2015/10/31

أضواء سريعة عن الصرع

 الصرع هو حالة مرضية تصيب الإنسان فتحدث له نوبات عصبيّة تصرعه وتفقده الوعي في معظم الحالات. وتوجد عدّة تسميات للصرع في ليبيا مثل أم الصبيان، والخضّة.
مرض الصرع لا يعتبر إعاقة عقلية ولا هو مرضاً نفسانيّا ، وهو غير معدي ، وقد يصاحب أو ينتج عن بعض أمراض الدماغ وأمراض عضويّة اخرى تصيب الجسم وتحدث إختلالات في بعض وظائفه الحيويّة.
في الماضي، ونتيجة لمحدوديّة العلم وقصور عقول الناس وسطحيّة التفكير كان يتم التعامل مع الصرع على أنّه شكل من أشكال الجنون (مسّ من الجن) أو أنّه ربّما هو من لعنات الشياطين، وعلى ذلك فقد عولج بأشكال غريبة منها الضرب المبرح ومنها خضّ الجسم لطرد الجن والأرواح الشرّيرة منه، ومنها إستخدام الأحجية والكتاتيب ومنها إستخدام أنواعاً من الأبخرة و قراءة الرقية وما إليها من العلاجات القديمة التي تعكس محدوديّة علم الإنسان وسطحيّة تفكيره في بعض الأحيان.
يحدث الصرع نتيجة لإنتاج شحنات كهربائيّة خارجة عن السيطرة من خلايا قشرة الدماغ المسمّاة "العصبونات" NEURONS، وذلك بسبب وخز تلك العصبونات بعوامل الحث الكثيرة والتي منها الإلتهابات والإحتقانات وتحطيم الخلايا نتيجة لنمو سرطاني أو إحتباس دموي، وكذلك نتيجة للتعرّض للأذى من أسباب خارجية، وقد يكون ذلك ناجماً عن إختلالات حادّة وعنيفة في وظائف الجسم قد تؤدّي في بعض الأحيان إلى تذبذب في توازن أملاح الجسم وعناصره المعدنيّة النادرة.
مازال العلم لم يتوصّل بعد إلى معرفة السبب الحقيقي للصرع، لكن الكثير من المؤثّرات التي تحدث الصرع أصبحت معروفة في عالم اليوم وذلك بكل تأكيد يسّر من عمليات الوقاية والعلاج وجعل الصرع أكثر حميديّة من ذي قبل.
الصرع هو مرض شائع في كل أنحاء العالم، وفي بريطانيا وحدها يبلغ عدد المصابين بالصرع 500,000 مصاب أي بنسبة 1% من كل عدد السكّان، وهي نسبة تعتبر كبيرة جدّاً مقارنة ببقية الأمراض التي تصيب الإنسان.

أنواع الصرع
 هناك الكثير من التقسيمات للصرع نتيجة لكثرة الأنواع والأشكال التي يحدث بها الصرع، ولكن لتسهيل الموضوع فإنّني سوف أطرح تقسيمة يسهل الإلمام بها وتذكّرها لمن يهمّه الأمر:
الصرع قد يكون وراثيّاً وقد يكون مكتسباً. الوراثي قد يكون ناتجاً عن تشوّهات خلقية أو أخطاء تركيبيّة في مخ الإنسان منها النمو المتعثّر ومنها حالات صعوبة التعلّم مثل مرض التوحّد وصعوبات النطق والكلام، ومنها ما يكون مصاحباً لعيوب خلقيّة وتركيبيّة مثل مرض داون (المرض المنغولي) ومنها الشلل الدماغي وبقية العيوب الخلقية وهي كثيرة جدّاً وأغلبها إن لم تكن كلّها تصطحب بالصرع.
أمّا الصرع المكتسب فهو الأغلب من حيث الحدوث في جميع الأعمار، لكنّه يعتبر بكل تأكيد الأكثر حدوثاً في الفئة العمرية ما بين 15 - 50 سنة من عمر الإنسان. في الفترة التي تسبق 15 سنة والفترة التي تأتي بعد 50 سنة عادة ما يكون الصرع ثانويّاً أي أنّه يكون ناتجاً عن عطل أو مرض أو إختلال معيّن يمكن الإهتداء إليه والتعرّف عليه في الكثير من الحالات نتيجة لتطوّر وسائل البحث والتحاليل المتاحة في عالم اليوم.
وبناء على ذلك التنوّع والتشعّب قامت منظّمة الصحة العالمية بإستحداث تقسيماً جديداً للصرع يمكن تلخيصه في الآتي:
1- صرع جزئي، ويمكن تقسميه إلى جزئين: جزئي معقّد وجزئي بسيط.
2- صرع شامل، وهو أيضا يقسّم إلى: إنقباضي، إرتعاشي أو إرتجاجي، إرتخائي، أو صامت لا حراك فيه Non-convulsive Epilepsy.
هناك بكل تأكيد أنواعاً تحتوي على أكثر من عارض أو تقسيم وتشكّل مع بعضها تقسيمات فرعيّة أخرى لا يتّسع الحيّز هنا لذكرها.
كما أنّه يتوجّب علينا تذكّر حالات "الهياج الصرعي" Status Epilepticus في إطار التقسيمات، وهي تكتسب تعريفاً جديداً من حين إلى آخر نظراً لتطوّر العلم وتمدّد البحوث في هذا الإطار، فيتوجّب علينا كأخصائيّين ومعالجين أن نكون مدركين لآخر التطوّرات والتعريفات وبرامج العلاج الموثّقة في مثل هذه الحالات التي تعتبر بكل المعايير خطيرة وقد تؤدّي إلى وفاة بالإمكان تفاديها لو أنّنا عرفنا كيف نشخّص تلك الحالات وعرفنا كيف ومتى يتوجّب علينا التدخّل لإنقاذ مرضانا من أثارها لو أنها حدثت.

ماذا يجب عمله عند حدوث أوّل نوبة صرع؟
أوّل شئ يجب الإنتباه إليه هو التذكّر بأنّ ليس كل حالة إرتجاج أو خضّة تصيب الإنسان أو كل فقدان للوعي أو كل إغماءة هي بالضرورة صرع. فهناك حالات صرع تكون ناتجة عن حادثة مروّعة من نوع ما كأخذ عقاقير بكميّة كبيرة أو تناول المواد المهلوسة أو كميات كبيرة من الخمر أو بعض السموم أو التعرّض لصدمة كبيرة على الرأس أو الإصابة بإلتهاب حاد أو إرتفاع مفاجئ وشديد في درجة الحرارة أو التعرّض لصدمة نفسية كبيرة أو أحياناً نتيجة لهبوط مفاجئ في ضغط الدم نتيجة لوقوف سريع أو كنتيجة لإرهاق كبير وتلك الحالات تسمّى "نوبات إستفزازيّة" Provoked Seizures وهي برغم تشابهها الكامل بالصرع، لكن لا يجب إحتسابها من الصرع ولا يجب معالجتها كذلك.
من هنا نرى بأنّ أوّل شئ يجب عمله هو عدم التسرّع بتشخيص الصرع لمجرّد حدوث نوبات مشابهة للصرع، ويجب عدم الإقدام على معالجة أوّل نوبة صرع إلّا لإستثناءات معروفة ويقينيّة يعرفها المتخصّصون جيّداً ويجب أن تترك للإختصاصيين وحدهم حتى لا يحكم على أي شخص بتشخيص الصرع وهو لا يعاني منه، فبمجرّد البدء في المعالجة يصبح من أصعب الأشياء توقيف ذلك العلاج خوفاً من حدوث نوبات الصرع.
الشئ الثاني الذي يجب الإنتباه إليه كذلك هو البحث عن كل ما يساعد على التوصّل إلى تشخيص سليم مثل معرفة تفاصيل ما حدث بكل حيثياته من قبل المرافقين للمصاب والذين شاهدوا بأم أعينهم ما حدث ويمكنهم وصف ما حدث بكل دقّة، وإن تعذّر ذلك فتتوجّب الإستعانة بمشاهد مصوّرة على الهواتف النقّالة أو أية كمرات إليكترونية، فتلك المشاهد المصوّرة تعتبر صورة ناقلة بكل التفاصيل لما حدث للشخص المصاب والذي لا يستطيع تذكّر ما حدث في معظم الأحيان إن لم يكن كلّها.
العامل الثالث الذي يجب الإستعانة به هو "التحاليل" والتي من بينها تحاليل الدم وخاصّة نقص السكّر في الدم، والإختلالات الملحية والإلتهابات وأحياناً التسمم بالكحول أو بعض الأدوية والعقاقير. ومن بين التحاليل الأخرى هو عمل تخطيط كهربائي مهني للمخ. إذ توجد في عالم اليوم عدة طرق يمكن بها عمل ذلك التخطيط منها العادي، ومنها المصاحب لفترة من عدم النوم لا تقل عن 6 ساعات في الليلة السابقة للتحليل، ومنها التخطيط المستمر والمطوّل والذي قد يمتد لخمسة أيّام متواصلة بلياليها، ومنها في الحالات النادرة التخطيط المباشر من على قشرة المخ. كل هذه التخطيطات المخيّة يجب التفكير بشأنها عندما يرغب الإختصاصي في التيقّن من التشخيص قبل إعطاء ذلك التشخيص للمصاب، لأن ذلك سوف يكون علّة مدى الحياة وبهذا يتوجّب التيقّن والتأكّد قبل القذف بالتشخيص لكل من يصاب بنوبة مخيّة وخاصّة عندما يتعلّق الأمر بالأطفال.
هناك أيضاً الصور التشخيصيّة مثل الصور المقطعيّة وصور الرنين المغناطيسي والصور الموجّهة وخاصة تلك التي تدرس الفص الصدغي وقرن عامون Hippocampus على وجه التحديد لأنّ مثل تلك الصور قد تكون حاسمة أحياناً عند التفكير في العلاج المناسب والأمثل في المستقبل.
من هنا أرى بأن الصرع ليس هو بتلك السهولة التي قد ينظر إليها بعض الأطباء، وبالفعل إن التعامل مع الصرع من قبل الإختصاصيين يجب أن ينال المزيد من الإهتمام والتركيز والتروّي والتفكير العميق إنطلاقاً من قناعة واحدة مفادها أن التشخيص يعني ملزمة تبقى مدى الحياة ولها تأثيرات شخصيّة ونفسيّة وإجتماعيّة قد تتجاوز تصوّرنا نحن الإختصاصيّون في هذا المجال فما بالك بأولئك الذين يشتغلون في تخصّصات أخرى وليسوا ملمّين بأحدث التطوّرات في مجال التشخيص والعلاج والتعامل مع المصاب بالصرع.
هناك باب آخر يجب أيضاً النظر إليه بكل حذر وتدبّر ويقين وهو باب العلاج... فتوجد في عالم اليوم مضادّات للتشنّج بأعداد كبيرة جدّاً قد تتجاوز الأربعين نوعاً بين القديم والجديد وهي ليست بالضرور تشتغل في كل الحالات بنفس الطريقة ولا بنفس الكيفيّة ولا بنفس الفعالية. هناك مضادّات للتشنّج قد تصلح لهذا النوع من الصرع ولا تنفع في ذلك. هناك مضادّات للتشنّج قد لا تصلح للمرأة الحامل، وهناك التي قد لا تصلح للأطفال، وهناك التي لا تصلح لكبار السن الذين يعانون من أمراض أخرى ويتناولون أدوية كثيرة نتيجة لحدوث تفاعلات بين تلك الأدوية ومضادّات التشنّج، وكذلك تأثير مضادّات التشنّج على فعالية بعض الأدوية مثل الأدوية المانعة للتجلّط وحبوب منع الحمل والهرمونات المنظّمة للغدد المختلفة. نتيجة لكل هذه العوامل يجب أن يترك علاج الصرع للإختصاصيين البارعين في مجالهم حتى يمكن التوصّل إلى السيطرة طويلة الأمد على الصرع وتمكين المصاب من ممارسة حياته كما يجب والتقليل من مضاعفات أدوية التشنّج والتي تكون خطيرة جداً في بعض الأحيان.
هناك بكل تأكيد مواضيع حسّاسة وخطيرة يجب التنبّه إليها عند التفكير في معالجة الصرع منها الحمل والرضاعة وقيادة السيارة والقيام بأعمال خطيرة تحدث نوبة الصرع سقوطاً منها قد يؤدّي إلى فقدان الحياة لأسباب كان بالإمكان تفاديها لو أن الشخص المعالج إشتغل بمهنيّة كبيرة ومسئوليّة مع مسحة إنسانية وخلفية ظميريّة تخاف الله وتحترم قدسيّة حياة الإنسان.
وختاماً... كلمة صغيرة للمصابين بالصرع، رجائي بألاّ تجزعوا وألاّ تروا الصرع بمثابة نهاية للسعادة أو نشاطات الحياة. المستقبل هو زاهر ومنير بالنسبة لعلاج الصرع، والعلم يتقدّم في كل يوم في هذا المجال، وهناك إختيارات علاجية كثيرة لم أتعرّض إليها في هذا المقال حتى لا أطيل عليكم منها المٌنظِّمات الكهربائية Vagus Nerve Stimulators ومنها العمليات الجراحية الدقيقة بإستخدام أشعة الليزر، ومنها الإهتداء إلى أنواع من الصرع كانت تعتبر في الماضي القريب من المستحيل علاجها مثل Autoimmune Epilepsy ، وهذا الإهتداء الجديد مكّن العلماء من معرفة كنهها ومعالجتها بالكامل بل وفي بعض الأحيان إيقاف النوبات الصرعيّة فيها بالكامل وربما إلى الأبد.
المستقبل هو لمرضى الصرع، فعليهم بألاّ ييئسوا وألاّ يفقدوا الأمل، وفهم الناس بماهيات الصرع وتقبّلهم له وللمصابين به بدأ يزداد مع الأيّام ولم يعد الصرع في البلدان المتطوّرة عاهة كما كان ولم يعد وصمة يخجل المريض من ذكرها أمام الآخرين.
وأخيراً... يجب التنويه إلى حالة نادرة جداً في الصرع تسمّى SUDEP أو الموت المفاجئ. هذه حقيقة مثبتة ولا يمكن نكرانها ولكن المريح فيها هو أنّها نادرة جداً، والأهم هو البحث في أسبابها والإبتعاد عن مسبباتها بقدر الإمكان وذلك يتطلّب الحذر والنباهة من المريض بالصرع ومن أسرته والمقيمين معه. هذه الظاهرة رغم خطورتها إلّا أنّها يجب ألا تقلق المصاب بالصرع فهي نادرة الحدوث بذلك الشكل الذي يجعل الكثير من بلاد العالم لا تهتم بها، وقد يكون الإهتمام بها على أشدّه في البلاد المتقدّمة حيث قيمة حياة الإنسان لا تقدّر بأموال الدنيا كلّها، ولا تتحمّل هذه البلدان المجازفة بحياة مواطنيها
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك