2014/10/26

دولة مدنيّة بلا ثوّار أو مليشيات "إسلاميّة"

 

من أجل أن ننتقل بليبيا إلى الأمام مثل ما نجح إخوتنا في تونس في بلوغه، علينا بأن نرسم معالم طريقنا ونتّفق على "ماذا نريد". هل نحن بصدق نسعى لتحقيق دولة مدنيّة عصريّة أم أنّنا نريدها دولة دينيّة مثل إيران؟.
علينا في البدء أن نحدّد مواقفنا من إستمرار "الثوريّة" في بلادنا من عدمه، فقد شبعنا ثوريّة في عهد الطاغية القذّافي ولم نتمكّن من تأسيس دولة حينها برغم إستمرار "الثوريّة" لأكثر من أربعة عقود من الزمان.
الثوري يغيّر ويدمّر مثله في ذلك مثل الثور الهائج، لكنّه أبداً لا يعرف كيف يبني دولة. هل نتوقّع من الرياح الهوجاء أن تبني أي شئ؟. هل نظن بأنّ ثورة البراكين بإمكانها أن تبني أي شئ؟.
لا يا سادتي، نحن قد نكون إحتجنا إلى غليان شعبي وثورة عارمة لتغيير نظام القذّافي الهمجي، لكنّنا مطلقاً لم نفكّر بأنّنا بالثورة أو بالثوّار يمكننا بناء دولة. علينا أن نراجع حساباتنا في هذا الإطار، وعلينا بكل صدق ووطنيّة بأن نجلس وننتناقش حول هذه القضيّة لأنّ مرورنا إلى الأمام هو مرهوناً بما نقرّره بخصوص "الثوّار" وما كان في مجالهم من دروع ومليشيات مسلّحة وتجّار دين ومتغوّلين وناكرين لشئ إسمه "الدولة" بما يشمل ذلك مؤسّسات هذه الدولة من برلمان وحكومة وجيش وشرطة ومحاكم وقضاء ومحاسبة وصحافة حرّة ورأي شعبي غير مدجّن.
 إذا أردنا أن نبني دولة عصريّة فعلينا أن نقر فيما بيننا بأن هذه الدولة سوف تكون متعدّدة الوظائف ومتنوّعة الثقافات ومنسجمة مع جموع الشعب بتشعّباته وتلوّنات طريقة تفكيره وثقافته. مثل هذه الدولة لا يمكن بنائها من الثوّار ولا من رجال الدين ولا من المؤدلجين ولا من المتطرّفين مهما كانت توجّهاتهم. الدولة العصريّة من كثرة تنوّعها تحتاج إلى عقول متنوّعة ومفاهيم واسعة وشاملة، ومثل هذه المعطيات لا تتوفّر إلاّ من خلال إختيار الأحسن من بيننا ليحكمنا بغض النظر عن تديّنه أو ثوريّته أو إنتمائه الجغرافي أو العرقي. كيف يمكننا إختيار الأحسن من بيننا ليحكمنا؟. بكل تأكيد هذا يعتبر سؤالاً في محلّه وعلينا مواجهته والبحث عن إجابات شافية عليه حتى نتمكّن من الإنتقال إلى الأمام.
في الوقت الحاضر، نحن نعرف بأنّ الإختيار من خلال صناديق الإقتراع هو البرنامج الأمثل الذي إستطاعت البشريّة أن تصل إليه عبر قرون من المحاولة والإجتهاد والخطأ. إن النظام الديموقراطي الحالي هو بكل المقاييس يعتبر خلاصة العقل البشري وحصيلة التجارب الإنسانية عبر العصور، ومع أنّه ربما يمكن وصفه على أنّه ليس بالنظام المثالي، إلّا نّه بكل تأكيد يعتبر هو الأمثل في الوقت الحالي.
أنا أعرف بأن العالم الإسلامي على كبره وتعدّد بلدانه فشل بالكامل عن إيجاد البديل الإسلامي لمعضلة نظام الحكم، ومازالت كل البلاد الإسلاميّة تتخبّط في طريقة الحكم وفي مشاريع التنمية حتى أنّنا وللأسف نجد البلاد الإسلاميّة من أكبر بلاد العالم فساداً في الحكم وظلماً لشعوبها مع غياب شبه كامل للحريّة الفرديّة نظراً لتسلّط "قساوسة" الإسلام الجدد والقدامى على مشروع الحكم من خلال لاءات "الفتاوي" وفيتوّات "الشريعة" التي هي بدورها لم نتفق على تعريف لها كمسلمين، وسوف لن نتمكّن من الإتفاق على تعريف للشريعة المقصودة إلى أن يرث الله الآرض ومن عليها.
في بلاد العالم الإسلامي المتعدّدة والتي تجاوزت الخمسين، وفي الخضم السكّاني الإسلامي الذي تجاوز المليار مسلم متوزّعين على كل بقاع العالم نجد أن العالم الإسلامي مزال متخلّفاً، وبأن المسلمين مازالوا فقراء والكثير منهم يفتقر حتى لأبسط شروط الحياة الكريمة فما بالك بالتعليم ومستلزمات الحياة العصريّة. هناك في هذا الخضم ثلاثة بلاد إسلاميّة من الممكن تصنيفها على أنّها من بين بلاد العالم المتقدّمة وهذه البلاد هي إندونيسيا وماليزيا وتركيا. العامل المشترك بين هذه البلاد الثلاثة هو "التحرّريّة" أو ما يعرف ب"العلمانيّة" وهذه الكلمة لا تعني الكفر أو التنكّر للدين أو منع التديّن كما ينعتها المتشدّدون في الدين والذين يغلب على تفكيرهم وتصرّفاتهم التطرّف الديني، وأولئك هم من يحارب العلمانيّة على إعتبار أنّها "كفر" وأن أتباعها أو المنادين بها هم من الكفّار، وذلكبكل تأكيد يدخل في باب الخوف منها(العلمانيّة) لأنّها تعني بالنسبة لهم على أرضيّة الواقع فقدانهم للنفوذ الكهنوتي (صكوك الغفران) في العالم الإسلامي وهو ممّا يعني عمليّاً إندثارهم كما إندثر الإنسان الحجري لنهاية صلاحيّته في هذا الزمان الذي نعيش بمعطياته.

من تلك الزاوية فقط وددت أن أعرّج على الإنتخابات البرلمانية التونسيّة التي جرت هذا اليوم والتي أعتبرها بالإضافة إلى كونها ظاهرة صحيّة، فهي بكل المقاييس تعتبر أيضاً سبقاً تاريحيّاً بالنسبة لكل بلاد الربيع العربي، وهذه يمكن إرجاعها إلى الخصوصيّة التونسية التي لا تتوفّر في بقية بلاد الربيع العربي بما فيها مصر.
تونس كان الزعيم الراحل الحبيب أبورقيبة قد أسّسها على أساس "علماني" مثله في ذلك مثل "أتاتورك" في تركيا، وبذلك فإن تونس ظلّت تتمتّع بحرية التعبّد وحرية الإختيار وحرية التفكير. تونس كانت في عهد الرئيس الحبيب أبورقيبة من أنجح بلدان أفريقيا إقتصاديّاُ برغم مصادر الثروة الطبيعية المتوفّرة في بلدان الجوار الجغرافي مثل الجزائر وليبيا لم تكن متوفّرة في تونس.
تونس أرادها الرئيس الراحل الحبيب أبورقيبة بأن تكون دولة تحرّرية(علمانيّة) فكانت ثقافة شعبها وفق ذلك الإختيار، ولكن ذلك النهج لم يمنع التوانسة من ممارسة دينهم كما ينبغي ولم يمنع تونس من أن تمتلك صرحاً دينيّا (جامعة الزيتونة) ينافس بكل قوّة جامعة الأزهر في مصر وهيئة كبار العلماء المسلمين في السعوديّة. 
كما أن تونس تمتاز بعمق وقوة لغتها العربيّة برغم الإنفتاح على الثقافات الأخرى والفرنسية على وجه الخصوص بما يبرهن على أن العلمانية تعني التحرّر ولا تلمس الدين بشئ أكثر من إبعاد رجال الدين عن ممارسة السياسة والتدخّل في شئون الدولة العصريّة.
تونس لك هي من خرج صباح اليوم أغلب أبناء وبنات شعبها بكل فرح وسرور للمساهمة في أوّل إنتخابات برلمانية بعد ثورة البوعزيزي في أواخر عام 2010 وسوف بكل تأكيد يختار التوانسة الأحسن من سوف يحكمهم ويسير بتونس إلى الأمام. 
هناك شعلة مضيئة في تونس قد لا يوجد مثيلاً لها في كل البلاد العربية والإسلاميّة وهي الجيش التونسي. الجيش التونسي هو جيش مهني لا يمارس السياسة ولا يدين بالولاء لأحد بما في ذلك الحبيب أبورقيبة مؤسّسه، وإنّما يدين الجيش التونسي للوطن ولا شئ غير الوطن. 
ذلك بكل تأكيد كان له الأثر الإيجابي في الثورة التونسية على بن علي بحيث كانت خسائر تونس البشريّة في تلك الثورة من أقل الخسائر في جميع بلدان الربيع العربي، بحيث لم يتعدّ عدد الذين فقدوا حيواتم في هذه الثورة 217 كان من بينهم 78 فقيداً كانوا ضحايا التدافع للهروب من السجن المركزي، وبذلك فإن ضحايا الثورة التونسيّة الحقيقيّون كانوا فقط 174 ضحيّة في بلد كان عدد سكّانها 10,432,500 نسمة. هذا الرقم من القتلى في الثورة التونسيّة كان بكل الحسابات رقماً بسيطاً جداً تميّزت به تونس دون غيرها من كل بلاد الربيع العربي، وسوف يبقى هذا الرقم فريداً ليس في المنطقة العربية بل وفي كل بقاع العالم. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك