القيم الأخلاقية يبنيها المجتمع، وهي متجذّرة في القيم المجتمعيّة، ولا يمكن فرضها بظواهر "غبيّة" مثل فتاوي التحجّب والتخمّر والتنقّب والتبلغم. أيضاً لا ترسم معالمها تلك اللحي الطويلة الغير موضّبة، ولا تلك "اللطع الحمراء" على جباه الرؤوس، ولا تلك "السبح" المتدلية من اليد وأمام الناس، ولا ذلك "التلفّظ" بالعبارات الدينية وكثرة الإستشهاد بسير الأوّلين. القيم الأخلاقية تبنيها الثقافة ويبنيها التعليم، وتبنيها البيئة التي تتفاعل مع محيطها وليس تلك التي تتقوقع في دهاليز الماضي السحيق.
كنت في الخامسة الإبتدائي، وأقول هنا بأن تلك السنة تحديداً كانت مهمّة جداً بالنسبة لي من الناحية المعرفيّة واللغويّة. كان مدرّسي في اللغة العربية من الأساتذة الذين بصدق تفتخر بهم وتترحّم عليهم من القلب. كان نبهاً وذكيّاً ومحبّاً بشكل كبير للغة العربيّة والأدب العربي بما في ذلك الشعر. كان من خريجي مصر في عهد زعيم العرب وبكل جدارة المرحوم جمال عبد الناصر.
المهم، وبعيداً عن السياسة.. كنت أنا في فصلي من بين الأوائل، وكان دائماً ينافسني على الأولوية طفل ذكي وعنده إصراراً كبيراً جداً على أن يكون هو "الأوّل" في كل شئ. كنت أنا وهو من "الأعداء-الأصحاب" المتخاصمين دوماً بسبب ربّما ذلك التنافس الخفي على الصدارة. المهم أنّني أنا وهو كانوا يجلسوننا في المقعد الأمامي في الصفّة الوسطيّة، وهي صفة "النبغاء" كما كانوا يسمّونها، وبالمناسبة كانت الصفّة التي على اليمين نسمّيها صفة العقلاء، وكان في مقدّمتها خمسة بنات، وأقولها بصدق كن جميلات بشكل كبير ما عدا ربما واحدة لم تكن بذلك الجمال !. كانت البنات الخمسة غير متحجّبات، وكنّ إلتحقن بالمدرسة متأخّراً؛ فكانت أعمارهن تتراوح مابين 14-16 سنة. كنّ ترتدين ملابس عصريّة وبكل تأكيد بدون أي مكياج. كانت إثنتين منهن جميلتين بشكل ملفت للنظر، وكانت شعورهما أقرب إلى الشقراء منها إلى البنية الفاتحة، وكانت عيونهما أقرب إلى الخضراء منها إلى العسليّة.
المهم، وهنا ربما هو بيت القصيد... كانت الفتيات تحظين بإحترام لا مثيل له منا نحن الأطفال "المشاغبين"، وكنّا ننظر إليهن بأنهن أخواتنا ولم يخطر ببال أيّ منا بأن ينظر إليهن إطلاقا وإطلاقا من نواحي أخرى. دعوني أعود إلى تشكيلة الفصل... لم أذكر لكم الصفّة بجانب النوافذ (الصفة على يسارنا)، تلك الصفّة يضع فيها المدرّسون أولئك كبار السن والمتخلّفين في دراستهم، وهم في أعمار المراهقة(16-18)؛ وكنّا نحن فيما بيننا نسمّيها ""صفّة الحمير" .... ما تقولوها لحد من فضلكم !!. الذي حداني بذكرهم هو أنّهم وفي ذلك العمر المراهق، لم ولم ينظروا إلى البنات بأية نظرات تثير الريبة أو تتجاوز حدود الإحترام التي كنّا كلّنا تعلّمناها من أسرنا. وهنا أنا أريد أن أتوقّف بكم وبصراحة لأقولها لشيوخ الدين؛ بأن القيم الأخلاقيّة لا ترسّخها المظاهر من لباس وتحجيب وتغليف للبنات. القيم الأخلاقية يبنيها المجتمع، وهي متجذّرة في القيم المجتمعيّة، ولا يمكن فرضها بظواهر "غبيّة" مثل فتاوي التحجّب والتخمّر والتنقّب والتبلغم. أيضاً لا ترسم معالمها تلك اللحي الطويلة الغير موضّبة، ولا تلك "اللطع الحمراء" على جباه الرؤوس، ولا تلك "السبح" المتدلية من اليد وأمام الناس، ولا ذلك "التلفّظ" بالعبارات الدينية وكثرة الإستشهاد بسير الأوّلين. القيم الأخلاقية تبنيها الثقافة ويبنيها التعليم، وتبنيها البيئة التي تتفاعل مع محيطها وليس تلك التي تتقوقع في دهاليز الماضي السحيق.
أذكر أنّه في أحد الأيام في تلك السنة، وكنّا في حصّة اللغة العربية، دخل علينا الأستاذ بحلّته البهيّة وبإبتساماته التي كانت بالفعل تريحنا وتجلب الأمان لنا مع أنّه كان متشدداً ومرعباً حينما يتعلّق الأمر بإحترام النظام في الفصل، وحينما يتعلّق الأمر بالتعلّم. كان ذلك الأستاذ صارماً ومتحمّساً لمهنته، وكان يحظى بإحترامنا كلّنا بما في ذلك أولئك "الشيابين" في صفّة "الحمير"، الذين من النادر أن يسألهم الآساتذة أية أسئلة لأنّهم لم يكونوا يتوقّعوا منهم القدرة على الإجابة عن أيّ سؤال !!. كانت الحصة وقتها عن "الأدب العربي" وكان جوهرها نحو وإعراب. المهم أن الأستاذ أتى معه بكتاب شعر وأخذ يقرأ منه:
كأنّك جندب في ذيل كبش...... تدلدل هكذا والكبش يمشي.
حاول المدرّس شرح البيت لكنه حينما ذكر "الجندب" لم يعرف معناها. أذكر بأنّه تركنا وذهب للإدارة، وهناك سأل زملاءه عن معنى الجندب وتفسير ذلك البيت من الشعر، وتبيّن لنا من قبل أجهزة مخابراتنا الطفولية بأنّه لم يجد منهم أي معونة لغوية !!. المهم أنّني عدت ذلك المساء للبيت كعادتي وعلى الفور عرضت ذلك البيت على أبي وقلت له ضاحكاً (ومستهزءاً) بأن الأستاذ لم يعرف تفسير بيت الشعر !.
هنا، أقول لكم "وبكل تواضع" بأن أبي رحمه الله كان من المهتمين كثيراً باللغة العربية، وكان والدي مهتمّاً كثيراً بأصول الدين، وكانت له مكتبة كبيرة في مختلف علوم الدين. ومع أنّه كان يشتغل في محكمة ككاتب جلسات؛ إلّا أن ثقافته الدينية وقدراته الكبيرة على "الإفتاء" في شئون الدين أعطته مكانة محترمة بين المعاصرين له في المنطقة، وكانوا كثيراً ما يطلبون منه القيام بالخطابة والإمامة في المسجد، وكان يلقي خطب الجمعة والكثير من الدروس والمواعظ الدينية كلّما توفّر له الوقت.
المهم، أن ذلك لم يكن المقصود من حديثي معكم لهذا اليوم؛ إنّما ذكرته فقط من باب "المعرفة" كمقدّمة. كان أبي يختارني أنا من بين إخوتي لأن أقرأ له كتبه في كل مساء، وهو يأخذ في تفسيرها وشرحها، وكان يحكي لي قصص الأنبياء وتاريخ المسلمين القديم، وكنت أنا شغوفاً بتلك القصص بشكل كبير. كنت في يوم الجمعة أستفد من ذهاب أبي للمسجد مبكّراً بأن أخذ واحدة من شُنطه الكبيرة الملوءة بالكتب الدينية، وأقولها بصراحة كانت فيها الكثير من "الكتب الصفراء" التي لم أكن أعرف حينها بأنّها "كتب صفراء" !!. في تلك الكتب كنت أقرأ عن السحر، والكتيبة، والعين، والفال، والتسبيب، وفك طلاسم السحر، وفك المربوط، وجلب الحظ، وإبعاد الجن والشياطين؛ وكانت هناك أشياء أخرى بالنسبة لي مثيرة للإنتباه بشكل "جنوني"!!. كنت أقرأ عن كيف يمكن بعض الناس ربط الشاب ليلة زواجه، وكيف يفرّقون بين الزوج وزوجته، وكيف تكتب لمن تعشقها وهي غير مهتمة بك فتصبح مغرمة بيك، وكانت هناك أشياء كثيرة وكثيرة جداً كنت أقرأها بعيداً عن أعين أبي !!. أقول بأنني جرّبت بعضها، ولكن لم ينفع أي شئ منها... هههه !!.
أأأأأه، لقد تعلّمت الكثير والكثير عن عوالم شيوخ الدين الخيالية، وكتبهم الموغلة في "عالم الأوهام"؛ وأعتقد بأنني من هناك، ومن ثقافة أكثر من سنتين متواصلتين وبعمق في عوالم "شيوخ الدين" كنت تعلّمت الكثير والكثير جداً.
كانت لي عادة "قبيحة" منذ صغري، لكنّني بالطبع أعتز وأفتخر بها. كنت دائماً من الفضوليين، وكنت أريد أن أعرف "الأسباب"، ولم أقتنع بكل ما يقال لي هكذا بدون توقّف ومماكحة وأسئلة كثيرة وبحث عميق عن "إقناع". كنت "عنايدي" بكل معنى الكلمة، وكان "رأسي كاسح". أذكر أنّني عندما كنت في أوّل إعدادي، ذهبنا في يوم الجمعة للجامع لأداء صلاة الجمعة، وكان الشيخ زِمني" بكل معاني الكلمة. كان بكل تأكيد من المتعلّمين من ثقافة "الكتب الصفراء"، وقال في خطبة الجمعة يومها: وترى الكافر والناكر لفضل الله عليه يوم القيامة وهو يوضع في أعلى درج سلّم العذاب. سبع درجات عالية يوضع هو في أعلاها، وعلى كل درج كانت هناك سبعة أفاعى، وكل واحدة بسبعة رؤوس. كان ينزل كل درجة فتقول له الملائكة من ربّك؟؛ وهو لايقدر أن يقول "الله" فتضربه الملائكة على ظهره لتنزله درجة أخرى حيث يقابل أفاعى أخرى كل منها بسبعة رؤوس وهي أشد خطراً وفتكاً من سابقاتها، فتلتوي حوله وتلدغه برؤوسها السبعة فتسممه ويموت. تأتي إليه الملائكة وتعيده للحياة من جديد، ثم تسأله: من هو ربّك فلا يجيب. تضربه الملائكة من جديد لتنزله درجة أسفل في السلّم... وهكذا. تستمر القصة بالطبع مثل حكاوي "ألف ليلة وليلة" حتى نهاية الخطبة !!.
المهم أننا حينما نعود خارجين من الجامع متجهين إلى بيوتنا؛ وهنا أقولها بأن مرافقي كانوا كلّهم في أعمار أكبر من عمري، وكانوا يتحدثون عن خطبة الشيخ وكيف أنه في يوم القيامة سوف تأتينا تلك الأفاعي وكيف وكيف، وكانوا بالفعل خائفين ومذعورين. كنت أنا أنظر إليهم بشفقة عليهم وبصدق لم أكن أكترث حينها على الإطلاق. قاطعتهم متسائلاً: هل تظنّون بأن ما كان يقوله الشيخ حقيقياً؟. قالوها معاً وبقوة "نعم" وحرام عليك تقول مثل هذا الكلام على الشيخ الجليل. لم تخيفني نبرات أصواتهم ولم يرهبوني بالعنفوان والصرامة في كلامهم؛ فأضفت لهم متسائلاً: ومن أين أتى الشيخ بهذا الكلام، ومن هو ذاك الذي عاد من يوم القيامة ليشهد بما يحدث هناك؟. أنا كنت قرأت مثل تلك "التفاهات" في كتب أبي "الصفراء" ، وكنت أستهزئ بها ولا أصدّق ما كانت تقول.
قبل أن أنهي حلقة اليوم بقصة طريفة وطريفة من الواقع، دعوني أعود وأقول بأن والدي رحمة الله عليه كان قد بحث في كتبه وعاد لي بتفسير لبيت الشعر ذلك. قال لي بأن الجندب هو "العبس" الذي في ذيل الكبش، وهو "زبالة" الكبش مختلطة بكل الأوساخ التي يمر بها الكبش؛ وكان الجاحظ قد قال: ما غلبني أحد قط في حياتي إلا رجل وإمرأة: فأما الرجل فإنني كنت مجتازاً في بعض الطريق فإذا بشخص قصير بطين كبير الهامة طويل اللحية مؤتزر بمئزر وبيده مشط يمشطها(مثل شيوخ الدين تماماً... من عندي هههه !!)، فقلت في نفسي رجل قصير بطين آلي فاستزريته فقلت: أيها الشيخ، لقد قلت فيك شعراً فترك المشط بيده وقال: أسمعني. قلت:
كأنّك صعوة في أصل حشّ ...... أصاب الحشّ منها بعد رشّ
فرد علي ذلك الشخص السمين - والكلام هنا هو للجاحظ – قائلاً:
كأنّك جندب في ذيل كبش ..... تدلدل هكذا والكبش يمشي
المهم أنّني حملت تفسير أبي لكلمة الجندب لأستاذي في اليوم الموالي وكان أبي قد كتبه بخط يده، وبالفعل ذهل أستاذي من قدرات أبي اللغوية، ومن يومها بدأوا يعاملونني بكيفية مختلفة وبالكثير من "الإهتمام" !!.
في نهاية حلقة اليوم، أكتب لكم قصة واقعيّة وحقيقية من ذكريات طفولتي؛ وأكتبها إليكم ربما لطرافتها، وربما لإرتباطها بما سوف أقوله في الحلقة الموالية، والتي سوف تكون بعنوان "المخفيّات المخيفات":-
كان لي صديقاً وزميلاً في الدراسة. كنا في الخامسة إبتدائي. كان لصديقي جده(حنّة) لأبيه، وكانت بالفعل "زمنية". كان عمرها حوالي 80 سنة. كانت في صحة جيّدة، ولكن من حين إلى حين تتذكّر ماضيها وتنظر إلى نفسها على أنّها مشرفة على النهاية وكانت تحن إلى الماضي كثيراً. كانت تحسّ ب"تهيّج العواطف" وتأخذ في البكاء. كانت تتكرر عليها تلك المشاهد مما حدا بحفيدها (زميلي ذلك) بأن يذهب للفقي ( وهو نفس ذلك الشيخ الزمني الذي كان يتحدّث عن السبعة أفاعي وبسبعة رؤوس !). كان يذهب للفقي ويطلب منه أن يعمل "كتيبة" لحنّاه تبعد عنها "وساوس الشيطان". كان بالطبع أبوه هو من أمره بفعل ذلك. المهم كان الفقي (الفقيه !!) يعمل لها كتيبة بالصمغ على ورق أصفر ويعطيها لحفيدها بعد أن يحلف بأنّه سوف لن يأخذ ولا ملّيم !!. طبعاً صديقي يعطيه ربع جنيه، وطبعاً يأخذها الشيخ بعد أن يحلف بأنّه لن يتقاضي أي درهم على "عمله لوجه الله". يذهب بها صديقي لجدته ويقول لها "الشيخ قالك دوبيها في أميه وإشربيها". كانت تفعل ذلك وبعد 5 دقائق تأتي إليه وتقول له: الله يبارك فيك يا وليدي. الكتيبة متاعة الفقي نفعت ونحس في روحي ولّيت منادمة من جديد !!.
المهم، أنها في كل يوم بعد المدرسة تجيه وتقول له: ياوليدي تره برّه للفقي وقولّه يكتبلي. يمشي المسكين كل المسافة ويطلب من الشيخ الكتيبة، يعطيه ربع جنيه، ويرجعها لحنّاه... وتتكرر الحكاية في كل يوم، حتى بلغ بصديقي ما بلغ. بدأ يكره الذهاب للفقي(الشيخ)، وفكّر في حيلة ذكية: إشترى الصمغ من السوق، وكان عنده ورق قديم "مصفرّ"، وكتب خربشات عليها وأتى بها لجدته قائلاً لها: الشيخ قالك وقالك ودوبيها في الميه وأشربيها تبعد عليك "الجنون" اللي ساكناتك. كانت تفعل وتأتي إليه شاكره إياه وتدعيله أن ربي يفتح عليه وما "يوريله شر". كانت جدّته تتعافى من كتيبة يده، وكفى هو نفسه مشقة الذهاب للشيخ، وكان بالطبع يصرف الربع جنيه في المدرسة.... هههههه.
يومكم سعيد، ولكن بكره إنشاء لله أدخل معكم في لب الموضوع... "المخفيّات المخيفات" !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك