2022/09/24

عالمهم وعالمنا.. محاسنهم ومثالبنا (2)

 يوجد بيننا في هذا الدنيا من يبدع في النبوغ والإحتراف والإمتهان والحرص على وضع بصمات العقل على مسارات الحياة من أجل إسعاد البشر وتيسير سبل الحياة لهم.


في حلقة اليوم سأتناول الجانب العلمي والمهني والذهني لملاحظاتي حول الملتقى الطبّي المقصود في الحلقة السابقة.
أقول بأنّني بالفعل رأيت بعينيّ النبوغ والإحتراف والإمتهان والحرص على وضع بصمات العقل على مسارات الحياة من أجل إسعاد البشر وتيسير سبل الحياة لهم.
كانت قاعة المؤتمر الطبّي مكتظّة بالحاضرين، وكان الإعداد والتنظيم على أحسن مظاهره. كان كل من حضر بالفعل يرغب في أن يعطي ويأخذ، في أن يشارك ويساهم، في أن يعلّم ويتعلّم. تلك هي بديهية الحياة، وذلك هو مسلك الإنسان في هذه الحياة.
الذي شدّ إنتباهي بالفعل هو تلك الخامات البشرية المنتقاة للتحدث إلينا ومشاركتنا في آخر أبحاثها وعلومها وخبراتها وممارساتها المهنيّة. بشر تم إختيارهم ليتحدّثوا إلينا ويشاركوننا نتائج أبحاثهم. كان منهم النساء وكان منهم الرجال؛ وبالفعل نبغت العقول النسويّة بشكل فاق ما تمكّن الرجال من تقديمه.
كان من بين المحاضرين بوفيسورة من السويد, بروفيسورة من فرنسا، وبروفيسورة من ألمانيا. كان أيضاً من بين المحاضرين بروفيسور من فرنسا، أستاذ دكتور من ألمانيا، وأستاذ دكتور من سويسرا. ذلك بالطبع بالإضافة إلى آساتذتنا هنا في بريطانيا والذين من بينهم الدكتورة النبهة الفرنسية الأصل ماري هيلين ماريون رئيسة شبكة السموم الطبيّة البريطانيّة، والتي كانت هي صاحبة الفكرة في إنشائها والمؤسِّسة الحقيقيّة لها في عام 2011م.
أنا عرفت الدكتورة ماريون في عام 2011م لأوّل مرّة ومن حينها بقينا على تواصل مهني، وهي تعرفني جيّداً ب"الدكتور المشاغب" في كل ملتقى سنوي لشبكتنا العلاجيّة أو خلال الملتقيات السريرية الأخرى بينها. أنا عندها "الدكتور المشاغب" لأنّني لا تمر على مسامعي محاضرة أو طرح بدون أن أكون أحد المتدخّلين فيها بالسؤال أو الإضافة أو الإعتراض وطرح وجهة النظر البديلة من خلال عملي وخبرتي في هذا المجال.
بالمناسبة - وللمعلومية فقط - أنا لم أكن "الطبيب المشاغب" للدكتورة ماريون فقط؛ بل إنّني خلال مؤتمر دولي في برشلونا بإسبانيا حول مرض "التصلّب اللويحي" في عام 2004م أذكر بأنّني كنت من بين الجالسين في الكراسي الخلفية من القاعة المكتظّة حيث أن الكراسي الأمامية تترك دوماً للآساتذة الكبار والبروفيسورية المعروفين، ونجلس نحن من خلفهم إحتراماً لهم وتماشياً مع البروتوكول المتحضّر والحضاري. المهم أنّهم - الآساتذة الكبار - في ذلك اليوم كانوا يتحدّثون عن "معايير ماكدونالد" McDonalds Criteria في تشخيص حالات التصلّب اللويحي، وكنت أنا بالفعل قد عانيت كثيراً من تلك "المعايير" الناقصة والغير كافية حينما كنت أبحث في موضوع "الوهن المفرط عند مرضى التصلّب اللويحي". وبينما أنّني كنت أستمع إليهم وهم يعيدون ويكرّرون ويستندون إلى معايير ماكدونالد في كل أبحاثهم التي كانوا يحدثوننا عنها؛ وحينها شعرت بالغضب والإنقباض.. فرفعت يدي طالباً الحديث وكان أن أُذن لي بالتحدّث، وبالفعل وقفت قائلاً: تلك المعايير التشخيصية التي تتحدّثون عنها هي من وجهة نظري ناقصة ومبتسرة ولا يمكن الإعتماد عليها في تشخيص بعض الحالات الشاذة قليلاً عند أولئك الذين نحاول تشخيص أعراضهم. أذكر بأن كل الرؤوس كانت قد إستدارت نحوي بما في ذلك تلك "الرؤوس الكبيرة" في المقدّمة، وكانت بالنسبة لي "لحظة رهيبة بالفعل". لم أخف حينها ولم أرتعب ولم أتردد ولم أتلعثم... واصلت كلامي؛ وفجأة بدأت كل الرؤوس تهز بالموافقة وكل الأصوات تقول معاً "يا يا يا".... نعم، نعم، نعم. آه؛ كم كان ذلك الصباح رائعاً بالنسبة لي، وكم أحسست حينها بنشوة "الإنتصار العلمي".... وكانت بالفعل من أسعد لحظات حياتي وقتها.
في عام 2011م في لندن. كنّا نحضر مؤتمراً بريطانيّاً بحضور دولي حول مشروع البدء في علاج مرض "الشقيقة" Migraine بالحقن بالبوتوكس. كانت هناك عقولاً فذّة في هذا المؤتمر؛ من بينهم البروفيسّور الأسترالي "بيتر غودسبي" الذي كان يرأس ذلك المؤتمر. كان المتحدّثون الكبار والآساتذة العظام يجلسون في المقدّمة، وكنّا نحن الناس البسطاء نجلس خلفهم في قاعة المؤتمر. أذكر بأن كل المتحدّثين الكبار كانوا يرغون ويزبلون ويلوّكون عن تلك البحوث المضنية، والنتائج الباهرة التي تم نشرها بخصوص فعالية البوتوكس في علاج المايغرين، وكان كل من أدلى بدلوه وهو يتحدّث عن أهمّية التحاور والتواصل بين الإستشاري وطبيب العائلة والصيدلاني في علاج والسيطرة على هذا المرض المزمن الذي يعتبر من أكثر الأمراض تأثيراً على حياة البشر بسبب أن الكثير من الناس الذين يعانون من مرض الشقيقة المزمن يصابون به خلال الفترة المنتجة والمبدعة من حياتهم(فترة الشباب) فيتأثّرون بهذا المرض بشكل كبير. كان المتحدّثون وقتها أيضاً يتكلّمون عن تلك المليارات من أموال الخدمات الصحية في بريطانيا التي تذهب هدراً من أجل السيطرة على هذا المرض، وكم من المليارات يمكن توفيرها لو أنّنا بدأنا سريعاً وعاجلاً في إستخدام البوتوكس !!.
بكل تأكيد؛ كانت هناك تأثيرات كبيرة من شركات الأدوية المنتجة للبوتوكس على تفكير ومواقف المشاركين، وكنت أنا لا أغفل ذلك العامل المهم هنا في أوروبا الغربية وفي شمال أمريكا. المهم؛ أنّه عند حوالي الحادية عشرة والنصف صباحاً بدأت أحسّ بالملل من تكرار ذكر تلك المهن والمحترفين في علاج هذا المرض المزمن؛ ووصل بي الغضب لذلك "الوصيد"Threshold ممّا حداني لأن أرفع يدي مطالباً بالإذن لي بالحديث، وكانت بالفعل تلك المفاجأة !!.
أنا من بين المؤمنين يقينيّاً بما يسمّى عندنا هنا ب"النهج الشمولي"The Holistic Approach في معالجة المصابين بالأمراض المزمنة، وكانت تلك هي فلسفتي في معالجة كل مرضاي. وأقولها هنا بكل تواضع.. كانت لي نتائج أفتخر بها، وسوف أذكر منها بعض الأمثلة الناصعة في الحلقة الموالية من هذه السلسلة.
المهم أنّني وقد بلغ عندي "السيل الزبى" قرّرت "التدخّل السريع". رفعت يدي مطالباً بالإذن لي بالتحدّث وكان أن قلت وبكل قوة وبعض "الشراسة": منذ بداية هذا المؤتمر وأنا أسمع عن الإستشاري، وطبيب العائلة والصيدلاني ولم أسمع قط كلمة "المريض" كجزء مهم من هذه المعادلة المعقّدة. تفاجأت مرة أخرى بما ذكّرني بمشاكستي في إسبانيا 7 سنوات مضت. بالفعل وبكل صدق إلتفتت كل الرؤوس نحوي، وكانت قد علت الأصوات "يا يا يا"... نعم، نعم، نعم... وكان يوماً "عظيماً" بالنسبة لي بالفعل !!. تلك الحادثة الجميلة هي آخر ما أضيف في مقالي لهذا اليوم لكلّ من ربّما كان قد أجهد نفسه في قراءة ماكتبت في هذا المقال... آخر ما أضيفه هنا في نفس السياق هو أنّه - ومنذ تلك اللحظة وبالفعل - دخل "المريض" في كل محاضرة ومداخلة وتعليق حتى نهاية المؤتمر مساء ذلك اليوم. بصدق؛ لقد أصبح "المريض" وأسرته هناك حاضرين كطرف مهم في معادلة العلاج عند كل من تحدّث بعد ذلك، وكان لك هو تحديداً كل ما تمنّيته وقتها. يومكم سعيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك