2015/12/28

فلتتحوّل مدن ليبيا إلى منابر للحريّة (مقال كتبته يوم 28\12\2011)

الحريّة لا تعطى، ولكنّها تؤخذ عنوة. إن الذي ينتظر بأن توهب له حريّته إنّما هو كمن ينتظر بأن يسقط عليه الذهب من السماء.

إن الذي حدث في ليبيا منذ إعلان التحرير وحتى اليومين الماضيين إنّما يبرهن على أنّ الأمور في بلادنا لا يمكنها أن تنقضي هكذا بدون ضجيج، وبدون صراخ، وبدون إصرار.
مشكلتنا في العالم الذي نعيش فيه - وهوعالم مازال يعاني من التخلّف، والإنتهازيّة، والكذب، والنفاق - أنّ الناس في بلادي كانوا قد تعلّموا بأن الكذب على الناس والتسويف إنّما هي أمور تعتبر "طبيعيّة"، وبذا فهي تمرّ بدون حساب، وبدون عقاب، وربّما بدون خجل أو تحرّج من ممارستها؛ والسبب يكمن في غياب روح المساءلة كثقافة، والمحاسبة ربّما كنوع من مراقبة أعمال الحكومة؛ ونحن وللأسف توارثنا هذا النمط من السكوت على الخطأ – خطأ الحاكم بدون شك – ذلك لأنّ رجال الدين في بلادنا يأمروننا دوماً بإطاعة الحاكم على أساس أنه "وليُّ الأمر"، وأن طاعته "واجبة" إستناداً إلى الأية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ }.
هذه الطاعة – في نظر شيوخ الدين – تعتبر واجبة، ومفروضة حتى ولو أخطأ الحاكم، أو طغى، أو تجبّر. إستمعت حديثاً في إحدى الجمعات إلى الخطيب وهو يقول: عليكم بطاعة الحاكم حتى وإن ظلّ السبيل، حتى وإن أفسد، حتى وإن ظلم؛ لأنّ طاعة ولي الأمر هي من طاعة الله... هل بعد هذا نتوقّع من عموم الناس بأن تخرج عن طاعة الحاكم حتى وإن طغى وتجبّر؟.

قال الشيخ الطاهر الغرياني ( مفتي ليبيا) في سبتمبر 2009 تعقيباً على تراجعات الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة في عهد الطاغية معمر القذّافي بينما كان الشيخ الطاهر الغرياني واعظاً مرموقاً في قناة "الجماهيريّة" التابعة لنظام الطاغية القذّافي: ( وذكرت الدراسة نبذة تاريخية مستفيضة ومفيدة عن استعمال السلاح في تغيير الأوضاع السياسة وموقف علماء السلف منها، وأن الأمر استقر من كبار الصحابة وتابعيهم وفقهاء سلف الأمة على حرمة ذلك وحرمة الخروج على الحاكم بالسلاح، لما ينشأ على الخروج المسلح من الفتن الهوجاء التي تأكل الأخضر واليابس، وذكر أصحاب هذه الدراسة أن صحة هذا الأمر أكدته تجربتهم القاسية في العمل المسلح وما كانوا عليه من غفلة وعدم تبصر، وما كتبوه في هذا الخصوص ينبؤ عن ندمهم وتبرئهم مما كانوا عليه، ودعوة الآخرين إلي التبرؤ منه أيضا ومن كل عنف في الدعوة إلى الله تعالى ). كانت تلك الثقافة الموروثة هي بكل تأكيد من أهم العوامل التي منعت الناس من معارضة الحاكم، أو إنتقاده، أو حتى تنبيهه عن الخطأ؛ خاصّة وأنّه في بعض المجتمعات الإسلامية يعتبر الحاكم عندهم "معصوماً عن الخطأ"، وكما نعرف فإنّ الطاغية القذّافي كان يحكم ب"الشرعيّة الثوريّة" التي لاتحتمل الخطأ، ولا تخضع للمساءلة على الإطلاق... وكان الشيخ الطاهر الغرياني يعرف ذلك يقيناً.

هذه الثقافة "المزروعة" في المجتمع المسلم عبر العصور - أي منذ عهد النبي عليه السلام، ومروراً بالخلفاء الراشدين، ومن تبعهم إلى الآن – هي التي أدّت إلى تفشّي الفساد، وغياب الشفافيّة، وشيوع فكر( وإستعينوا على قضاء حوائجكم بالصبر والكتمان)، وكذلك: ( وإذا أبتليتم فأستتروا)، وهذه بكل تأكيد هي نفس الثقافة التي إرتوى من ينابيعها المستشار مصطفى عبد الجليل؛ وبذا كان ذلك التستّر على كل شئ، وكان تغييب الشفافيّة في كل ممارسات المجلس الإنتقالي، وكان كل شئ يتم في السرّ بما في ذلك المعلومات بخصوص أعضاء المجلس الإنتقالي. تلك الثقافة هي ما أوصل بلادنا إلى هذا "التأزّم" بين الحاكم والثوّار الذين ثاروا خصّيصاً من أجل إنهاء تلك الممارسات التي تتم في الخفاء، ويتم التستّر عليها، مع إسكات أي صوت يدعو إلى المكاشفة، أو المحاسبة، أو إلى الشفافيّة.
خرجت جموع المواطنين في مظاهرات غاضبة تشتكي الفساد، والضبابيّة، وإنعدام الشفافيّة في كل من بنغازي، وطرابلس، ومصراته.... ومن المؤكّد بأن هذا الحراك الشعبي سوف يكبر، ويتوسّع ليشمل كل المدن والقرى الليبيّة إلى أن يتم تصحيح الأوضاع بما يشتهيه المواطن، وليس بما يرغبه الحاكم.
تغيير الإرث "الثقافي" الذي يعيش بيننا سوف لن يكون بالأمر الهيّن حتى وإن كان الشعب قد قام الشعب بثورة بطوليّة عارمة من أجل حرّيته، وحتى وإن تم القضاء على الطاغية، والقذف بنظام حكمه في مزبلة التاريخ؛ فإنّ الإرث الذي تركه من ورائه سوف يستمرّ إلى أمد ليس بالقصير. فتغيير الحاكم ليس بالضرورة يؤدّي إلى تغيير عقليّة الناس تجاه الحكم.
التغيير نحو الإيجاب سوف يأخذ وقته، وسوف تكون له أليّاته، وسوف تكون له مساراته أيضاً التي ليس بالضرورة أن تتبع النهج الجديد ولو وضع لها منهجاً واضحاً، وتم تفعيل أليّات صارمة أو ملزمة بخصوصها.
من وجهة نظري ليس علينا أن نستعجل الأحداث حتى وإن كان إيماننا بأن الوقت لا ينتظر، وبأن ساعة الزمن تسير بسرعة، وبأنّنا في حاجة للحاق بمن سبقونا قياسا بذلك البون الكبير الذي – وللأسف – يفصلنا عن دول العالم المتقدّمة، وحتى ذلك الذي يفصلنا عن عالمنا المحيط. إن التسرّع ليس بالضرورة يؤدّي إلى إختزال المراحل، وكما يقول المثل الإنجليزي (More haste less speed) . بل إنّ على الباحث عن قطع أو قظم المراحل أن يتحلّى بالصبر، وأن يتعوّد على "طول النفس" إن أراد بالفعل أن يحدث تغييرا يستمرلأمد طويل.
التغيير لابدّ من أن يأخذ مداه ولكن ليس معنى هذا أنّنا نظلّ هكذا في آماكننا ننتظر أن تنزل علينا الرحمة من السماء. علينا أن نفكّر، ونسعى، وننتقل إلى الأمام حتى نحسّ بأننا نحن من صنع هذا التغيير، وبأنّنا جزء مترسّخ فيه فلا نجد أنفسناء غرباء عنه، أو قاعدين على هوامشه.
أنا أود أن أطرح نقاطاً في هذا المجال قد تكون أساساً لبرنامج عمل، لكن الذي أطرحه أنا هنا ليس بالضرورة يمكن إعتباره الأمثل أو الأوحد فالحياة هي تبادل للرؤى، وتلاقح لملكات التفكير والتصوّر:
  1.  أن يكون التغيير هدفنا.
  2. أن يتواجد بيننا مبادرون جديّون ومثابرون أيضاً.
  3. أن نرسم معالم التغيير بأنفسنا... بمعنى أننا يجب ألاّ نستورده.
  4. أن نحدد له سقفاً زمنيّاً، وأن نقسّمه إلى مراحل مع الأخذ في الإعتبار إدخال عنصر"المرونة" في كل مراحله.
  5. أن نجهّز أنفسنا كمبادرين، وأن نكون مستعدّين لنشر الرسالة لمن هم يحيطون بنا، ومنهم إلى الأبعد فالأبعد.
  6. أن نتعلّم فنون الحوار، وأن نمارسها فيما بيننا أوّلاً، وبيننا وبين من نتصّل بهم بعد ذلك، ثمّ إلى الأبعد.
  7. أن ننتقل إلى مرحلة التطبيق مباشرة بعد التنظير.
  8. أن نعمل على تحويل مدننا إلى ساحات ممارسة تطبيقيّة للديموقراطيّة الحقيقيّة التي من أهم بنودها "المحاسبة"، وذلك من الممكن أن يحدث وفق هذا التصوّر:
  • أن تقوم كل مدينة ليبيّة بتجهيز ساحة في وسطها، أو في أحد أطرافها المحيطة لتكون بمثابة أرضيّة للممارسة الميدانيّة.
  • أن يحدّد يوم كل جمعة ( بعيد صلاة الجمعة مباشرة) كيوم حشد لجميع الراغبين في المشاركة بكل حريّة.
  • أن يكون البرناج الرئيسي لهذه التجمّعات مراجعة تصرّفات الحكومة خلال الأسبوع السابق، والعمل على كشف أية أخطأ تحدث خلال ذلك الأسبوع، وطرح البدائل العمليّة على أن تعطى الحكومة مهلة زمنيّة محددة لإحداث التغيير المطلوب؛ وإلاّ فيجب وضع خطوات عمليّة "تأديبيّة" للمرحلة اللاحقة في حالة عدم الإمتثال.
  • يكون التجمّع أيضاً بمثابة مهرجان إجتماعي، ثقافي، وحواري يهدف إلى تعليم الناس أسس التحاور بإسلوب عصري متحضّر. كذلك يفسح المجال لنواحي ترفيهيّة ( شعر، غناء، رقص، مسابقات، مناضرات، وما في إطارها) تخفّف على الناس، وتقلّل من الإحقان.
  • يتم التخطيط لهذه الملتقيات لتكون على مدار السنة بواقع مرة واحده في كل إسبوع؛ اللهمّ إلاّ إذا حدثت أشياء طارئة فتلك يتم التعامل معها في حينها.
      9. العمل على إدخال هذه الثقافة الجديدة في مناهج التعليم، والتدريب، والممارسة العمليّة للأجيال الصغيرة بحيث يشبّ هؤلاء
          على مثل هذا النوع من الثقافة "السياسيّة" المتّزنة التي تحاسب الحاكم وليس العكس.
أتمنّى أن يجد القارئ العزيز بعض النقاط الإيجابيّة في هذا الطرح، والهدف بدون شك يظلّ دائماً.... هو خدمة بلادنا من أجل الإنتقال إلى الأمام.

التعليق
عندما أرجع لي "الفيسبوك" هذا المقال كتذكرة بمناسبة إنتهاء عام 2015، سعدت بالتذكرة وقرأت مقالي وكأنّني أراه لأوّل مرّة !. مررت بكل صغيرة وكبيرة فيه، وعادت بي الذاكرة إلى نهايات عام 2011 حينما كنّا نحلم ونتمنّى ونتوق.....
وأنا أقرأ مقالي من جديد هذا الصباح أصبت بخيبة أمل كبيرة وبإنقباض يفوق المعاناة التي نعيشها الآن. شعرت هذا الصباح بأنّّنا كان قد أصابنا ما أصابنا في نهايات عام 2011 فدفعنا بقوّة ما وبوقع ما إلى تدمير بلادنا بأيدينا، وقتل الأحلام والأمال التي كانت قويّة وعميقة في دواخلنا. أحسست بأنّ ما أصابنا في نهايات 2011 كان غريباً وشاذّاً... وبصدق لم كان نكبة لم تكن في الحسبان.
وأنا أفكّر الآن بخلفية تلك الأمال التي كانت تغمرنها حينها، قلت في نفسي: إنّهم هم... نعم، هم تجّار الدين والمتخلّفين الذين أبوا إلّا أن يعيشوا بمعطيات الماضي... إنّهم هم من عبث بكل شئ في بلادنا بما في ذلك القيم الإنسانية النبيلة، وبما في ذلك "أحلام" أطفالنا، وشبابنا الذين كانوا يأملون الخير في غدهم وفي مستقبلهم.
نعم... لقد أصبت بصدمة كبيرة وكادت تغمرني مشاعرالإحباط، لولا ذلك الأمل المترسّخ في أعماقي والذي لايمكن أن تجتثّه من داخلي نكبات الزمن حتى وإن تعاضمت.
سوف أبقى أعيش بأمالي وطموحاتي ونظرتي الواضحة إلى الغد بإعتبار أن الغد سوف يأتي بما هو أحسن. وسوف أمضي كل عمري وأنا أنتظر الغد المشرق.... حتى يشرق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك