2013/03/11

الدين.... أكسير حياة أم أكسيدها ؟

حضرت خلال الأيّام الثلاثة الماضية مؤتمراً طبيّاً في ميلانو بإيطاليا بعنوان GLOBAL NEURO SUMMIT 2013 وقد كان المؤتمر قمّة في التنظيم والإدارة، وترك في نفسي إنطباعاً حميداً حين رأيت الناس تتسابق من أجل كشف المجهول والتعرّف على مسبّبات العلل والبحث عن علاجٍ شافٍ لها من خلال البحث والتدبّر والتصوّر ورسم الفرضيّات العقلانيّة ثم البرهنة على صحة الفرضيّة من عدمه.
حضر هذا المؤتمر حوال 500 شخص بين مستمع ومتحدّث وباحث وآكاديمي ومعالج وأستاذ جامعي. كان عدد الحضور من النساء يفوق 300 إمرأة (60%) وكان بينهنّ العالمة والباحثة والأستاذة الجامعيّة والمرأة الآكاديميّة، وكانت مشاركتهنّ كبيرة من بين فئة المحاضرين.

بعض الحضور في إحدى القاعات 
المؤتمر بطبيعة الحال كان عالميّاً، لكن الحاضرين والحاضرات مثّلوا 16 دولة في أسيا وأروبّا وأمريكا الشماليّة، بينما تغيّبت أفريقيا وأمريكا الجنوبيّة ربّما بسبب غياب التعمّق في هذا المجال الذي يعتبر حديثاّ نسبيّاً.


ذهبت أنا عن كوفنتري، وإلتقيت بزميل ليبي هو الدكتور أحمد جلّول عن ليفربول، ولكن حضرت بريطانيا بممثّلين عن أغلب مدنها ومراكزها الآكاديميّة فكان الحضور البريطاني جيّد لكنّه بطبيعة الحال لم يرتقي إلى مستوى الحضور الإيطالي والأمريكي الشمالي والإسكندينافي.
كان من بين المحاضرين الكبار البروفيسّور "جمال بن إسماعيل" وهو جزائري الأصل لكنّه كان ممثّلاّ عن فرنسا، وكان هناك عدد كبير من المسلمين ممثّلين عن العديد من البلدان الأوروبيّة، ولكن ليس عن بلادهم التي تركوها منذ عديد من السنين.
كنت في نهاية إحدى فترات الإستراحة ( وهي كثيرة) واقفاً بقرب مدخل القاعة أتأمّل الداخلين بعين متفحّصة وربّما مستدركة بشئ من التدبّر، فقد كانت أصداء ما حدث في ليبيا يوم الخميس الماضي من هجوم غوغائي على "قناة العاصمة" من قبل بعض الجماعات الإسلاميّة المتشدّدة... كانت أصداء ما حدث في ذلك اليوم من محاولات جادّة لتدويرعقارب الساعة إلى الوراء لازالت تتصارع في ذهني ولم أتمكّن ليس من هضمها فقط، بل ومن فهم جذريّة التفكير عند أولئك المتشدّدين في الدين الذين يجدّون وبما أوتوا من أجل إيقاف عجلة الحياة عن الدوران.
نحن نعرف بأنّ الكثير من السلفيّين هم ضد جميع مظاهر التقدّم الإنساني، وهم ضد النهج الديموقراطي، وضد الإنفتاح على العالم.... لكنّني رغم إحتسابي لكل تلك العوامل وغيرها فلم أستطع تفسير ما حدث يوم الخميس الماضي.
وعودة إلى المؤتمر الطبّي في ميلانو... كنت واقفاً بقرب مدخل إحدى القاعات وأنا أتأمّل الداخلين، فإذا بي أنظر إلى الجميع وهم يتناقشون ويتحاورون ويمزحون ويتسامرون بعقول مفتوحة وقلوب مملؤة بالحب والإنسانيّة... فقلت في نفسي: سبحان الله.. هؤلاء البشر أتوا من بلاد مختلفة وينتمون إلى ثقافات مختلفة ويؤمنون بديانات مختلفة لكنّهم جميعاً إلتقوا حول هدف إنساني نبيل ليس له علاقة بتلك الإختلافات التكوينيّة أو الخلفيّات الثقافية أوالعرقيّة.
كان الناس قريبين من بعض بشكل ملفت للإنتباه... كانوا سعداء، وكانوا رحماء، وكانوا أحبّاء... حينها تذكّرت قول الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}، وقلت في نفسي: نعم... نحن نتفرّق ونتخاصم ونتحوّل إلى أعداء بسبب الدين أو الإعتقاد، فهل الدين هو سبب تفرّقنا؟. أجبت نفسي مستنهضاً: لا... الله لم يرسل رسله بدين من عنده من أجل تفريق الناس، وإنّما بهدف تصغيير الهوّة بينهم، بهدف نشر القيم الإنسانيّة وتعميق ثقافتها بين الناس، بهدف تذكية عنصر الرحمة والمواساة بين مخلوقاته جميعاً والبشر على وجه الخصوص. وسرعان ما خرجت آحاسيسي الداخلية بسؤال مواجهة أكثر منه مداركة: لماذا إذاً يختصم هؤلاء الذين نسمّيهم أهل الكتاب، ولماذا يختصم من هم يؤمنون بنفس المعتقد؟. إستدركت قليلاً وتذكّرت تلك الآية: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فقلت: هم الناس من سعى إلى التفرقة... بغياً بينهم، وعادت بي الذاكرة سريعاً إلى أحداث الخميس الماضي ومثيلاتها الكثيرة التي سبقتها حين برهن الإنسان على أنّه بإسم الدين "يبغي" وبإسم الدين "يخلق الفتنة" وبإسم الدين ينشر "الكره والبغضاء" بين البشر.
وبينما أنا كنت واقفاً هناك (نحن هنا نتحّث عن بضعة دقائق وليس ساعات !) شدّ إنتباهي ذلك العدد الكبير من العالمات والآكاديميّات والممتهنات من النساء بمختلف الأعمار والأشكال والسنح، لكنّ الذي إجتمعن عليه هو "التحضّر" و"التأدّب" و "الإناقة". أقولها بصدق (وبلا مبالغة إطلاقاً) بأنّني لم أرى متحجّبة ولا متنقّبة ولا مخمّرة ولا من ترتدي الجلابيب الطويلة. كان كل ما وقعت عليه عيناي يرتدي آخر صيحات الموضة ولكن بالكثير من التأدّب وبالقليل من التبرّج. كان هم كل واحدة هو أن تبرهن على مقدرتها المهنيّة والأكاديميّة بما يسرّ الآخرين وليس بما يغريهم أو يغويهم، فمثل تلك الأشياء لم تكن في حسابات من أتين إلى هذا المكان إلاّ أن يكون ذلك خارج فعاليّات هذ الملتقى فتلك لا علم لي بها ولا رغبة لي في أن أخمّنها أو أظنّها ربّما من باب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، ولم تكن لديّ رغبة حينها في أن أضيف إلى ميزان آثامي !.
سألت نفسي وقتها مستدركاً من جديد: ماذا لو أنّ مثل هذا المؤتمر كان قد إنعقد في ليبيا، وماذا لو أنّ أولئك السلفيّون هم من يسيّر أجهزة الدولة في ليبيا كما يحلمون - بل ويستميتون من أجل تحقيق غايتهم تلك – بتأسيس "دولة الخلافة" أو "الدولة الإسلاميّة" أو ربّما مجرّد تحقيق مبدأ أن القرآن هو مصدر الشريع الوحيد الغير قابل للتصويت؟.
توسّع خيالي قليلاً حينما تصوّرت بأن الواقف مكاني هو أحد أولئك أصحاب اللحي الشاعثة والسروايل المشمّرة وهو يحمل سبحة في يده بينما ينظر إلى الداخلين متفحّصاً إيّاهم فدراً فرداً. قلت في نفسي: إنّ أوّل قرار يتّخذه سوف يكون نهر كل تلك النسوة وأمرهنّ بأن "يسترن أجسادهنّ"، وبألاّ يتبرجن تبرّج الجاهلية الأولى، وبألاّ يبدين زينتهن إلاّ لبعولتهنّ، وبألاّ يأتين إلى هذا المكان بدون محرم وبقيّة الحكاية.... وخلصت إلى نتيجة مفادها: لو أن ذلك السلفي الذي كان واقفاً في مكاني تسمّر في موضعه وقال لكلّ النسوة: إذهبن إلى بيوتكنّ وعليكنّ الإختيار بين "النقاب" أو عدم الحضور إلى هنا، وعليكنّ أيضاً حتى بعد لبس النقاب أن تصحبن معكنّ "محرماً"... أمّا كيف سوف يتعامل الفندق مع ذلك العدد الزائد والغير محسوب من الضيوف المرافقين "المحرمين" فهو ليس قضيّة ذلك السلفي الذي نادراً ما يحسب ما قد يترتّب على مثل ذلك القرار. أمّا قضيّة أن الكثيرات من أولئك النسوة هنّ من العالمات والباحثات وهنّ من جاء ليعلّم الآخرين... فتلك هي بدورها لا تهم "السلفي" الذي ربّما يرد على مثل هذه الإستفسارات – إن هو تواضع ورد عليها قبل الشروع في تكفير الآخرين – يا "عن أبو"من تعلّم أو إستفاد، فتطبيق شرع الله هو الذي يهمّنا أوّلً وآخراً أمّا "مغريات" هذه الدنيا "الفانية" فهي لا تهمّنا في شئ.
وأنا سابح في خيالي ذلك، لا حظت المحاضرة الأمريكيّة القديرة البروفيسورة "سينثيا كوميللا" وهي تشرع في إلقاء محاضرتها فخلعت أحلامي وتصوّراتي وأسرعت لأنتحي لي مكاناً في داخل القاعة فعساني أن أتعلّم فكرة جديدة من هذه السيّدة والتي قد تفيدني في البرهنة على أن المرأة "ليست هي بناقصة علم ولا هي بناقصة دين".
في هذا المكان دعينا ككل لمأدبة عشاء ضخمة، وعلمنا بعدها بأنّ هذا المكان يعتبر من أشهر معالم ميلانو
حيث تم بداخله تصوير الحلقة الأولى في سلسلة أفلام "ستار وورس" الشهيرة في عام 1977.

وهذه كانت واحدة من غرف النوم التي قدّمت لكل من المشاركين في هذا الملتقى العلمي الكبير
تميّز هذا المؤتمر بخاصيّة نادراً ما تتوفّر في المؤتمرات العلميّة التي كثيراً ما تكون مكثّفة ومملوءة بالمواد العلميّة فلا تسمح للمشاركين فيها بأي وقت للإستمتاع أو الترفيه... هذا الملتقى تميّز بتوفير الوقت للجوانب الترويحيّة فكانت فقراته متباعده عن بعض لمن يريد أن يصلّي أو يتعبّد أو يطالع أحداث الساعة، وتمكنّا في حقيقة الأمر من الإستفادة من اليوم الثالث للتفسّح في وسط ميلانو، حيث وفّرت لنا الجهة المنظّمة لهذا المؤتمر الطبّي كل وسائل الراحة والتنقّل والتفسّح بما فيها ما لذ وطاب من الأكل والمرطبّات المتنوّعة.
أثناء تجوالي في وسط ميلانو لاحظت الكثير مما يمكن الكتابة عنه. كانت المدينة شبه مفرّغة من زوّارها لدرجة أنّه يخالك شعوراً وأنت تتجوّل في ميادينها عند منتصف النهار بأنّ المدينة ربّما تذهب كلّها للتعبّد في الكنيسة بإعتبارأن اليوم هو يوم أحد وبإعتبار أن الإيطاليّين جلّهم من الكاثوليك، والكاثوليك كما نعرف هم من أكثر المسيحيّين إلتزاماً بمعتقدهم وهم بطبيعة الحال من أقرب المسيحيّين للإسلام.
هكذا كانت ميلانو صباح الأحد

 
وهكذا بدأ الناس يتوافدون على المكان عند الواحده ظهراً

وهكذا أصبحت عن الرابعة مساء من نفس اليوم
المهم وسط وشوارع المدينة ظلّ مفرّغاً من زبائنه إلاّ بعض الأفراد من صغار السن الذين كانوا يجلسون في بعض المقاهي. ما إن بلغت الثالثة بعد الظهر حتّى بدأت جموع الناس تتوافد على وسط المدينة، وبدأت المحلاّت تفتح أبوابها، وبالفعل غصّت شوارع وميادين ميلانو بعد ذلك بالزوّار من كل حدب وصوب ومن كل فترة عمريّة.
كنّا جالسين في أحد المطاعم المطلّة على منطقة تجاريّة مخصّصة للمشاة فقط، ومن خلال زجاج المطعم كنت أتفحّص المارّة من حين إلى آخر فإنتابني شعوراً بأن ميلانو ربّما تعتبر مدينة شبابيّة لندرة عدد المسنّنين من بين المارّة والمتجوّلين. نقلت هذه الملاحظة لمرافقيّ فإبتسم الجميع لهذه الملاحظة وعلّق أحدهم قائلاً: يبدو أن كبار السن مازالوا في الكنائس أو أنّهم ربما يمضون كل يومهم أيّام الأحاد في الكنائس.
في حدود الخامسة والنصف مساء شاهدت ميلانو ربّما كما هي على طبيعتها... أي مليئة حتى الإزدحام الشديد بالمارّة والمتبضّعين، والمحلاّت كلّها مفتوحة، والباعة بداخلها لا يعطونك فرصة للتفرّج على البضاعة بل إنّهم يأتونك بكل أدب وبإبتسامات عريضة تدفعك إلى شراء شيئاً ما حتى وإن كنت لا تحتاجه أو تعرف مسبّقاً بأنّه بوسعك شراءه بسعر أرخص من السوق الحرّة وأنت في طريقك للعودة إلى كوفنتري، أو أنّك ربّما تجده أرخص بكثير في كوفنتري نفسها !.
الإنطباع الآخر الذي تركته ميلانو في ذاكرتي هو أن جميع المتجوّلين فيها والمارّة والمتبضّعين يبدون سعداء ومستبشرين وبصراحة كل ملابسهم أنيقة ومتناسقة وتعكس آخر صيحات الموضة في السوق. بل إن أغلب الشباب والفتيات يرتدون بضاعة من البوتيك والمحلاّت الراقية مما يعطيك إنطباعاً بأن الناس هنا يعيشون في بحبوحة ماليّة.
نعم... ذلك الإنطباع أدخلني في حيرة من أمري. فمن ناحية نحن نسمع في الأخبار بأن إيطاليا تعاني من ضائقة ماليّة خانقة، وبأنّها على وشك إنهيار إقتصادي أسوة باليونان وربّما حتى قبل إسبانيا أوالبرتغال، لكن الإنطباع الذي تركته ميلانو في مخيلتي كان مغايراً لكل ما يقال عن إيطاليا في الصحافة ووسائل الإعلام.
هناك بكل تأكيد وجه معتم يختفي في الخلفيّة وراء كل تلك الوجوه الباسمة. تلك العتمة جاءت من مصدرين: أوّلهما كان عن عدد المتسوّلين في شوارع ميلانو والذين يتجاوزون أصابع اليد، وثانيهما بعض الفوضويّة في تصرفات الكثير من الإيطاليّين والتي تنعكس في طريقة قيادتهم لسيّاراتهم والسرعة الجنونيّة في وسط الآماكن المزدحمة، وتلك بالطبع ذكّرتني بإسلوبنا في القيادة في ليبيا والذي يتشابه إلى حد كبير بما رأيته في ميلانو هذا اليوم وفي زيارتي السابقة لها منذ حوالي 18 شهراً، وكذلك في روما التي رأيتها وتجوّلت في شوارعها في زيارة سابقة لها، ولكن بالطبع نحن الليبيّون حين نقلّد الآخرين في الجوانب الفوضويّة دائماً ننتصر عليهم وبإمتياز. قلت في نفسي حينها... حين تستعمر دولة قويّة دولة أخرى ضعيفة فإنّها تزرع ثقافتها بين أهلها، وإذا كان الفرنسيّون قد علّموا التوانسة والجزائريّين الحرف اليدوية الكثيرة، والإنجليز علّموا المصريّين الإتيكيت وحب المسرح والإهتمام بالقراء، فإن الإيطاليّين علّمونا كل "الأفاريّات" وعلّمونا الفوضى في قيادة السيّارات وكذلك علّمونا كيف نتخاصم بسهولة وأحياناً على أتفه الأسباب. كل ذلك لاحظت الكثير منه في ثلاثة أيّام في ميلانو ولكن بالطبع ذلك لا يتعدّى قطرة في بحر حين نقارن ما يفعله الناس في "بلدنا الحبيبة". الفوضى وعدم الإكتراث في ميلانو تعدّت وسط المدينة إلى مطارها حيث الطوابير الطويلة والمملّة في فصل غير سياحي وكدنا بسببها أن نتخلّف عن رحلة العودة إلى مطار برمنجهام لولا حذق المسئول عن رحلتنا والذي تمكّن من الحصول على "معاملة خاصّة" لنا كمجموعة مكّنتنا من تجاوز كل تلك الطوابير لنصل إلى طائرتنا في الوقت المناسب. بالطبع صاحبنا هذا لم يفصح لنا عن الوسيلة التي إستخدمها مع الإيطاليّين لمنحنا ذلك "ال في أي بي" لكنّ أغلبنا خمّن حدوث "رشوة" !.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك