2014/06/28

متى نبرح عالمنا الإفتراضي لندخل عالم الواقع؟

عندما يفقد المرء خاصّية الإدراك... إدراك نفسه في عالمه المحيط به فإنّه يتوه ويفقد بوصلة الإتجاهات، فيختلط عنده الماضي بالحاضر ويتنكّر لكل جديد على أساس أنّه ليس من المعهود.... فمتى يتسرّب العلم إلى أولئك المحشوّة أدمغتهم بأساطير الأوّلين وسير "السلف الصالح"؟.

يوم الأحد الماضي ومن باب التسلية وحب الإستطلاع، قمت بجولة سريعة في شبكة الإنترنت قرّرت خلالها البحث عن اليوم الذي سوف يبتدئ فيه شهر رمضان الكريم. قمت بعمل مشابه في السنة الماضية وبالفعل توصّلت حينها إلى معلومات فلكيّة كانت جدواها كبيرة جداً أعطتني الثقة بأنّ العلم هو من يحارب التخيّل والتكهّن والتمسّح بقدسية الدين في رؤية الهلال من عدمها .
في هذه المرّة، وفي أقلّ من 3 دقائق (ثلاث دقائق) تحصّلت على معلومة أكيدة تقول بأنّ الأحد 28 يونيو 2014 هو اليوم الأوّل من شهر رمضان، فخرجت على الملأ ولم أحتفظ بالمعلومة لنفسي وكانت هناك في مخيلتي نقطتتين، أولاهما: نقل المعلومة لمن يريد أن يستفيد منها، وثانيهما: نقل رسالة لمن ما زال يصر على تغليب العواطف والتفكير العشوائي في حياتنا المعاصرة مستنداً إلى ابجديات الماضي البعيد.


كتبت يوم الأحد الماضي (إسبوع كامل قبل الحدث) مبيّنا، بل وجازماً بأنّ اوّل يوم في رمضان سوف يكون الأحد القادم وليس السبت. رد عليّ بعض القرّاء قائلين: وكيف يحق لك بأن تكون "جازما" وهذه تعتبر من "امور الغيب". فذكرت حينها بأنّ الله أنشأ هذا الكون على أسس العلم والمعرفة، وبأن كل شئ في حياتنا يسيّره العقل والمنطق ويخضع للحسابات.. وكنت أعني ذلك يقيناً.
ألم يولد عيسى بن مريم بدون أب، وألم تستنكر الأقوام حينها على مريم "هذا الفعل الأثيم": {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا }. لم يصدّق القوم حينها بأنّه بوسع إية إمرأة ان تلد بدون أن يعاشرها رجل، ذلك لأنّ مستوى تفكيرهم وقتها لم يمكّنهم من إستيعاب مثل هذه الأمور. مضى على ميلاد عيسى عليه السلام ما يقارب الفين سنة حتى عرف البشر بأنّه من الممكن أن تنجب المرأة بدون معاشرة زوجيّة وبدون حيوانات منويّة. حينما تحسب حساباتك وتكون حساباتك دقيقة فإنّه بإمكانك الوثوق في حدوث الأشياء مستقبلاً وهذا لا يتنافى مع إيمانك بالقدر، فالعاقل هو من يتعامل مع الموجودات ولا يدخل القدر في تعاملاته اليوميّة وإلا لكانت الحياة قد فسدت وربما إنتهت. 
 من هذا المنطلق، ومن هذه الطريقة في التفكير كانت ثقتي في العلم كبيرة، وكان إيماني بأنّ شهر رمضان لا يمكن رؤيته مساء الجمعة، ذلك لأنّ رؤية الهلال بالعين المجرّدة او بإستخدام آخر انواع المناظير ليس ممكناً وفق الحسابات الفلكيّة - وهي حسابات وليست تنبوءات - العلميّة والدقيقة. حينها وبدون تردّد كتبت على الفيسبوك هذه العبارة: "لا تترقّبوا الهلال ولا تشتروا مناظير ولا تتعبوا أنفسكم، فأوّل يوم في رمضان هو الأحد 29 يونيو 2014".


أريد أن أخبر كل من يعنيه الأمر بأنّ جولتي السريعة في ردهات الإنترنت لم تكلّفني ولا درهماً واحداً ولم أحتج  وقتها إلى أية مناظير لاقطة او عدسات مكبّرة أو اية مبتكرات تقنية راقية، ولم أجلس خارج البيت لساعات طويلة وانا أنتظرا الغروب حتى يمكنني رصد الومضات الأولى لبزوغ الهلال الجديد، فعلّني أحظى بأن اكون اوّل من يبصر الهلال الوليد وأحظى بذلك بهالة السبق في إشعار الناس بهلول شهرهم الجديد والذي سوف يحضر معه نبأ بداية شهر الصوم.

لم تكلّفني جولتي القصيرة والمثمرة أية مصاريف ولم تكلّفني تضييع اكثر من ثلاث دقائق خرجت بعدها بمعلومة كان من الممكن أن توفّر علينا مئات الألاف من الدولارات قد نقوم بإنفاقها في مجالات أخرى نحن في أمس الحاجة إليها.

دار الإفتاء تكرّر نفس الخطأ
نظراً لتنكّرها لكل أبجديات العلم الحديث وإنكارها لأهميّة العلم التقني في تسيير حياة البشر، وإصرارها على تكرار الأخطاء وكما وردت إنطلاقاً من تعنّت المنتمين إليها وكل من يناصرهم فقد خرجت علينا دار الإفتاء ببرنامج منقول مباشرة ومن على شاشات التلفزيون يبيّن لنا مجهودات هذه الدار وعملها الحثيث في ترقّب بزوغ هلال الشهر الجديد حتى يصدروا لنا في نهاية تلك الساعات الطويلة من الترقّب والإستنفار بياناً من عندهم يسمح لنا بالصيام او بمواصلة الأكل حتى إشعار آخر.

 مناظير عملاقة تكلّف مئات الألاف من الدولارات إشترتها وزارة الأوقاف لتمكّن رجال الدين من رؤية الهلال والإسراء بالخبر اليقين لجماهيرالشعب المتلهّفة

"رجال دين" يفتون في علوم الفضاء ويتحدّثون عن ندوة "علميّة" تتناول موضوع الرؤية تحقيقاً لقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.

ساعات طويلة من الترقّب والتربّص فعسى الهلال الجديد يطل من بعيد وهو يحمل معه خبر بدء الصيام 

وشيخ دين يشحذ عقله وهو يستذكر كيف كان الناس في عهد الرسول عليه السلام يتفانوا في مراقبة الهلال رغم عدم إمتلاكهم للمناظير العملاقة

 وشيخ دين آخر يعفي اللحية ويحفّف الشارب وهو يبيّن لنا أهمية وجود دار الإفتاء التي عادت لتنوّر الناس بسبب "ثورة التكبير" بعد أن حاربها الطاغية القذّافي

وبعد كل ذلك الجهد والعرق والساعات المضنية من العمل الدؤوب يكتشف لنا رجال الدين بأنّه قد تعذّرت رؤية الهلال لهذا اليوم، وبأنّه تم التواصل مع بقية العالم الإسلامي بهدف العثور على أي بصيص من الأمل في رؤية الهلال في أي من تلك البلاد... بعد كل ذلك العناء والمشقّة يخرج علينا المفتي في ندوة أخرى منقولة على الهواء مباشرة وهو يسر إلينا بالخبر اليقين " يوم غد هو المتمّم للثلاثين من شعبان، ويوم الأحد سوف يكون هو الأوّل من رمضان".

دار الإفتاء وهي تستنفر لإلقاء بيان هام إلى الشعب الليبي

الزعيم الروحي للشعب الليبي وهو يلقي بيان للشعب يقول لهم فيه بأن يوم غد السبت هو المتمّم للثلاثين من شعبان

سماحة المفتي الشيخ الدكتور الصادق الغرياني يؤكّد لأبناء وبنات الشعب بأنّه تحرّى وتبيّن وتأكّد بأنّه لا توجد أية دلائل على رؤية الهلال لهذا اليوم وبأنّ سماحته كان قد تأكّد بأنّه لا توجد أية دولة إسلاميّة قد رأت الهلال لهذه الليلة، وهو ربما لم يعلمه أحد بأن اليمن كانت قد أعلنت بأن الهلال تمت رؤيته في هذا البلد الإسلامي، وبذلك فإن السبت هو أوّل أيّام رمضان في اليمن "السعيد"، أما بقيّة جيرانها بما فيهم السعودية فلم يسعفهم الحظ لرؤية الهلال وبذلك فقد قررت كل إمارات وممالك الخليج العربي ومعهم "الوقف السنّي" في العراق.... قرّروا بأن يوم الأحد هو أوّل أيّام شهر رمضان أعاده الله على الأمّة الإسلامية والعربية وهي منتصرة على أعدائها ومحرّرة للقدس الشريف من ربقة الإحتلال الصهيوني.

رؤية أم حساب ؟
ما زال شيوخ الدين عندنا ومنذ أكثر من ألف سنة(منذ عهد التابعين !) وهم يصرّون على أن الرؤية بالعين مباشرة هي الطريقة الوحيدة للبرهنة على مولد الشهر الجديد وبداية شهر رمضان او شوّال او ذي الحجّة أو محرّم. هم بكل تأكيد يستندون في الأساس على حديث ينسبوه للرسول عليه السلام مفاده: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ عن محمد بن يوسف، قَالَ : حَدَّثَنِي عيسى بن عمر، عَنِ السدّي، عَنْ أبيه، عَنْ أبي هريرة، قَالَ : 
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاثِينَ ". القرآن لم يتحدّث عن الرؤية كما نعرف، فقد قال الله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }، وهنا هنا نلاحظ "شهد" ولا نجد رؤية، وبذلك يكثر شيوخ الدين من الإعتماد على حديث "مرفوع" يسندونه إلى الرسول يتحدّث فيه عن الرؤية، ومع ان رسول الله كان قد تحدّث عن الرؤية لعدم وجود وسائل أخرى في عهده، إلاّ أنّه عليه السلام لم يتعرّض لأية وسائل أخرى من حيث الجوازية أو العدم.
ويفتئ الكثير من الشيوخ "علماء الدين" في شأن رؤية الهلال بالآتي: لا يصح الاعتماد على التقويم في تحديد أول الشهر القمري الاّ إذا حصل الاطمئنان بكون الهلال قابلاً للرؤية بالعين المجردة في بلد المكلف في الوقت المحدد في التقويم.... بمعنى انّهم لا يؤمنون بالحسابات الفلكيّة ولكن يطمئنّون فقط للرؤية المجرّدة. 
كذلك فإنّ الشيوخ "العلماء" يختلفون فيما بينهم بخصوص تطبيق الرؤية: بعض الاختلاف في ذلك يستند إلى إختلاف الفتاوى،
مثلاً بعض الفقهاء يرون كفاية رؤية الهلال في أي مكان آخر يشترك في جزء من الليل مع بلد المكلّف في الحكم بدخول الشهر
في بلد المكلّف أيضاً ، وبعض الفقهاء لا يرون ذلك وأيضاً بعضهم يرى كفاية الرؤية بالتلسكوب ونحوه وبعضهم يشترط الرؤية
بالعين المجرّدة. بعض الاختلاف ينشأ من اعتماد البعض على شهادات برؤية الهلال في مناطق يرى البعض الآخر عدم إمكانية
رؤية الهلال فيها وفق المعلومات الفلكية الدقيقة ولذلك لا يعتمد تلك الشهادات. 
وانا أقول - وهي وجهة نظر وليست فتوى - إلى كل من يتحدّث عن الرؤية ومعانيها ومقاصدها: هل الرؤية في نظركم هي رؤية العين؟. قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}.. ذكرت الرؤية هنا... فهل كانت تعني الرؤية بالعين؟. قال الله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}... هل كانت الرؤية هنا تعني الرؤية بالعين؟. هل يرى الإنسان وهو نائم؟. وحينما اقول: إنّنى أرى مستقبل بلادنا زاهراً.... هل أعني بذلك أنّني أراه بعيني ام أراه بعقلي وتفكيري وخيالاتي؟.
الرؤية تعني رؤية بالعين وبالعقل وبالخيال وبالبصيرة وبالحساب.... أنا أرى بأن الأنسب بالنسبة لنا هو أن نقرأ القرآن ونحاول فهم معانيه العميقة..... هذه تعني بأنّني أحسب بأن الحل المثالي هو انّ كل منّا يجب أن يقرأ القرآن بنفسه ويحاول فهم معانيه بدل الإعتماد على من يكرّر علينا سير "أسلافنا الصالحين".
أمّا بخصوص "الحساب"، فقد ذكر الله الحساب بكل وضوح في الأية: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}، وهنا أنا أرى دعوة صريحة وواضحة لنا كمسلمين بأن نحسب وقت هلول الشهر ومواعيد الصلاة وبأن ننظّم شئوننا وفق الحسابات الرياضيّة والمعارف الفلكيّة حتى نتمكّن بذلك من إستحداث تقويم هجري سابق لآوانه بعشرات السنين نستخدمه لقضاء حوائجنا وتحديد أعياد مواليد أطفالنا والتخطيط لعطلاتنا مستخدمين في ذلك التقويم الهجري بدل الإعتماد على التقويم المسيحي الذي يمتاز في الوقت الحاضر على التقويم الهجري بالدقة والموضوعيّة والواقعيّة.
علينا بأن نستلم شئوننا ممكن يحتكرونها بالنيابة عنّا وهم يعبثون بها ويبرمجوها كما يتراءى لهم مستخدمين في ذلك عباءة الدين لفرض أنفسهم علينا وإجبارنا على القبوع في الزمن الغابر الذي تجاوزته الحياة بكل معاييرها ومفاهيمها. علينا بأن نوكل أمورنا إلى الحسابات العلميّة والعلوم الفلكية الدقيقة التي بوسعها ان تفصح لنا عن كل مناسباتنا الدينيّة في تقويمات معروفة سلفاً ولعدّة سنوات آتية بدل مشروع "اللحظة الأخيرة" الذي يربك كل شئ في حياتنا ويربك كل مشاريعنا فيضطرّنا إلى إعتماد التقويم المسيحي لتنظيم شئون حياتنا والسبب بكل تأكيد يرجع إلى تحكّم أصحاب العمائم في كل شئ في حياتنا وفرضهم لطريقة تفكيرهم علينا.
أقول لمن يهمّه الأمر في بلادنا إنّه بدل إنفاق الملايين في عنتريات لا معنى لها وحرمان اطفالنا منها وهم يعانون من كل نقص في مدارسهم وفي بيوتهم، وبدل العيش في عالم يشوبه الغموض وعدم المعرفة علينا بأن نتسلّح بالعلم لتنظيم شئون حياتنا وننطلق إلى الأمام، لا أن نضيّع أوقاتنا في ترصّد الهلال ونفتح الباب للكذب والدجل والطمع خاصة حينما توضع جوائز لمن يرى الهلال أوّلاً. 
لقد آن لنا الآوان بأن نتسلّح بالعلم والمعرفة بدل التسلّح بالخنجر والمغرفة.

وختاماّ..... 
نصحيتي لدار الإفتاء ولشيوخ الدين ولكل من يؤمن بطريقة تفكيرهم... إن العالم يا سادة كان قد إنتقل إلى الأمام، وإنّ ساعة الزمن كانت قد أعلنت بأن العلم هو الفيصل اليقيني الذي لا يحتمل الشك، وبأنّه كان قد حان الوقت لدار الإفتاء ولرجال الدين التابعين لها وأولئك الذين يفكّرون بتفكيرها بأن يعترفوا بأنّهم ما زالوا يعيشون بمعطيات العصر الحجري... ولكن كل ذلك لا يهمّني في شئ، فالديناصورات كانت قد إنقرضت وتحوّلت اليوم إلى أفلام خيال وذلك هو مآلهم.
إنّ الذي يهمّني هو تلك الأموال الباهضة التي تنفقها دار الإفتاء على شراء مناظير تكلّف الشعب الليبي مئات الآلاف من الدولارات إن لم تكن ملايين بينما مازال أطفالنا يدذهبون إلى مدارس نوافذها مهشّمة ولا توجد بها سبّورات أو أية وسائل تعليم حديثة، والكثير منها لا توجد بها مقاعد فيضطر أطفالنا (جيل المستقبل) إلى إفتراش الأرض من أجل الحصول على أبسط انواع التعلّم التي هي من حقّهم وهم الأحوج إليها.














ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك