إن الحديث عن سرّ الوجود، ومدى مساهمتنا نحن البشر في هذا الوجود هو حديثاً فلسفيّاً يتجدّد هكذا "آليّاً"، وقد لا توجد له نهايات. إنّنا قد نحدد نقطة البداية، وقد نقدر على إختيار موضوع النقاش؛ لكن أيّ موضوع نختاره سوف - حتماً - يتشعّب بنا إلى متاهات عديدة قد لا نعرف متى وأين وكيف تنتهي
عند الشروع في كتابة هذه الحلقة تقاطرت عليّ الكثير من الأفكار، وأخذت كل واحدة منها تسعى حثيثاً لتحظى بسبق الأولويّة في النشر.
نعم.. إن الحديث عن سرّ الوجود، ومدى مساهمتنا نحن البشر في هذا الوجود هو حديثاً فلسفيّاً يتجدّد هكذا "آليّاً"، وقد لا توجد له نهايات. إنّنا قد نحدد نقطة البداية، وقد نقدر على إختيار موضوع النقاش؛ لكن أيّ موضوع نختاره سوف - حتماً - يتشعّب بنا إلى متاهات عديدة قد لا نعرف متى وأين وكيف تنتهي.
تحدّثت فيما مضى عن "نحن" كوجود ملموس ومدروك. تحدّثت عن المخّ، والآليّة الجوهريّة التي يعمل بها؛ وكان ذلك برغم عمق مياهه من الممكن العوم والغطس فيه. حينما يحاول أحدنا الحديث عن "نحن" كجوهر، ككيان، كنفس وكروح... ندخل حينها في عالم الفلسفة والإجتهاد.
نعم... موضوع اليوم هو "النفس"، والحديث عن النفس لابد وأن يقودنا إلى الحديث عن الروح والحديث عن الإرادة والحديث عن القدر والحديث عن المجاهيل. نعم... الحديث عن المجاهيل هو بطبيعة الحال "لب الموضوع" الذي يأتيكم في هذه الحلقات المتواصلة، والتي حتماً سوف تنتهي هناك في عالم الخيال والذي يطلقون عليه "السحر".
عهداً منّي، سوف أصل بكم إلى هناك، وعهداً منّي سوف أتحدّث عن "ذاك"... وعهداً منّي سوف أطرح لكم الحلول كا سبق لي وأن وعدت.
نحن نعلم بأن الكائن البشري كمخلوق يتكوّن من أربعة أجزاء متكاملة هي الجسم والعقل والنفس والروح.... وبينهم تتجوّل الإرادة ويرتكن الإختيار. الإرادة والإختيار قد يكونا أمران مرتبطان ببعض؛ فإرادتك هي من يملي عليك إختياراتك، لكن إختياراتك ليس بالضرورة تخضع لإرادتك. إختياراتك قد تختارها بمحض إرادتك، أو أنّها ربّما تفرض عليك، وهنا بكل تأكيد يكون عقلك هو الفيصل بالنسبة لك إن أنت إلتجيت إليه وإستشرته. هناك من يختار "آليّاً" بدون العودة إلى "عقله"، وكل من يفعل ذلك يجد نفسه يسبح في أوحال الحياة العميقة والنتنة أحياناً... وقد يتوه هناك أو يغرق بدون أن يجد منقذاً له.
نحن كأطباء نعرف الكثير عن الجسم من حيث التركيب والوظيفة، لكنّنا لا نعرف كثيراً عن العقل ولا نعرف كثيراً عن النفس ولا نعرف أيّ شئ عن الروح أكثر من كونها من أمر ربّي: {{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}}... الروح هي من أمر ربّي... أي أنّها واحدة من أسراره التي لم يطلع عليها أي من البشر من خلقه بما فيهم الأنبياء. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يحق لنا البحث في الروح حتى - ربما - نتعرّف على كنهها أو ربّما نعرف عنها بعض الشئ؟. سؤال جدير بالطرح، وبكل تأكيد جدير بالبحث ونسج النظريات حوله؛ فالله لم يمنعنا من ذلك. قال الله لنا بأن الروح هي من أمر ربّي، لكنه لم يمنعنا من البحث فيها أو عن كنهها، مع أنّه "ربّما" تحدّانا بقوله :{{وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاُ}}. هل يعني ذلك بأنّنا مهما تعلّمنا فسوف تبقى علومنا قليلة بالنسبة لإحتمالية تعرّفنا على الروح، أم أن ذلك ربما يعني بأننا لو تعلّمنا في المستقبل فقد نعرف المزيد عن الروح؟.
السؤال الأكثر تحدّياً هو من وجهة نظري: هل يوجد أي فرق بين العقل والنفس والروح... هل هي ربّما ثلاثة مرادفات لشئ واحد، أم أن الأمر مختلف تماماً؟.
إذا سألني أحدكم عن رأيي وكيف أفكّر في هذا الشأن؛ فقد أقول بأنّه من الصعب عليّ التفريق بينهم، بسبب أنّني لا أعرف كثيراً عن أيّ منهم. قد يكون بوسعي فقط أن أخمّن، أتصوّر، أتدبّر، أو ربّما أتندّر عن أي من تلك المفردات الثلاث... أو ربّما "الثلاثة" فنحن لا نعرف إن كانت تلك الكلمات الثلاث مذكّرة أم مؤنّثة؟. أنا أرى بأن جوهر الموضوع هنا هو أنّنا لا نستطيع أن نخضع أي من تلك المفردات الثلاثة للبحث والتنقيب والتحليل والتجربة والخطأ. فتلك الأشياء(العقل والنفس والروح) هي غير مدروكة بحواسنا المعروفة.. أي أننا لا نراها ولا نلمسها ولا نستطيع تذوّقها أو شمّها، كما أننا لا نعرف كيف نتعامل معها من حيث تغيير إتجاهاتها أو تصويب مقاصدها أو تحديد مساراتها.
أعتقد بعمليّة بسيطة من التدبّر يمكنني القول بأن الروح هي الآليّة(السرّ) الذي به تبدأ خلايا أجسامنا في التصرّف(التوظّف)، وقد يمكننا القول بأن الروح هي "الشرارة" أو "البارقة" أو ربّما "الدافع" أو قد نقول "الزناد" الذي يبدأ كل شئ في أجسامنا وبوجودها يستمر. قال الله تعالى: {{ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ }}... قد تكون الروح هي جزءاً صغيراً من الرب، عبارة عن نفخة منه إذاً فهي "منه"؛ ومن ثمَ قال الله لنا بأنّنا لا نعرف عنها شيئاً ربما حتى ولو حاولنا. هي قد تكون جزءاً منه أعارنا إيّاها حتى نسيّر بها أمورنا وحينما يأتي أجلنا يرجعها إليه. ... وقد نختار بأن نرجعها له(الإنتحار).
هنا ربّما تأتي "النفس" على الخط وتدفعنا للتفكير المختلف. هل النفس هي الروح، ولماذا ذكر الله الروح حين الخلق وذكر النفس حين الموت؟. قال الله تعالى: {{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}}، وهناك قد نجد نوعين من "النفس"... النفس المطمئنّة والنفس الخبيثة أو تلك "الأمّارة بالسوء". ذلك يبرهن على أن النفس هي ليست الروح، والنفس هي ليست من الله.... قد تكون النفس هي "نتاج أعمالنا"، أو تلك التي تنتجها لنا.
نفسك هي شخصيّتك، قدراتك، طريقة تفكيرك، نظرتك في الحياة.... هي تعاملك مع ذاتك وتعاملك مع غيرك وتعاملك مع محيطك. نفسك هي كيانك وحيثياتك ومسيرتك. نفسك هي أنت، وأنت من يبنيها؛ لكنّك يقيناً ستبنيها من المعطيات المتوفّرة لديك والتي من بينها ما ولدت به، وما تعلّمته في حياتك. ما ولدت به قد يعني تركيبتك وجيناتك والبيئة التي تكوّنت فيها وأنت مازلت جنيناً في بطن أمّك. جيناتك هي تلك التي ورثتها من أبيك ومن أمّك أو من كليهما، وأيضاً تلك التي ربّما تدخّلت البيئة في رسم بعض معالمها بدون علمك وبدون علم والديك. هناك أشياء ومكوّنات وقدرات تولد بها وهي ليست ذنبك ولا هي من صنع يديك ومن ثمّ فأنت لست مسئولاً عنها... وقد أقول بأنّها من بين حظوظك.
ما تعلّمته في حياتك هو بكل تأكيد من بين مكوّنات نفسيّتك(شخصيّتك)، ويقيناً ما تعلّمته بعضه يفرض عليك وبعضه تختاره أنت. هناك البيئة التي ولدت فيها، وهناك الثقافة التي يبنى عليها مجتمعك، وهناك الإعتقاد الذي إخترته لنفسك، وهناك المحيطين بك والمخالطين لك، وهناك الأشياء التي تفرض عليك ثم تلزمك فلا تجد مهرباً منها.
نفسك هي أنت... هي كينونتك... هي "الإنسان" الذي بداخلك. إن تعرّفك على نفسك هو معرفتك الحقيقيّة لمن أنت وماذا تكون وما الذي يدور في داخل جسمك، وكيف هي معالم حياتك من يوم مولدك وحتى لحظة مفارقتك لهذا العالم الذي سوف يبقى بعدك وقد يبقى فيه من يذكرك بعد ذهابك؛ وقد يبقى فيه من يتمنّى عودتك... وربّما هناك من ينتظرها مع معرفته بأنّك إنّما كنت قد ذهبت وبأنّك سوف لن تعود.
نفسك هي حقيبة سفرك في الحياة الدنيا، وأنت تضع بداخلها ما تريد وحسب إختياراتك من مقتنيات قد تحتاج إليها كلّها أو ربما إلى بعضها، وهناك أشياء من بينها قد لا تحتاج إليها على الإطلاق.
عند الشروع في كتابة هذه الحلقة تقاطرت عليّ الكثير من الأفكار، وأخذت كل واحدة منها تسعى حثيثاً لتحظى بسبق الأولويّة في النشر.
نعم.. إن الحديث عن سرّ الوجود، ومدى مساهمتنا نحن البشر في هذا الوجود هو حديثاً فلسفيّاً يتجدّد هكذا "آليّاً"، وقد لا توجد له نهايات. إنّنا قد نحدد نقطة البداية، وقد نقدر على إختيار موضوع النقاش؛ لكن أيّ موضوع نختاره سوف - حتماً - يتشعّب بنا إلى متاهات عديدة قد لا نعرف متى وأين وكيف تنتهي.
تحدّثت فيما مضى عن "نحن" كوجود ملموس ومدروك. تحدّثت عن المخّ، والآليّة الجوهريّة التي يعمل بها؛ وكان ذلك برغم عمق مياهه من الممكن العوم والغطس فيه. حينما يحاول أحدنا الحديث عن "نحن" كجوهر، ككيان، كنفس وكروح... ندخل حينها في عالم الفلسفة والإجتهاد.
نعم... موضوع اليوم هو "النفس"، والحديث عن النفس لابد وأن يقودنا إلى الحديث عن الروح والحديث عن الإرادة والحديث عن القدر والحديث عن المجاهيل. نعم... الحديث عن المجاهيل هو بطبيعة الحال "لب الموضوع" الذي يأتيكم في هذه الحلقات المتواصلة، والتي حتماً سوف تنتهي هناك في عالم الخيال والذي يطلقون عليه "السحر".
عهداً منّي، سوف أصل بكم إلى هناك، وعهداً منّي سوف أتحدّث عن "ذاك"... وعهداً منّي سوف أطرح لكم الحلول كا سبق لي وأن وعدت.
نحن نعلم بأن الكائن البشري كمخلوق يتكوّن من أربعة أجزاء متكاملة هي الجسم والعقل والنفس والروح.... وبينهم تتجوّل الإرادة ويرتكن الإختيار. الإرادة والإختيار قد يكونا أمران مرتبطان ببعض؛ فإرادتك هي من يملي عليك إختياراتك، لكن إختياراتك ليس بالضرورة تخضع لإرادتك. إختياراتك قد تختارها بمحض إرادتك، أو أنّها ربّما تفرض عليك، وهنا بكل تأكيد يكون عقلك هو الفيصل بالنسبة لك إن أنت إلتجيت إليه وإستشرته. هناك من يختار "آليّاً" بدون العودة إلى "عقله"، وكل من يفعل ذلك يجد نفسه يسبح في أوحال الحياة العميقة والنتنة أحياناً... وقد يتوه هناك أو يغرق بدون أن يجد منقذاً له.
نحن كأطباء نعرف الكثير عن الجسم من حيث التركيب والوظيفة، لكنّنا لا نعرف كثيراً عن العقل ولا نعرف كثيراً عن النفس ولا نعرف أيّ شئ عن الروح أكثر من كونها من أمر ربّي: {{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}}... الروح هي من أمر ربّي... أي أنّها واحدة من أسراره التي لم يطلع عليها أي من البشر من خلقه بما فيهم الأنبياء. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يحق لنا البحث في الروح حتى - ربما - نتعرّف على كنهها أو ربّما نعرف عنها بعض الشئ؟. سؤال جدير بالطرح، وبكل تأكيد جدير بالبحث ونسج النظريات حوله؛ فالله لم يمنعنا من ذلك. قال الله لنا بأن الروح هي من أمر ربّي، لكنه لم يمنعنا من البحث فيها أو عن كنهها، مع أنّه "ربّما" تحدّانا بقوله :{{وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاُ}}. هل يعني ذلك بأنّنا مهما تعلّمنا فسوف تبقى علومنا قليلة بالنسبة لإحتمالية تعرّفنا على الروح، أم أن ذلك ربما يعني بأننا لو تعلّمنا في المستقبل فقد نعرف المزيد عن الروح؟.
السؤال الأكثر تحدّياً هو من وجهة نظري: هل يوجد أي فرق بين العقل والنفس والروح... هل هي ربّما ثلاثة مرادفات لشئ واحد، أم أن الأمر مختلف تماماً؟.
إذا سألني أحدكم عن رأيي وكيف أفكّر في هذا الشأن؛ فقد أقول بأنّه من الصعب عليّ التفريق بينهم، بسبب أنّني لا أعرف كثيراً عن أيّ منهم. قد يكون بوسعي فقط أن أخمّن، أتصوّر، أتدبّر، أو ربّما أتندّر عن أي من تلك المفردات الثلاث... أو ربّما "الثلاثة" فنحن لا نعرف إن كانت تلك الكلمات الثلاث مذكّرة أم مؤنّثة؟. أنا أرى بأن جوهر الموضوع هنا هو أنّنا لا نستطيع أن نخضع أي من تلك المفردات الثلاثة للبحث والتنقيب والتحليل والتجربة والخطأ. فتلك الأشياء(العقل والنفس والروح) هي غير مدروكة بحواسنا المعروفة.. أي أننا لا نراها ولا نلمسها ولا نستطيع تذوّقها أو شمّها، كما أننا لا نعرف كيف نتعامل معها من حيث تغيير إتجاهاتها أو تصويب مقاصدها أو تحديد مساراتها.
أعتقد بعمليّة بسيطة من التدبّر يمكنني القول بأن الروح هي الآليّة(السرّ) الذي به تبدأ خلايا أجسامنا في التصرّف(التوظّف)، وقد يمكننا القول بأن الروح هي "الشرارة" أو "البارقة" أو ربّما "الدافع" أو قد نقول "الزناد" الذي يبدأ كل شئ في أجسامنا وبوجودها يستمر. قال الله تعالى: {{ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ }}... قد تكون الروح هي جزءاً صغيراً من الرب، عبارة عن نفخة منه إذاً فهي "منه"؛ ومن ثمَ قال الله لنا بأنّنا لا نعرف عنها شيئاً ربما حتى ولو حاولنا. هي قد تكون جزءاً منه أعارنا إيّاها حتى نسيّر بها أمورنا وحينما يأتي أجلنا يرجعها إليه. ... وقد نختار بأن نرجعها له(الإنتحار).
هنا ربّما تأتي "النفس" على الخط وتدفعنا للتفكير المختلف. هل النفس هي الروح، ولماذا ذكر الله الروح حين الخلق وذكر النفس حين الموت؟. قال الله تعالى: {{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}}، وهناك قد نجد نوعين من "النفس"... النفس المطمئنّة والنفس الخبيثة أو تلك "الأمّارة بالسوء". ذلك يبرهن على أن النفس هي ليست الروح، والنفس هي ليست من الله.... قد تكون النفس هي "نتاج أعمالنا"، أو تلك التي تنتجها لنا.
نفسك هي شخصيّتك، قدراتك، طريقة تفكيرك، نظرتك في الحياة.... هي تعاملك مع ذاتك وتعاملك مع غيرك وتعاملك مع محيطك. نفسك هي كيانك وحيثياتك ومسيرتك. نفسك هي أنت، وأنت من يبنيها؛ لكنّك يقيناً ستبنيها من المعطيات المتوفّرة لديك والتي من بينها ما ولدت به، وما تعلّمته في حياتك. ما ولدت به قد يعني تركيبتك وجيناتك والبيئة التي تكوّنت فيها وأنت مازلت جنيناً في بطن أمّك. جيناتك هي تلك التي ورثتها من أبيك ومن أمّك أو من كليهما، وأيضاً تلك التي ربّما تدخّلت البيئة في رسم بعض معالمها بدون علمك وبدون علم والديك. هناك أشياء ومكوّنات وقدرات تولد بها وهي ليست ذنبك ولا هي من صنع يديك ومن ثمّ فأنت لست مسئولاً عنها... وقد أقول بأنّها من بين حظوظك.
ما تعلّمته في حياتك هو بكل تأكيد من بين مكوّنات نفسيّتك(شخصيّتك)، ويقيناً ما تعلّمته بعضه يفرض عليك وبعضه تختاره أنت. هناك البيئة التي ولدت فيها، وهناك الثقافة التي يبنى عليها مجتمعك، وهناك الإعتقاد الذي إخترته لنفسك، وهناك المحيطين بك والمخالطين لك، وهناك الأشياء التي تفرض عليك ثم تلزمك فلا تجد مهرباً منها.
نفسك هي أنت... هي كينونتك... هي "الإنسان" الذي بداخلك. إن تعرّفك على نفسك هو معرفتك الحقيقيّة لمن أنت وماذا تكون وما الذي يدور في داخل جسمك، وكيف هي معالم حياتك من يوم مولدك وحتى لحظة مفارقتك لهذا العالم الذي سوف يبقى بعدك وقد يبقى فيه من يذكرك بعد ذهابك؛ وقد يبقى فيه من يتمنّى عودتك... وربّما هناك من ينتظرها مع معرفته بأنّك إنّما كنت قد ذهبت وبأنّك سوف لن تعود.
نفسك هي حقيبة سفرك في الحياة الدنيا، وأنت تضع بداخلها ما تريد وحسب إختياراتك من مقتنيات قد تحتاج إليها كلّها أو ربما إلى بعضها، وهناك أشياء من بينها قد لا تحتاج إليها على الإطلاق.
وطالما أن نفسك هي حقيبة سفرك، فأنت حسب رغبتك وإختيارك وإرادتك تضع بداخلها ما تظن بأنّك في حاجة إليه أثناء سفرك. فكل إنسان يضع بداخل حقيبته ما يرغب في إستخدامه أثناء سفرته الطويلة. الإنسان الطيّب يضع بحقيبته ملابس نظيفة، معطّرات، بعض الذكريات الجميلة، ربّما كتاباً رائعاً يرغب في قراءته، وربّما سجّادة يذكر من خلالها سيّده ورب نعمته ويشكره على كل خير أنعم به عليه. في المقابل، فإن الإنسان الشرّير تكون إختياراته مختلفة تماماً عن ذلك الإنسان الطيّب. فالإنسان الشرّير يضع بداخل حقيبة سفره علب سجائر وزجاجات خمر، وأشياء تساعده على ممارسة المكر والخداع والتلوّي والتلوّن والخبث والمكائد.... وربّما أشياء يستخدمها ل"يسحر" بها غيره !!.
هذا الجانب قد يعيدني إلى موضوع كنت كتبته منذ مدّة بعنوان "أنت إنسان بداخلك ملائكة وفي داخلك شيطان". نعم... فنحن بشر خلقنا الله بعناصر الخير وعناصر الشر... أي أن كل منّا يولد وفي نفسيّته"تركيبته" مادّة تشغيلية Software بعض برامجها كانت قد أقتبست من الشياطين وبعضها من الملائكة.
أنت في صغرك(طفولتك) قد تكون أقرب إلى الملائكة، وحينما تكبر قد تبقى قريباً من الملائكة وقد تختار طريق الشياطين. في صغرك ربما أنت أكثر براءة واكثر نقاء، وبكل تأكيد فإن البيت الذي تولد وتنشأ بداخله هو من يرسم لك معالم طريقك وتكون أنت حينها أكثر إنقياداً وأكثر إنصياعاً وأكثر محاكاة لمن هم حولك. حينما تكبر قليلاً تكبر معك إختياراتك، وتكبر معك إرادتك، وتكبر معك حرّيتك؛ ومن عندها تستلم أنت زمام نفسك وتسيّر الكثير من شئون حياتك وفق إختياراتك ووفق تطلّعاتك. إنّك عندما تشق طريقك في الحياة تبدأ في الإعتماد على نفسك، وتأخذ إرادتك في النمو؛ وتصبح أغلب معالم طريقك مرسومة من نتاج تفكيرك ومن معين خبرتك في الحياة.
أنا سبق وأن قلت مراراً بأن الإنسان يولد بلاد لغة وبلا دين وإنّما يتعلّم تلك الأشياء من خلال البيئة التي ينشأ فيها. إن من يقوم بتربيتك والإشراف عليك في صغرك عندما تكون أكثر إعتماداً وأكثر إنقياداً وأثر تأثّراً... إن من يقوم بتربيتك وتنشأتك هو من يصقل لك شخصيّتك وهو من يبني لك أساسيّات البرنامج التشغيلي لحياتك؛ لكنّك وفي أثناء مسيرة حياتك قد تحتاج إلى تحديث(مواكبة) Updating لذلك البرنامج التشغيلي بما أُستجدّ من تغييرات أثناء حياتك، وقد تنزّل برامج غير نظيفة في حاسوب حياتك من بعدها ربّما بدون علمك وربّما برغبتك وإختيارك ممّا قد يبطئ حاسوبك أو يدفعه لأن ينتج لك إستنتاجات خاطئة، وقد يفسد عليك كل برامج حياتك التشغيلية؛ ومن ثمّ فقد تتوه في عالم الحياة الشاسع وقد تجد نفسك تسير في طريق مملوءة بالأشواك وقد لا تعرف لك منها مخرجاً.
المعارف التي أراها أقرب إلى الحقيقة هي أن الله خلق الملائكة منزّهين بالكامل وسبب نزاهة الملائكة ونقاوتهم هو أنّهم عباد مأمورين بالكامل. الملائكة لا تفعل أي شئ إلّا بأمر الله... أي أن الملائكة ليسوا مخيّرين، ومن الناحية الأخرى فقد خلق الله الشياطين مذنبين بالكامل. الشياطين كانوا قد عصوا ربّهم وأصرّوا على عصيانهم برغم أن الله كان قد حذّرهم؛ فلعنهم الله ثم أعطاهم كامل حرّيتهم ولم يثنهم عن خبثهم ومكرهم وإنّما تركهم أحراراً يقترفون ما يشاءون إلى يوم الحساب.
من هذا المنطلق أريد أن أقول بأن الله كان قد خلقنا كبشر لنكون خليطاً بين الملائكة والشياطين لحكمة هو بكل يقين يراها ويعرف كنهها. نحن - كبشر - علينا بذلك، الإنتباه إلى أنّنا لسنا أكثر من خليط بين الملائكة والشياطين؛ فلا ملائكة بيننا ولا شياطين منّا. لا يوجد بيننا ملائكة من البشر، ولا يوجد بشراً هم من الشياطين؛ وإنّما نحن في أفعالنا وفي صفاتنا لسنا أكثر من خليط بينهما. بمعنى، أنّنا معشر البشر يوجد بدواخلنا واعز الخير ويوجد بدواخلنا واعز الشر ونحن بإراداتنا نرسم الطريق التي نمشي عليها، ونحن من يقرّر الإختيار بين طريق الملائكة ونهج الشياطين من خلال تصرّفاتنا وممارساتنا وإختياراتنا الحرّة التي وهبها الله لنا إلى يوم البعث ثم الحساب.
في الحلقة القادمة، سوف أتحدّث عن أمراض المخّ التي تدفعنا لأن نتخيّل ونتصوّر ونهلوس ونتكلّم بلغات لا نفقهها. سوف أذكر تلك الحالات المرضية التي يرى فيها المريض أشباحاً ويتحدّث إلى عوالم أخرى لا يراها إلّا هو. سوف أيضاً أعرض حالات مرضيّة يرى بسببها المريض أحلاماً مزعجة في نومه، ويصدر أصواتاً ويقوم بأشياء في منامه لا يتذكّرها في الصباح وينكر بأنّه كان قد فعلها.... فهل هو "السحر"، أم أنّنا نستطيع تفسير كل ذلك ونعالجه... ولكن ليس ب"الرقية"!!.
يومكم معطّر بأريج أزهار الربيع إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك