هناك دوماً في حياتنا تتواجد الكثير من الأسرار، بعضها يعتبر ظاهراً للعيان وبوسع كل إنسان أن يدركه، وبعضها الآخر قد يحتاج إلى نباهة وذاكرة ووجاهة. علينا دائماً أن نقرأ بعيوننا وأن نستدرك بمداركنا وأن نحسب بأحداسنا... وأن نستنتج بعقولنا.
كثر الحديث والتهويل والنحيب، وكثرت المبالغات والتصوّرات والتحذيرات من هذا الفيروس الغريب والفريد من نوعه، وكأني بالبشرية تصاب لأوّل مرة بفيروس بهذه الحدّية فيبدأ في الإنتشار تدريجيّاً - رغم كل التحوّطات - ليتحوّل بعد قليل إلى "وباء عالمي" Pandemic.
حتى تعرفون القصّة من ألفها إلى يائها دعوني أترجم لكم حرفيّاً المقابلة التي أجريت مساء هذا اليوم مع مقيم إنجليزي الأصل في ووهان منذ 6 سنوات، وكانت المقابلة قد أجراها مذيع الأخبار على راديو 4 مع هذا الإنجليزي الذي بصدق أعجبني ما قاله بشكل كبير وأحسست بأن المذيع القدير - وهو صحفي من نوع ممتاز - كان قد أصيب بخيبة أمل لأنّه لم يكن يتوقّع ما قاله له ذلك الأستاذ الإنجليزي المقيم في ووهان.
الشخص الإنجليزي الذي أنقل إليكم كلامه هنا هو أستاذ جامعي ذهب إلى ووهان منذ ستة سنوات ليدرّس اللغة الإنجليزية هناك، وخلال إقامته في تلك البقعة من الأرض أحب الناس المحيطين به وأحب تلك الأرض كما يبدو من ثنايا كلامه مع أنّه لم يذكر ذلك إطلاقاً ولم يشر إليه ولو ببنت شفة.
سأله المذيع: أنت كنت من الأوائل الذين أصيبوا بهذا الفيروس فحدثنا عن إصابتك. رد عليه الأستاذ بكل هدوء وبكل ثقة: أنا كنت من أوّل المصابين بهذا الفيروس وأنا الآن ربما هو الإنسان الوحيد الذي يتجوّل في ووهان بدون كمّامة وبدون أية تحوّطات.
قال: كنت أصبت في بداية ديسمبر 2019 بوعكة صحيّة كانت أوّل أعراضها إرتفاع في درجة الحرارة ثم لحقتها رشوحات منهمرة من أنفي ثم قفل في خلجات الأنف ثم إحتقان في الحلق ومن بعدها تشنّج في داخل الرئتين وصعوبة في التنفّس مع تضييق حاد في الشعب الهوائيّة مثل الربو الشعبي الحاد تماماً.
قال: في البداية لم أكترث بالأعراض الأولية وقلت في نفسي بأنّها ليست أكثر من إنفلونزا عارضة وسوف تذهب، غير أن تمدّد المشكلة إلى الحلق ثم الرئتين أخافني كثيراً وجعلني أرتعب بعض الشئ. ذهبت في ذلك المساء الشتوي إلى المستشفى، وهناك قام الأطباء بعمل صورة للصدر بالأشعة فلم تظهر تلك الصور أية علامات لإلتهاب أو إحتقان. عملوا لي تحاليل دم ثم أعطوني بخّاخة لتوسيع المسالك الهوائيّة وقالوا لي بوسعك الآن الرجوع إلى البيت.
قال: بمجرّد إستنشاق رذاذ البخّاخة أحسست بأن الضغط الذي كان مطبقاً على صدري وكاد أن يقتلني كان قد زال، وبأنّ تنفّسي كاد أن يعود إلى طبيعته فعدت إلى بيتي مسروراً بعد أن أيقنت بأن الذي أصابني لم يكن قاتلاً كما ظننت.
هنا سأله المذيع: أعتقد بأن الصينيين لم يكونوا يعرفوا أي شئ حينها عن فيروس كورونا.. فماذا تقول؟. رد عليه الأستاذ النبه بكل قوّة: إنّهم كانوا يعرفون كل شئ من أوّل إصابة، لكنّهم لم يكونوا على إستعداد للتحدّث عن هذا الفيروس لأنّهم يعرفون يقيناً كل التبعات التي قد تلحق بهم من بلاد العالم.... كانوا بكل تأكيد يخافون على إقتصادهم ويخافون على سمعتهم.
هنا أحسست بأن المذيع لم يكن يتوقّع مثل ذلك الرد الصريح، وكان ذلك ظاهراً على تغيّر نبرات صوته، لكنّه واصل المقابلة سائلاً الأستاذ الإنجليزي المقيم في ووهان: هل هذا الفيروس حسب رأيك هو فتّاك وقاتل وقد يكون أكبر كارثة إنسانية على وجه الأرض؟.
إنتبه الأستاذ إلى ما كان يرمي إليه المذيع ورد عليه بكل هدوء: هذا الفيروس ليس أكثر من فيروس إنفلونزا، وكل ما يقال عنه هو ليس أكثر من دعايات مغرضة ضد الصين قد يكون مبعثها ذلك التنافس الإقتصادي بين الغرب والشرق.. وأقصد هنا بين أميركا والصين. وهنا إستطرد المذيع سائلاً: وهل تعتبره بمثابة أحد أنواع الحصار الإقتصادي؟. ورد عليه الأستاذ بكل ثقة وهدوء: أنت الآن عرفت تحديداً ما كنت أنا أرمي إليه في بداية حديثي معك.
وتساءل المذيع هنا من جديد: وهل بصدق أنت تعتبر فيروس الكورونا بأنّه ليس أكثر من فيروس إنفلونزا قوي؟. ورد عليه الأستاذ: نعم، إنّه لكذلك. هذا الفيروس لا يمكنه إطلاقاً أن يؤذي أيّ إنسان يافع وسليم وغير مصاب بمرض آخر. كل ضحايا هذا الفيروس هم من الأطفال وكبار السن وأولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة. وأضاف قائلاً: أنا بصدق بعد أسبوعين من المعاناة من هذا الفيروس، بدأت صحتي تعود إليّ تدريجياً وفي كل يوم أشعر بأنني أتحسّن إلى الأفضل، وبعد إسبوعين أو ربما ثلاثة آسابيع عدت إلى حالتي الطبيعية وذهبت إلى عملي وأنا مطمئن وفرحان وسعيد وكانني لم أصب بأية إلتهابات. هذا الفيروس هو عبارة عن إنفلونزا حادّة وبمجرّد إنتعاشك تتولّد في جسمك مناعة له ومن ثم سوف لن تعد تخاف من إنتقال العدوى إليك، وربما هذا هو الذي دفعني لأن أترك الكمامات ولا ألتزم بأية محاذير أثناء تنقّلي في ووهان لمساعدة أولئك الذين تقطّعت بهم السبل.
وإستطرد المذيع سائلاً: هل تظن بأن المصاب بهذا الفيروس حينما يشفى قد ربّما يولّد مناعة قويّة تمنع الإصابة به مرّة ثانية؟. رد الأستاذ وكأنّه طبيباً محترفاً: لا أدري، لكن ذلك هو شعوري. العلماء لم يعرفوا حتى الآن إن كان ذلك هو الحال، لكنّني كما قلت لك سابقاً: إنّه نوع من أنواع فيروسات الإنفلونزا الحادّة جدّاً، وأغلب البشر يولّدون مناعة لنفس الجيل من الفيروسات التي أصابتهم في مواسم الإنفلونزا الحادة، ودليلنا هو تلك اللقاحات التي تعطى لكبار السن والمرضى والذين يعانون من مناعة جسميّة ضعيفة في كل شتاء لحمايتهم من سلالات معروفة من فيروس الإنفلونزا.
وهنا سأل المذيع سؤالاً ماكراً آخر: ماذا تظن عن الخدمات الصحية في الصين؟. كان المذيع هنا ينتظر كلاماً يفرحه بأن يصب الأستاذ جام غضبه على الخدمات الصحية الرديئة في الصين، لكن الأستاذ أجاب بكل قوة ومثابرة: تصوّر أنني حينما أصبت بالفيروس لأوّل مرّة في ديسمبر الماضي ولم يكن هناك مصابين آخرين معروفين حينها، وبمجرّد دخولي إلى الإسعاف في المستشفى أجريت لي كل الفحوص والتحاليل الفيروسية بما فيها مضادّات كورنا فيروس المتولّدة في الدم وتم كل ذلك في 4 ساعات فقط. لو أن مثل ذلك حدث لي في بريطانيا لتطلّب الأمر أكثر من إسبوعين كاملين لإجراء نصف التحاليل التي أجريت لي هناك في أربعة ساعات. وأضيف لك أكثر لتعرف كيف هي الخدمات الصحيّة في الصين: حينما تطلّب الأمر بناء مستشفى بألف سرير من الصفر، حدث كل ذلك فقط في 10 أيّام تم خلالها بناء المستشفى الجديد وتم تأثيثه وبدأ يشتغل بكامل فعاليّته في 10 أيّام.
بكل تأكيد لم يعجب ذلك الرد المذيع والكثير من المستمعين إلى البي بي سي، ولكن ما قاله الإستاذ كان فيه الكثير من الحقيقة والكثير من كشف المستور.
كل تلك الضجّة على هذا الفيروس وكل تلك التحصينات المبالغ فيها، ومنع كل خطوط الطيران من الذهاب إلى الصين، وإيقاف التبادل التجاري ومقاطعة العمالة والمنتوجات الصينية وبهذه الحدة والصرامة مع الكثير من التهويل والتحذيرات القويّة ... كل ذلك بكل تأكيد يتجاوز مجرّد التحوّط من فيروس لا يزيد خطورة عن فيروس الإنفلونزا، والدليل أن الأطباء في سنغافورا كانوا قد جرّبوا لقاح الإنفلونزا مع لقاح الإيدز على مصابين بفيروس كورنا وتحصّلوا على نتائج رائعة فيما مضى.... تصبحون على خير، وكل منكم من يتمتّع بصحّة جيدة يجب ألّا يخاف من الإصابة بهذا الفيروس الذي يكون ضحاياه فقط من أولئك المتوعّكين صحيّاً لأي سبب من الأسباب. ربّي يعافيكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك