حينما يتفاءل الإنسان يرى الدنيا بألوان مختلفة ويحسّ بمباهجها ويتمتّع بخيراتها ويشعر بأن العالم... كل العالم هو طوع يديه ومنبسطاً أمامه... وهو من يسيّره ولو من جانبه القريب منه.
صحوت هذا الصباح باكراً قليلاً فحدّقت في الفضاء البعيد لأرى حياة تصنع من جديد فدب في جوارحي وآحاسيسي شعور سعيد.
رأيت طيوراً فرحة تسبح في الفضاء، سناجب تقفز على البطحاء، طائرة صغيرة تمخر عباب السماء، نسمات هادئة تنعش ذاك الهواء....
عندها قلت في نفسي.. إذا الدنيا هي جميلة بهكذا نقاء، وإذا كان عطاء الله للبشر بهكذا سخاء؛ فلماذا نحن لا نبعد عن أنفسنا العناء ولماذا يزرع بعضنا للبعض بذور الشقاء؟.
كنت منذ يومين أتفرّج على الفريق السويسري وهو يلعب في كأس العالم بكل أناقة وبكل إقتدار فقلت في نفسي حينها... تلك هي سويسرا التي برغم كل المغريات أبقت على نفسها محايدة في الحرب العالميّة الثانية فجنّبت بذلك شعبها عناء التدمير وأناء الخراب والقتل والتشريد ، مع أنّها برغم حيادها لم تسلم من نفاذ الغير إليها. بقيت سويسرا محايدة لكنّها كانت محاطة بثلاثة إمبراطوريّات في يوم ما وفي زمن ما وهي إيطاليا وفرنسا وألمانيا. تلك الدول لم تترك سويسرا على حالها برغم حيادها، فتسرّبت لتقظم بعض من أراضيها ولتسمح لبعض من مواطنيها بالهجرة إليها والبقاء فيها. كانت النتيجة أن سويسرا التي نعرفها اليوم برمز الحياد بقيت ثقافيّاً ولغويّاً مقسّمة بذلك السياق. بعض من سويسرا يتكلّم ويتعامل بالألمانية، والبعض الآخر بالفرنسية، والبعض الثالث بالإيطاليّة؛ ولكن مع كل ذلك أبقت سويسرا على نفسها بلداً حياديّاً وإستفادت من حيادها بأن أبقت على شعبها متعلّماً ومثقّفاً ومتمدّناً وفرحاً ومرفّهاً. بقيت سويسرا من بين أفضل بلاد العالم ومنذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. تتربّع سويسرا مسترخية اليوم على بساط العالم في النظافة، في الخدمات الصحيّة والإجتماعية، في الشفافيّة والعدل، وفي حريّة الإنسان. بقيت سويسرا من بين أرقى دول العالم في العصرنة والتحضّر والتمدّن والسعادة... فلماذا؟.
السويسريّون قرّروا من فيض ثقافتهم وتحضّرهم بأن يتعايشوا مع بعض، وأن يتناغموا مع بعض، وأن يتواصلوا مع بعض. لم تفرّق سويسرا لغات بين مناطقها، بل تواصل البشر فقط لأنّهم بشر وينتمون إلى ذلك الجزء من العالم. تواصل السويسريّون وتعايشوا مع بعض في هدوء وسلام لأنّهم عشقوا الحياة ولأنّهم إحترموا قيمة الإنسان فأعطوه الحريّة ومكّنوه منها. ترفّهت سويسرا وحقّقت كدولة البحبوحة لأهلها.. كل أهلها بدون تمييز وبدون ضغائن وبدون إحتقانات. لم يسمح الشعب السويسري لإختلافاته اللغويّة بأن تعكّر صفو حياته، فتقارب ذلك الشعب وتصافح وتمازج وتواصل... ولم يختلف على الجزئيّات. لم يختلف السويسريون على الجزئيّات لأنّهم إعتبروها من الهوامش وليس من الأساسيّات. إعتبر الشعب السويسري إختلافاته اللغويّة كميز تحضّري وكتكامل ثقافي إستفاد منه لبناء دولة متماسكة ومتناغمة ومتكاملة ذلك لأن هذا الشعب يفكّر ويتدبّر ويحسب ويعتبر.
نحن في ليبيا شعب واحد في العرق واللغة والدين والتكامل الإجتماعي والتمازج الديموغرافي، لكنّنا مع كل ذلك إخترنا بأن نختلف وأن نتخاصم وأن نتقاتل وبأن نصبح أعداء رغم توافر كل عناصر الإلتقاء. نحن قرّرنا بأن نختلف فيما بيننا لأنّنا وللأسف لا نرى الدنيا كما خلقها الله لنا، ولأنّنا فسحنا المجال لشرور أنفسنا بأن تستحوذ علينا ولأنانيّاتنا بأن تسيّر حياتنا ولشهواتنا ورغباتنا بأن تتحكّم في تصرّفاتنا فكانت النتيجة أننا خسرنا أنفسنا ودمّرنا دولتنا وحرقنا كل مكتسباتنا ورضينا بأن نصبح مسخرة لكل العالم المحيط بنا... فهل آن لنا بأن نجلس ونفكّر ونعود إلى عقولنا ونعتبر؟. أتركوا الدين لرب السماء وتواصلوا أنتم من منطلقاتكم الإنسانيّة، من خواصكم البشريّة، من مكوّناتكم الإجتماعية. تواصلوا أنتم يا أيّها الليبيّون والليبيّات من وحي ضمائركم من نبع خصالكم من باب المحافظة على كياناتكم وصون أعراضكم وضمان مستقبل أبنائكم. تواصلوا وتماسكوا وتحابّوا وتصافحوا اليوم قبل غد فإنّكم بذلك فقط سوف تقدرون على الحفاظ على كرامتكم وإعتباركم ووجودكم وسيادتكم... يومكم سعيد ومفرح وبهيج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك