هناك من يبحث عن الدقيق حتى يجده، وحينما يجده يفرح به فيحضره إلى بيته، ثم يعجنه، ومن بعدها يضعه في الفرن ليخبزه وحينما يجهز يتركه لغيره كي يأكله. الأوّل يتعب كثيراً ويجهّز الخبز لكنّه ينام جائعاً، والثاني يشم رائحة الخبز الطازج فيرسل إليه من يحضره ومن ثمّ يقتات منه وينام شابعاً.
كنت يوم قبل أمس - الثلاثاء - في عيادتي الصباحيّة، وكانت العيادة كل فرصها الثمان ( 4 حالات جديدة و 4 حالات متابعة) مملوءة، وكانت معي طالبة من السنة النهائية في كليّة الطب وهي تجهّز للمسات الأخيرة قبل إمتحان البكالوريوس في بداية مارس 2020. هذه الطالبة كانت واحدة من بين أولئك الذين رغبوا في حضور عياداتي قبل إمتحانهم النهائي بعد أن كنت قد دُعيت الأسبوع الماضي من كلية الطب بجامعة وورك لإلقاء محاضرة ختاميّة لطلبة السنة النهائيّة وكان ذلك بناء على إختيار إدارة الكليّة لي لألقي تلك المحاضرة الإقفاليّة في مجال المخ والأعصاب بعد ردود الفعل الإيجابية الكثيرة التي تلقّتها الكلية من طلبة السنة النهائية للعام الماضي حيث كنت قد دعيت لإلقاء محاضرة مماثلة.
كان عنوان محاضرتي لهذه السنة "مراجعات ختاميّة في الأمراض العصبيّة"، وكان إستقبال الطلبة لما قلته لهم هذه السنة أكثر من رائع وإنعكس ذلك على حدّة التصفيق بعد نهاية المحاضرة والتي إستمرّت لمدة 90 دقيقة متواصلة، وكذلك على عبارات الشكر والثناء الكثيرة التي سمعتها وأنا أعبر المدرّج الكبير ناحية باب الخروج الخلفي بعد الإنتهاء من إلقاء تلك المحاضرة.
المهم أن الطلبة طلبوا منّي السماح لهم في مجاميع لحضور عياداتي في المستشفى الجامعي بهدف التمرينات السريرية على حالات مختارة من بين مرضاي، وكانت هذه الطالبة من أوائل أولئك الراغبين في الحضور معي.
المهم في الأمر أنّني ناديت على مريض جديد، وكان رجلاً في أواخر الستينات من عمره. كان متعلّماً ومثقّفاً وكان من كبار المهندسين في شركة قبل تقاعده الحديث، لكنّه مازال في شبابه كما نقول ومازال في حيّويته وفي ذكائه الذي أهّله ليشغل وظيفة مرموقة طيلة سنين عمله قبل سن التقاعد..
بعد أخذ سيرة المرض وبقيّة المعلومات المتعلّقة بمرضه، وصلت معه إلى مرحلة الفحص السريري بهدف تشخيص حالته المرضيّة، وهنا تركت الطالبة النبهة لتقوم بفحص النصف الأسفل من الجسم من الناحية العصبية بهدف التدريب والترشيد. كانت هي تقوم بفحص ما وأنا أسألها وأرشهدها وأشرح لها وكنت أضرب لها الكثير من الأمثلة الواقعيّة من عموم الحياة بشكل أعجب ذلك الرجل وشد إهتمامه. كان هو ينصت إلى كل عبارة كنت أقولها للطالبة وكل توجّه أنصحها بعمله وكنت في كل مرّة أضرب لها مثالاً عمليّاً من الحياة حتى تستوعب الفكرة وكان المريض معجباً بطريقتي في التعليم كما قال، وإستمرّت الطالبة في الكشف حى أنهينا الكشف السريري وبدأنا نفكّر في التشخيص والرجل يستمع إلينا بكل عناية وإهتمام. وبالفعل توصّلنا إلى تشخيص لحالته وحتى قبل الإستعانة ببعض التحاليل المختبريّة.
أعجب السيّد المحترم بالطريقة التي وجهّت فيها الطالبة نحو التعرّف على التشخيصات التفاضليّة (Differential Diagnoses) الأقرب ومن بعدها عملية الفرز المنطقيّة حتى التشخيص النهائي. أعجب الرجل بالفترة التعليميّة مع أنّه كان هو الحالة المرضيّة فيها، وأحسّ حينها بأنّه كما قال "في أيدي أمينة" !!. المهم أنّه وبعد أن عبّر عن إعجابه بطريقة التدريس والكيفيّة التي توصّلت بها معه للتشخيص، وحينها نظر إليّ باسماً وبالكثير من الإحترام، وقال لي بكل أدب ولباقة: هل لي دكتور أن أسألك من أي بلد تنحدر إن كان ذلك لا يزعجك؟. ردّيت عليه بإبتسامة عريضة وبالكثير من الثقة بالنفس.... وأقولها بصدق كنت حينها في داخلي فخوراً ومعتزّاً بالبلد التي أنتمي إليها... قلت له وبكل ثقة وهدوء: أنا من ليبيا. ورد عليّ بالكثير من الإنشراح والإحترام والتقدير: نعم، أنت من منطقة البحر المتوسّط، وأقولها بكل صدق من خلال خبرتي حينما كنت موظّفاً كبيراً في الشركة؛ أن الناس الذين كنا نتعامل معهم من منطقة البحر المتوسّط كلّهم كانوا أذكياء ومتفتّحين وصادقين في معاملاتهم، ويمكنني الآن إضافة كلام آخر بإعتبارك دكتور متخصّص بأنّني منذ فترة حملت زوجتي إلى طبيب إختصاصي آخر في هذا المستشفى، وكان رائعاً إلى أبعد الحدود معي ومع زوجتي، وحينما سألته عن موطنه قال لي بأنّه من مصر. أنا ألتقي بك اليوم وأنت قد عاملتني بهذه المهنيّة الرائعة وبأسلوبك الحبّوب في التعامل معي ومع طالبتك، أحسست بأنّكم في تلك البلاد أذكياء وشطّار وتعرفون كيف تتعاملون مع مرضاكم... أشكرك على معاملتك الرائعة لي.
بعد إنتهاء الفترة الصباحية بسلام، وبعد أن غادرت الطالبة طالبة منّي السماح لها بحضور عيادة أخرى معي... بعد ذلك جلست لتناول غذائي، وهنا سرح بي خيالي قليلاً في عالمنا المغيّب هناك في بلداننا العربيّة، وقلت في نفسي بالكثير من التأوّه والحسرة والشعور بالمرارة: هكذا نحن نعمل بجد ونجتهد كثيراً ونستخدم عقولنا بكل ذكاء وحسن تدبّر ونصل إلى معرفة التشخيص لننال بذلك إعجاب وتقدير مرضانا وننال ثقتهم فينا لكنّنا في النهاية لا نقدر على تقديم إبداعاتنا في بلداننا لأهلنا لأن عالمنا وللأسف يحكمه الأغبياء ويسيّره بالفعل... يسيّره الحقراء، ممّا يدفع بكل العقول المبدعة للفرار إلى عالم يفهمهم ويسمح لهم بحريّة إستخدام عقولهم ويقدّر كل إبداع يقومون به. نحن في بلداننا ننجب العقول النيّرة ونخرّج الخبرات المعتبرة وندفع الكثير من ثروات بلداننا لتعليمهم لكننا حينما ننهي المهمّة ونخرّجهم ندفعهم للهروب منّا لغيرنا كي نفقدهم ويستفيد غيرنا منهم، وكل ذلك يحدث بسبب غباء تفكيرنا وغياب الوطنية عندنا؛ وهذا ليس هو حالنا وحدنا. فكل بلاد العالم المتخلّفة تنجب المبدعين وتعلّمهم ثم بعد ذلك تحاربهم وتضيّق عليهم وتعكّر لهم صفو حياتهم حتى تدفعهم للرحيل إلى حيث يجدون إحترامهم وحيث يجدون من يقدّر إبداعاتهم ويستفيد منها بعد أن يحصل عليها هكذا.... خبرات جاهزة ولا يدفع درهماً واحداً لإعدادها وتأهيلها. نحن نعرف كيف نطرد متعلّمينا ومثقّفينا وأصحاب العقول النيّرة عندنا، وهم يجيدون كيف يستقطبونهم.... تصبحون على خير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك