مصائب الحياة الدنيا هي خليط بين صنع البشر وقضاء الله. ما يفعله البشر يحصدونه في زمانه، وما يكون قدراً من الله يقصد به أن يتعلّم منه الإنسان من أجل أن ينتقل بحياته إلى الأمام لتحقيق غد أفضل وحياة أكثر أمناً وآماناً. الله لا يعذّب البشر في الدنيا وكان قد قالها لهم صريحة بأنّه أجّل حسابهم إلى يوم القيامة، فكيف به يعذّبهم من غير حساب وكان قد قالها لهم: {{إقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}}.
مازال وباء كورونا يتربّع على عروش العالم، ومازال هذا الفيروس الصغير يحيّر كل العقلاء والنجباء والمفكّرين والأذكياء.
السطحيّون قالوا بأنّه غضب من الله، والمتفلسفون قالوا بأنّه مؤامرة من دول ماكرة، والأغبياء قالوا إنّه من أعمال الشياطين، والكثيرون فضّلوا الصمت ذلك لأنّهم لم يكونوا يدروا ولم يجلسوا ليفكّروا.
أنا أريد هنا أن أنظر إلى الأمر بعين فاحصة وبعقليّة متفتّحة بقدر ما أستطيع حتى ربّما نرى معاً وباء كورونا في سياقه الصحيح، ومن ثمّ نعرف أو ربّما نتعرّف على السر أو الأسرار الكامنة وراء هذه الجانحة.
إن الوباء هو عقاب للكافرين، تلك العبارة قالها شيوخ الدين حينما أصاب فيروس كورونا ووهان الصينيّة، ولكن تلك الفتاوي إنتهى زمانها وزال أثرها على تفكير الناس بمجرّد خروج الفيروس من الصين وزيارته لآماكن أخرى في العالم المحيط ثمّ بعد ذلك إلى العالم البعيد، وكان أن زار مكّة والمدينة والأقصى والفاتيكان وغيرها من آماكن العبادة التي خصّصت لعبادة الله على أساس أن القائمين عليها هم "خدم الله" والساهرين على طاعته. شيوخ الدين - وفي كل دين - أخذوا من بعدها يفتحون عيونهم على العوالم المحيطة بهم بعد أن كانوا يعيشون في عوالمهم السرياليّة التي كانوا يصنعونها من خيالاتهم وينسجونها من بنات أفكارهم حينما رأوا بأعينهم بأنّ المتعبّدين في "الآماكن المقدّسة" هم أنفسهم كانوا قد أصيب الكثيرون منهم وهم يصلّون أو يحجّون أو يعتمرون، ومن لم يصب منهم فهو يعرف يقيناً بأنّه ليس بمنأى عن الإصابة ولو كان في الحرمين يصلّي. إذاً يقيناً وتأكيداً وحتماً فإن هذا الوباء لم يكن "عذاباً" من الله، ولم يكن غضباً منه على خلقه. الفيروس أصاب الحيوانات أيضاً وإنتقل منها إلى البشر، وقصّة "نادية" اللبوة ليست ببعيدة عنّا.
الوباء كما نعرف لم يفرّق بين غني أو فقير، ملك أو أمير، بين رئيس أو وزير، ولم يفرّق بين صغير أو كبير، بين مصلّي أو سكّير، بين مؤمن بالله وبين مشرك خطير. من هنا يمكننا الإستنتاج بأن الفيروس ليس إنتقاماً من الله وليس عذاباً منه وبكل تأكيد لا يمكن إعتباره علامة من علامات قيام الساعة.
من هذه العجالة التمهيديّة أود أن أقول بأن وباء كورونا ليس أمراً جديداً ولا هو مستجدّا، وإنّما هو من ضمن إبتلاءات الله للبشر ليس بهدف التعذيب ولا التأنيب ولا العقاب وبكل يقين ليس هو من غضب الله علينا كبشر؛ وإنّما هو مجرّد إختبار لنا جميعاً كي نكتشف "الإنسانية" في داخلنا، كي نحسّ ببعضنا، وكي نعرف بأن حياتنا هي هبة لنا من الله وبأنّه علينا بأن نقدّرها وأن نثمّنها وأن نعتز بها.
في حياتنا ومنذ خلق البشريّة وربّنا يواصل إختبارنا ويعمل على إثارتنا ويدفع بنا نحو التفكير والتدبّر بهدف واحد ووحيد وهو أن نتقدّم بأنفسنا وبمعارفنا وبعلومنا وبخبراتنا خطوة إلى الأمام.
وعلى مدار الحياة البشريّة، كان ربّما أوّل وباء مدوّن في التاريخ هو وباء "هامين مانغا" في عام 500 قبل الميلاد، ثم بعد ذلك أثّرت الأوبئة على الحضارات منذ أول وباء متفشّي ومعروف في عام 430 قبل الميلاد خلال الحرب البيلوبونيسية (بين حلفاء أثينا وحلفاء إسبرطة). وكان للعديد من هذه الأوبئة تداعيات كبيرة على المجتمع البشري، بداية من قتل نسب كبيرة من سكان العالم، وصولا إلى جعل البشر يفكّرون في أسئلة أكبر عن الحياة والكينونة والوجود.
طاعون جستنيان، أو ما عرف حينها بالطاعون الدبلي (541 - 750م)، والذي وضع حدّا لفترة حكم إمبراطور بيزنطة في القرن السادس جستنيان الأول. وقتل هذا الوباء ما بين 30 إلى 50 مليون شخص، أي ربما ما يعادل نصف سكان العالم في ذلك الوقت. بعد ذلك عانت البشريّة من الكثير من الأوبئة والتي منها على سبيل المثال لا الحصر: الطاعون والجذام والكوليرا والزهري، وفيروسات الجدري والحمى الصفراء، وكذلك مرض الملاريا، ووباء الإنفلونزا الإسبانيّة. كما أنّه يتوجّب علينا تذكّر الإيدز والسارس وإيبولا وغيرها من الأوبئة التي عانت منها البشريّة في الزمن الحديث.
كما أنّه يتوجّب علينا كذلك تذكّر أن إختبارات الله للبشر لم تقتصر على الأوبئة، بل شملت الكوارث الطبيعية الأخرى مثل الزلازل والبراكين والرياح العاتية والعواصف الرعديّة والنيازك والشهب والفيضانات والغدران وغيرها من الكوارث الطبيعيّة. كما أنّنا يجب أن نتذكّرالكوارث الطبيعية الأخرى من الجراد والناموس والبعوض وما إليها من تلك التي أصابت البشريّة ومازالت تصيبها مع أنّها أصبحت من بين الظواهر الطبيعية التي تعلّمنا كيف نعيش معها ونتأقلم مع وجودها برغم أنّها قد تكون قاتلة أحياناً وقد تكون مدمّرة في أحيان أخرى.
من هنا يمكننا القول بأن التحدّيات التي تواجهها البشرية منذ وجود أوّل كائن إنساني على وجه الأرض وهو سيّدنا آدم عليه السلام، والتي تمثّلت بشجرة الزكّوم، وحتى كورونا ما هي إلّا تحدّيات طبيعية للبشر كي يجلسوا ليفكّروا ويتدبّروا ومن بعدها يبدعوا ويخترعوا ثم تأتي الإكتشافات ويأتي الإنتقال إلى الأمام من خلال اللقاحات والموانع والدعامات والمجسّات والمنبّهات وأجهزة كشف الزلازل قبل وقوعها وكذلك التنبوءات الجويّة والبحرية ومعرفة الأيّام التي يحدث فيها الكسوف والخسوف وما يصاحبها من تغييرات بيئيّة.
هناك إختبارات أخرى للبشرية مثل المرض والجوع والعطش والفقر والحروب والهجرة وفقدان الأحبّة والأقارب، وكذلك الأمراض المزمنة والسرطانات وأمراض الضمور الجسدي والضمور العقلي مثل فقدان الذاكرة والبله والكآبة وما إليها من أمراض العصر التي كثيراً ما ننسبها إلى عوامل التحضّر والإستخدام الكيميائي الغير مشروع وما إليها من الكوارث الطبيعية التي خلقها الله لنا ليس إنتقاما منّا وليس عقابا لنا، وإنّما مدعاة للمضي قدماً ودوافع لأن نرتقي بها في سلّم التحضّر إلى مستويات هي ربّما مازالت أبعد من تصوّراتنا برغم التقدّمات الكبيرة التي حققتها البشريّة في علوم التقنية العصريّة والرقميّة والتي نفتخر بإمتلاكنا لها وتعاملنا معها من أجل جلب البهجة والسرور لنا ولمحبّينا ولأهلنا وجيراننا. مساءكم سعيد وليلتكم هادئة ومطمئنّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك