ذهبت هذا الصباح إلى NEC "مركز المعارض الوطني" في برمنجهام لحضور مؤتمراً طبيّاً حول مرض "التصلّب المتعدّد" (Multiple Sclerosis) وهناك إلتقيت بعدد من الزملاء الذين أعرفهم لكنّني لم ألتقي بهم منذ فترة من الزمن، فكانت فرصة سانحة لتبادل التحيّات وسرد بعض الذكريات، وكان من بينهم صديق سوداني لم أره منذ فترة. هذا الدكتور يعتبر شخصيّة رائعة من حيث الذكاء والنباهة وسعة الأفق. سبق لي حين إلتقيته في لندن منذ سنتين أن دخلت معه في نقاش طويل حول أوضاعنا كعرب وكمسلمين ووجدت فيه الإنسان الحريص على العروبة والحريص على الإسلام. تحدّثنا عن التخلّف الذي يعاني منه عالمنا العربي وعالمنا الإسلامي وتوصّلت معه إلى قناعة بأنّ أهم مشكلة نعاني منها تكمن في إبتعادنا عن إستخدام عقولنا والإعتماد على عواطفنا في تسيير مجريات أمورنا. تحدّثنا حينها في السياسة وفي الدين وفي العلم وفي الكثير من المواضيع الإجتماعيّة.
حين إلتقيت به هذا الصباح كان أوّل سؤال بادرني به هو: كيف تسير الأمور في ليبيا؟. وأجبته بدون تردّد: أصبحت أخاف على مستقبل ليبيا.
فهم ما قصدت على الفور، وسألني: هل تعاني ليبيا من مشاكل جدّية؟. قلت له، يؤسفني أن ذلك ما نخشاه.
تطرّقنا بدون شك عن تفجير السفارة الفرنسيّة، وقلت له: إنّني بدأت أخشى التطرّف الديني في بلادنا. قال لي: أنا على دراية بأنّ ليبيا بدأت تستحوذ عليها جماعات إسلاميّة متشدّدة وهذا يزعجني أيضاً.
قلت له: نعم... وأنا بدأت أخاف على مستقبل بلادنا بالفعل. واصلت قائلاً: إنّك حينما تذهب إلى ليبيا اليوم فإنّ أوّل ما يشد إنتباهك هو أولئك الرجال بلحيّهم الطويلة وهم يقابلونك في كل مكان حللت به.... لقد أصبح كل الرجال يطلقون شعر ذقونهم بدون تهذيب وبدون ذوق في أغلب الأحيان. كذلك فإنّك اليوم تشاهد كل نساء ليبيا وهنّ متجّبات أو متخمّرات حتى ليخال إليك بأنّك تسير في شوارع السعوديّة أو أفغانستان.
قال لي: لا تخف.... سوف تخمد هذه الفورة الدينيّة بمجرّد أن تفيق الناس من هذا الهوس "بالدين" فما هي إلاّ ردّة فعل لما كان يعاني منه الناس في عهد الطاغية القذّافي. قال مضيفاً: في السودان في أواخر الثمانينات حين إستولى البشير (الإخواني) على الحكم وبدأ في تسويق ثورته على أنّها ثورة دينيّة فصدّقه كل أهل السودان، وبالفعل أصبح في السودان كل رجل يترك ذقنه بدون حلاقة وتحوّلت كل نساء السودان إلى متحجّبات أو متخمّرات . بلغ الأمر بالناس لأن أصبح الكثير منهم مهووس بالدين وشرع عدد من الرجال (عادة من الشباب) في القيام بشراء بيوت أو أراض بقرب المساجد لكي يتمكّنوا من أداء الصلوات في أوقاتها بل إنّهم أصبحوا يصلّون كل النوافل على مدار الساعة حتى ظننت بأنّ الدين يعني صلاة وركوع وسجود وعبادة وفقط. قال لي بأن الكثير من السودانيين بدأ يتأخّر في الذهاب للعمل وفي أحيان كثيرة بدأوا يتغيّبون عن أعمالهم كليّة كي يقضوا أطول الأوقات بالمساجد للصلاة والتسبيح والدعاء وقراءة القرآن.
قال مضيفاً... بدأت الأعمال تتأخّر وبدأ إقتصاد السودان في الإنهيار تدريجيّاً بسبب تقاعس الناس وتغيّبهم عن أعمالهم حتى بدأت ديون السودان تتفاقم في التسعينات وبدايات الألفيّة الثانية، وبدأ حينها شبح الإنفصال بين شمال السودان وجنوبه يظهر في العلن بسبب تحسّس الجنوب المسيحي من التشدّد الإسلامي في الشمال. قال مضيفاً: حين بدأ الإقتصاد في الإنهيار شعر الناس بذلك وأخذوا يستفيقون لأنفسهم. حلق معظم الرجال ذقونهم، وخلعت الكثير من النساء "العبايا" وبدأ السفور يعود لشوارع وأسواق السودان من جديد. بدأ حماس الناس للتديّن المبالغ فيه (المتشدّد) يضعف مع الوقت خاصّة بعد الكثير من الإخفاقات التي عانت منها حكومة البشير وبعد إزدياد تفرّده بالسلطة وشعور الناس بديكتاتوريّته المفرطة وشغفه بالسلطة .
قال مواصلاً: إنّ ليبيا قد تشهد فترة من الزمن يسيطر فيها رجال الدين على مجريات الحياة في البلاد وبمباركة الكثير من الليبيّين والليبيّات، لكنّهم ما إن يكتشفوا ضحالة تفكير أصحاب الذقون الطويلة وخداعهم حتى يفيقوا من هوسهم ويعودوا إلى طبيعة حياتهم كما كانوا يعبدون ربّهم بدون مغالاة ويرجعون إلى عقولهم فيغلّبوها على عواطفهم، وبعدها سوف ينزوي رجال الدين بعيداً عن الأنظار تاركين الحكم والسياسة وتسيير شئون البلاد لمن يقدر عليها.... وحينها سوف تتمكّن ليبيا من المضي قدماً وبتسارع كبير مستفيدة من أموال النفط والمستويات التعليميّة الجيّدة لرجال ونساء ليبيا.... كذلك فإنّ إنطباع السودانيين عن الليبيّين بأنّهم أذكياء ويمتازون بالنباهو وسرعة البديهة... كل ذلك سوف يساعد ليبيا تقدّم الصفوف في دول شمال أفريقيا.
قلت له: يا ليت ما تقوله يكون صحيحاً، ويا ليت يحكم ليبيا من يقدر على إدارة شئون الحكم فيها بعيداً عن تسلّط أصحاب اللّحي الطويلة والسراويل المشمّرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك