2022/02/20

الصيرفة الإسلاميّة والمتاهات المصرفيّة (الحلقة السادسة)

في حلقة اليوم والحلقة الموالية؛ سوف أتحدّث عن طبيعة وشكليّة وتعاملات المصرف.
دعوني أبدأ بالقول بأن كلمة "مصرف" هي ليست ترجمة فعليّة للبنك. فكلمة مصرف تعني "الصارف"Dispenser أو الذي يصرف منه... وقد - ربّما - يكون رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة هو المثال العملي للمصرف أو الصارف حسب تعريفنا له... أي أنّه يصرف ويصرف ثم يصرف؛ فيمكن تسمية الدبيبة مصرف "مسرف". أي أن المصرف هو في واقع الأمر من يصرف الأموال، والكلمة أخذت من "الصرف"؛ وذلك بحد ذاته يعتبر جهلاً بمهام البنك كما كان قد أسّس عليها أو تم تطويره من أجلها عبر القرون من الزمان.
تلك الترجمة القاصرة هي ما جعلت بعض المنغلقين على أنفسهم والمتكلّسين في الفكر يرون البنك على أنّه ليس أكثر من صارف للمال لمن يطلبه ولكن بفوائد مجحفة أسموها "ربا".
سوف أتحدّث عن "الربا" في الحلقات الموالية إن شاء الله، لكنّني اليوم سأفرد هذه الحلقة لمفهوم "البنك" الذي علينا البحث عن ترجمة واقعيّة وفعليّة له في لغتنا العربيّة أو نقله كما هو لعدم وجود نظيراً له في ثقافتنا العربية.
البنك هو في واقع الأمر عبارة عن محل بقالة(متجر أو دكّان) لا يختلف عن أي متجر وفي أيّ مكان في العالم؛ والإختلاف هو فقط في نوعيّة البضاعة المتاجر بها.
التاجر كما نعرف يتعامل بالبضائع من حيث البيع والشراء، والبنك يتعامل بالأموال من حيث البيع والشراء. التاجر يشتري البضاعة ثم يهتم بها ويضيف عليها بعض الإصلاحات كأن ينظّفها أو يوظّبها أو يقوم بتصنيفها ومن بعدها يعرضها للبيع بأثمان أعلى من تلك التي يشتريها بها. الفرق بين ثمن الشراء وثمن البيع نقول عنه بأنّه "الربح"، ونعتبر الربح عمليّة قانونية ومحقّة... والأهم هو أنّنا نعتبرها "شرعيّة". وفي هذا الإطار دعوني أسأل أياً منكم سؤالاً بديهيّاً: ماذا يحدث لو أن التاجر باع بضاعته بنفس ثمن الشراء... بدون أرباح(فوائد)؟. ذلك التاجر سوف يعلن إفلاسه في غضون أيّام... ومثل ذلك تماماً قد يحدث للبنك.
البنك يقوم تحديداً بنفس المهمّة؛ غير أنّه بدل بيع وشراء البضائع يشتري ويبيع الأموال. فالبنك بمجرّد شرائه للأموال التي يتاجر بها؛ يقوم بوضعها في أرفف مختلفة كل منها تصنّف حسب الغرض المعد لها. يقوم البنك بعد ذلك بتصنيف أوجه الصرف(البيع) حسب المقتضيات، ويبيع المال الذي إشتراه بثمن أعلى قليلاً من ذلك الذي دفعه حينما تحصّل على ذلك المال. الفرق بين البيع والشراء يسمّيه البنك "فائدة" ويسمّيه شيوخ الدين عندنا "ربا". أمّا الفرق بين البيع والشراء للدكّان فنسمّيه "ربح"، وذلك هو ما يجيزه شيوخ الدين بإعتباره "تجارة".
التجّار يبيعون نفس البضاعة بأثمان مختلفة ويتحصّلون على أرباح مختلفة حسب حذق التاجر ومكان وجوده ونوعية الزبائن الذين يتعاملون معه. فمثلاً قد تشتري علبة الطماطم بدينار من هذا المحل، وبدينار وربع من محل آخر، وبدينار ونصف من محل ثالث وقد تجد محالاً تبيع علبة الطماطم بدينارين إن لم تكن هناك منافسة في ذلك المكان، وإن كانت هناك "حاجة" للزبون لا يجدها في كل منطقته فيضطرّ لشراء علبة الطماطم بدينارين. كل ذلك نسمّيه تجارة، ونقول عن الفرق بين البيع والشراء على أنّه مجرّد أرباح رضي بها الزبون وإستفاد منها التاجر وتلك نقول بأنّها مشروعة؛ ويحكم عليها شيوخ ديننا بأنّها "حلال" حتى وإن بلغت ضعفي ثمنها الأصلي، وحتى وإن إستغلّ التاجر حاجة الزبون وعدم مقدرته على الحصول عليها من مكان آخر.
البنوك وحسب التحسينات التي أضيفت إليها حديثاً(تطويرها)، وبسبب مقدرة الحكومات على السيطرة عليها وفرض القوانين الصارمة في كل تعاملاتها... البنوك أصبحت اليوم تعاير أرباحها (نسبة الفائدة) من خلال قوانين الدولة وإستناداً إلى تعاملات البنك المركزي... بنك الدولة. كذلك فإنّه يتوجّب على البنوك عرض تعاملاتها بكل وضوح للزبون، وكذلك شرحها له. كذلك فإن الزبون من حقّه بأن يعرف كم يرد في كل شهر حينما يستلف قرضاً من البنك، ومتى ينتهي قرضه، وكم هي كميّة الفائدة التي عليه بأن يدفعها في نهاية تسديد قرضه. كذلك فإن الزبون من حقّه بأن يختار المدة التي يكون بوسعه إرجاع القرض الذي إستلفه حسب قدراته، ويعرف بالتوثيق فائدة كل المدة الزمنية قبل أن يستلف المال. هناك شيئاً آخر لابد من التنويه إليه وهو أن البنوك هي ليست أكثر من دكاكين متوزّعة في كل مكان في الآماكن السكنيّة في داخل المدن أو خارجها مثلها مثل الدكاكين، وكل بنك يعرض بضاعته بالمكشوف وبكل وضوح، ويتواجد بداخل البنوك من يشرح لك كل المجاهيل في التعاملات البنكية، ويجيب على أسئلتك بإبتسامة وبالكثير من الإحترام والتقدير(في الدول المتقدّمة بالتأكيد !!). بل إن الأكثر من ذلك أنّهم يعطونك فرصة لتغيير رأيك إن وجدت عرضاً أفضل من عروضهم أو أنّك ربّما تمكّنت من تدبّر أمورك من جهة أخرى؛ فلا يأخذ منك البنك أية فوائد طيلة المرحلة التجريبية والتي قد تكون إسبوعين أو أكثر.
الدكاكين من الناحية الأخرى؛ أغلبها لا يعرض سعر البيع، وعليك بأن تسأل عن الثمن قبل أن تشتري، وأحياناً يعطيك التاجر سعراً أكثر من الغير معلن إن رآك في حاجة أو تظهر عليك النعمة. كذلك فإن إشتريت بضاعة وذهبت بها للبيت فإن أغلب المتاجر - وخاصّة في مناطقنا المتخلّفة - لا ترضى بقبول بضاعتها بعد شرائك لها حتى وإن وجدت محلّاً يبيعها بأرخص من ثمنها الذي إشتريته بها. كذلك؛ فإن الدولة لا تفرض على أصحاب المتاجر والدكاكين أسعاراً معيّنة ولا تحدّد لأصحاب المتاجر كم الأرباح من عمليات البيع. التاجر هو من يحدد ثمن البيع ويحدد أرباحه من كل شئ يبيعه، وقد يغيّر التاجر ثمن البضاعة في الليل حينما يعرف بأنّها مطلوبة أو لا يوجد مثيلاً لها في منطقته، ويضطر حينها الزبون للشراء بالثمن المعروض حيث لا يجد بديلاً لسداد حاجته وحاجة أطفاله الجيّاع. مع كل ذلك؛ فإن الدكاكين والمتاجر مازالت تعتبر عند شيوخ الدين تجارة "حلال" ولا يختلفون على ذلك.
سوف أكتب المزيد في هذا الإطار في الحلقة السابعة، وسوف أتحدّث عن المعاملات الأخرى للبنوك والمعاملات الأخرى للتجّار بإذن الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك