الجزيرة العربية؛ أي التعاملات الإجتماعية بين الأقرباء والمعارف.
كان كل إهتمام المسلمين منذ البداية وحتى يومنا هذا - مع تغيير الكيفية والوسيلة والخطاب - هو نشر الإسلام بأية وسيلة وبأية طريقة كانت. لم يهتم العرب ولا من لحق بهم من المسلمين غير العرب بالنظام المصرفي أو إنشاء المصارف ربّما بسبب "الثقافة" السائدة وطرق التفكير.
ففي زمن التوسّع الإسلامي في العالم؛ ربما من فترة ما سمّي حينها بالفتوحات وحتى الإمبراطورية العثمانية مروراً بالدولة الإسلاميّة في الأندلس؛ لم نقرأ بأن العرب أو المسلمين كانوا قد أنشأوا المصارف أو أنّهم أبدعوا في تأسيس و تطوير أي نظام مصرفي أكثر من الحديث عن بيت مال المسلمين والزكاة والديّة أو القصاص على من لم يرغب في دخول الإسلام في تلك البلاد التي دخلها المسلمون. وكذلك لا يجب التغاضي عن "الغنائم" التي هي بدورها يمكن تأليف كتاباً عنها.
تلك الثقافة التي كانت متّبعة لم تخرج لنا علماء إقتصاد أو مفكّرين ماليين أو مصارف إسلاميّة. فبينما كانت بلاد العالم الأخرى تفكّر بطرق مختلفة إستناداً إلى الثقافات المجتمعيّة في كل كيان بشري سواء كان ذلك في آسيا، أفريقيا، أوروبا أو الأمريكيتين؛ كنّا نحن نفتخر بإستلاب الغنائم والإعتداء على ممتلكات الناس في البلاد التي كنّا نستعمرها (نفتحها)، ونبدع في ذلك النهج الذي يجيز للمسلم الإستيلاء على ممتلكات غيره بحجّة أن غيره من "الكفّار".
فبعد ثورة العالم الغربي على الكنيسة وإبعاد شيوخ الدين عن سدّة إتخاذ القرار، بدأت بلاد العالم في أوروبا في الإنعتاق من سيطرة شيوخ الكنيسة سواء كان ذلك من الناحية المعرفية والثقافية أو كان من الناحية التسييرية (أنظمة الحكم). وبدأت أوروبا بالفعل من حينها تنطلق إلى الأمام في تطوّر مضطرد حتى كانت أوّل محاولة مصرفية ناجحة في إيطاليا في عام 1472م. بعد ذلك - وكما نعرف - أخذ النظام المصرفي في أوروبا يتطوّر ويتحسّن لصالح المواطن العادي حتى وصلنا إلى النظام المصرفي العالمي الحديث بكل مميّزاته وبكل نقاوته وشفافيّته وخضوعه لقوانين الدولة التي تصدرها مجالس تشريعية ينتخبها الشعب.
وكما تبعناهم في شكل ونوعية وكيفية إختيار أنظمة الحكم - بعد أن تنازلنا عن أنظمتنا القديمة من خلائف إلى أمراء إلى سلاطين - وأخذنا بأنظمة حكمهم التي يختارها الشعب مع أنّنا بالطبع طبقّناها على هوانا ووفق خلفياتنا الثقافية التي مازالت وللأسف تنادي بطاعة "وليّ الأمر" ووجوب الطاعة العمياء له، وتحريم إنتقاده أو الإعتراض على آوامره حتى وإن كانت جائرة. فكما أنّنا تبعناهم في شكل وطريقة إختيار حكّامنا بل وتسمية أنظمة حكم دولنا من جمهورية وملكية؛ فإنّنا أيضاً تبعناهم في التعامل ببنوكهم كما هي وكما قنّنوا لها بما في ذلك النظام الريعي(الفائدة) بالطبع؛ وبقيت تعاملات دولنا الإسلاميّة بالنظام المصرفي العالمي حتى يومنا هذا مع خروج الكثير من شيوخ الدين - المتشددين والغير فاهمين لأنظمة المصارف العالمية والكيفية التي تتعامل بها مع الزبون - عن ذلك السياق، وكذلك عدم توافق رجال الدين عندنا فيما بينهم على تعريف كلمة "الربا" التي ذكرت في القرآن الكريم. فلم يعرّف الله "الربا" على الإطلاق في القرآن؛ ومن ثمّ ترك التعريف للبشر كي يفتوا فيه. إستغلّ شيوخ ديننا ذلك الفراغ التعريفي، وولغوا فيه؛ كلّ حسب معارفه وثقافته وإجتهاده من خلال الجهة (الطائفة) التي ينتمي إليها أو يتبعها.
وكما خرج علينا من بين شيوخنا من كفّر الديموقراطيّة من أمثال الشيخ محمد بن عبد الوهّاب، والشيخ إبن تيمية، والشيخ بن العثيمين، والشيخ بن باز، والشيخ علي بن خضير بن فهد الخضير، والشيخ سيّد قطب، والشيخ أبوقتادة، والشيخ أسامة بن لادن، وكذلك الشيخ عبد الكريم الشاذلي قبل أن يستفيق من سباته، ويتنكّر لفتاويه السابقة بعد حبسه وعفو الملك الراحل محمد الخامس عنه. فكما خرج علينا الكثير من شيوخ الدين ومفاتيهم وهم يكفّرون الديموقراطيّة؛ خرجت علينا جموعاً أخرى من شيوخ الدين وهي تكفّر التعامل بالفائدة المصرفية بإعتبارها ربا من أمثال قرار مجمع البحوث الإسلامية في عام 1965، وكذلك فتوى جبهة علماء الأزهر، وكذلك مجمّع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في ديسمبر 1985. كذلك قرار المجمّع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي برئاسة الشيخ ابن باز؛ علاوة على قرار هيئة كبار العلماء في السعودية، وغيرهم كثير وكثير جداً؛ مع أنّهم كلّهم كانوا "شيوخ دين" ولم يكن من بينهم خبراء مصارف أو إقتصاد أو معارف ماليّة أو إستثماريّة.
ومع كل ذلك مازالت أغلب البلاد الإسلامية تتعامل بنظام الصيرفة العالمي، ومازالت كل المصارف التي سمّيت إسلاميّة تحاول الإلتواء على النظام المصرفي العالمي من خلال تسميات تعتبر من وجهة نظري مضلّلة ومخدّرة لعقول البسطاء من المسلمين الذين كانوا بالفعل ضحايا ذلك التلاعب المالي من قبل تلك المصارف التي تطلق على نفسها "إسلاميّة"، ومن بين تلك الوسائل التضليلية:-
  1. المضاربة: وهي أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتّجر له فيه على أن يتفقا على تقسيم الربح فيما بينهما حسب ما يشترطانه في بداية الإتفاق. فأساس المضاربة هو أن يستبدل بكلمة "الفائدة" ب"المشاركة" في الأرباح؛ حيث يقدّم أصحاب رؤوس الأموال جزءاً من أموالهم للمصرف، ويقوم المصرف بعد ذلك بتقديمها إلى رجال الأعمال، ويمكن للبنك أن يحتفظ بودائع استثمارية تتجه فيها الودائع للاستثمار في مشروعات معينة.
  2. المشاركة: حيث يكون رأس المال مشتركاً بين المموّل والمصرف، ويتحمّل كل منهما "المخاطرة"؛ ومن ثمّ توزّع الأرباح بينهما حسب ذلك الاتفاق. وتعدّ صيغة المشاركة هي الصيغة المفضّلة في التمويل متوسّط الأجل؛ لأنها تتغلّب على مشكلة إنخفاض قيمة العملة.
  3. بيع المرابحة: هو أن يبيع بمثل الثمن الأوّل مع "زيادة" ربح. ويتم بيع المرابحة بطلب العميل من المصرف أن يشتري له من السوق المحلية، أو يستورد من الخارج سلعة معيّنة بمواصفات مطلوبة من المصرف؛ فيشتري المصرف هذه السلعة بثمن معيّن، ثم يبيعها للعميل بثمن "أكثر"، ويسمّى هذا التعامل "بيع المرابحة" للآمر بالشراء كنوع من "المراوغة" و"التغطية". ومن المعروف أن أكثر من يستفيد من هذا الإجراء "التضليلي" هم أصحاب المصانع والحرفيّون وأصحاب رؤوس الأموال.
  4. البيع المؤجل: هو البيع الذي يستحق فيه دفع ثمن السلعة المباعة بعد أجل معين، سواء أكان ذلك "دفعة واحدة" أم كان "على أقساط". وتباع السلعة عادة ب"أغلى" من ثمنها الحالي نظير تأخير الثمن؛ لأن الأجل له "حصّة" من الثمن.
  5. الاستصناع: هو عقد على شراء ما سيصنعه الصانع، وتكون العين والعمل من الصانع، والدافع هو صاحب رأس المال؛ ولا يمكن أن يتم ذلك بدون "ارباح" يستفيد منها صاحب رأس المال المستثمر.
  6. السَّلم: هو بيع موصوف في الذمّة، أو بيع آجل بعاجل؛ حيث يقوم البنك ببيع عملائه سلعاً مؤجّلة التسليم، ويقبض منهم الثمن حاضراً، أو يشتري من عملائه سلعاً مؤجّلة، ويعطيهم الثمن حاضراً؛ وفي كل ذلك لابد من وجود "فوائد" ولكن بتسميات أخرى بهدف "التعمية" أو "التحايل".
ومع كل تلك الفتاوي التي نسمعها في كل يوم عن تحريم الفائدة المصرفيّة وتصنيفها على أنّها ربا؛ إلّا أن الكثير من شيوخ الدين لم يكونوا مقتنعين بذلك من أمثال:
  1. الدكتور عبدالرحمن العدوي أستاذ الشريعة الإسلامية.
  2. الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، ومفتي مصر السابق.
  3. الدكتور علي جمعة مفتي مصر السابق.
  4. الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الشريعة الإسلامية، عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر .
وهناك قوائم لا حصر لها من شيوخ الدين "الدكاترة"من كانوا قد أفتوا بجوازية التعامل بالفائدة المصرفيّة، وسوف أشرح مع التفصيل في الحلقة الموالية من هذه السلسلة والتي سوف تكون تحت بند "فائدة أم ربا"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك