2011/12/11

إنّهم يحرقون أوراقهم

( الشاطر هو من يتمكّن من بلوغ قمّة مجده فيترك المجال لغيره ليتحوّل هو إلى بطل في عيون الناس، أما الغبي فهو حين يبلغ قمة مجده فإنّه يتشبّث بها إلى أن يموت أو يقتلها معه فيفقد كل شئ )

يذكر لنا التاريخ الكثير من الأمثلة لأناس إجتهدوا فأصابوا، وتمكّنوا من تحقيق النجاح حتى بلغوا قمة مجدهم وعندها قرّروا الإبتعاد عن المنافسة ليتركوا المجال لغيرهم فينال كل قادر نصيبه من النجاح. هذا النوع من البشر مع أنّهم يفقدون بريق المجد إلاّ أنّهم يبقون "إيقونات" مضيئة في ذاكرة الناس عبر الأجيال فيتحوّلون إلى أبطال بدون السعي لذلك.

المثال الحاضر للأذهان هو ربما الفريق "سوار الذهب" من السودان الذي إستطاع أن ينقذ السودان من براثن الفساد والتسلّط لكنّه حين وصل إلى سدة الحكم قرّر تركها لغيره فظلّ بذلك الموقف الغير مسبوق بطلاّ في عيون وأذهان السودانيين.

في المقابل نجد العقيد معمر القذّافي وهويستولي على السلطة بإنقلاب بسيط على نظام ملكي واهن، وفي ظروف كانت بالفعل تعيسة في ليبيا؛ حيث كان يحكم البلاد ملكاً أقلّ ما يقال عنه بأنّه كان بلا شخصيّة، وبلا إرادة.

كانت ليبيا في عهده تحكم بعقول غير عقله، وبجهات علاقتها الوحيده به هي المحافظة على نظام حكمه ( حمايته) بالنيابة عنه. كانت عائلة "الشلحي" تسيّر شؤون البلاد الداخليّة، وكانت بريطانيا وأمريكا تسيّرشؤون ليبيا الخارجيّة، وكانت البلاد ملآنة بالقواعد الأجنبيّة، وكانت الأوضاع في داخل البلد مزرية بكل معنى الكلمة مما سهّل مهمّة الملازم أوّل في الجيش الملكي ليقوم بإنقلاب سريع يمكّنه في خلال ساعات من السيطرة على كل البلاد وتغيير نظام حكمها بعد أن عطّل الدستورفيها، وألغي نظامها الملكي عن بكرة أبيه.

لا أحد ينكر إجماع الليبيّين على الترحيب بنظام حكم العقيد معمر القذّافي، وخروجهم للشوارع مهلّلين له آملين في أن يكون التغيير تخليصاً لهم من نظام حكم ملكي مترهّل. ظل العقيد القذّافي يتمتّع بشعبية حقيقية تتجاوز ال90% من عموم عموم البلاد حتى بدايات 1975 حيث بدأ بعض الليبيّين يشكّك في نوايا العقيد القذّافي. تلك كانت ربما الفرصة الذهبيّة للعقيد القذّافي بأن يعلن فيها تحوّل ليبيا من الثورة إلى الدولة، وإعلان البدء في إنتخابات ديموقراطيّة في ليبيا لا يكون هو طرفاً فيها. لو أن العقيد القذّافي فعل ذلك في الفترة ما بين 1975 و 1976 لأصبح حينها بطلاً في أعين وعقول كل الليبيّين، ولكان إسمه قد دخل كتب التاريخ من أوسع أبوابها.

العقيد القذّافي لم يكن بتلك النباهة كي يفكّر في مثل ذلك، بل إن غباءه السياسي وضحالة تفكيره دفعتاه لأن يحسّ بأنّه كان بطلاً، وبأنّه كان رمزاً، وبأنّه كان فريدا من نوعه. تلك كانت عقليّة العقيد السطحيّة، وتلك كانت ثقافته ومفاهيمه التي أدّت به إلى ذلك المآل الذي إستحقّه. إنتهى العقيد القذّافي بتلك النهاية المحزنة، وتشرّد من تبقّى من عائلته، وإنتهى ذلك المجد الذي بناه الطاغية القذّافي من الأوهام والخيالات.

أنا هنا لا أدعو إلى البكاء على أحداث الماضي، ولا إلى محاولة إعادة التاريخ؛ فالتاريخ لايعيد نفسه، وساعة الزمن تسير في إتّجاه واحد... ولذلك فأنا أفكّر بمعطيات الحاضر، وأنظر إلى الغد من خلال خبرة الماضي، وعقليّة اليوم.
الناس تدرس التاريخ ليس بهدف البكاء على أطلاله، وإنّما بغرض التعلّم منه حتى لانكرّر الأخطاء.

هناك ثلاثة أمثلة أودّ التوقّف عندها لمناقشتها بهدف محاولة تصحيح المسار من أجل الإنطلاق إلى الأمام:


أولاً: ثوّار 17 فبراير


لا أحد ينكر تلك التضحيات الكبيرة التي قدّمها شباب ليبيا من أجل الحريّة، ولا أحد يجرؤ على التقليل من مكانة هؤلاء الثوّار في قلوب الليبيين، وإحترام الشعب الليبي بكل أطيافه لتضحيات أبنائه وبناته.

هناك حقيقة يجب عدم إغفالها لمن يهمّه الأمر وهي أن ثورة 17 فبراير لم تأتي من فراغ، ولم تكن وليدة الصدفة؛ وإنّما كانت نتيجة منطقيّة لمسلسل الصراع مع نظام الطاغية القذّافي طيلة ربما الأربعة عقود من الزمن التي حكم فيها ليبيا.

قد أستطيع القول بأن أول حركة شعبيّة مناهضة لنظام الطاغية القذّافي في العلن كانت تلك المسيرة الطلاّبيّة في مدينة بنغازي في 29 ديسمبرعام 1975. هذه المسيرة إنطلقت من بيت طلبة الجامعة في شارع جمال عبد الناصر متجهة إلى ميدان الشجرة (الجامعة) ثم إلى ميدان سوق الجريد، وفي أثناء مرورها بالشوارع إنظمت إليها جموعا كبيرة من المواطنين ممّا حوّل تلك المسيرة إلى غضب شعبي علني لنظام الطاغية القذّافي فما كان من النظام حينها إلاّ أن يرسل أجهزة أمنه لقمع تلك المسيرة السلميّة حيث حوصر المتظاهرين في ميدان سوق الظلام من قبل أجهزة الأمن بينما كان قادة المسيرة من طلبة الجامعة يلقون كلمات المسيرة والتي طالبت بإطلاق سراح زملائهم الذين إعتقلهم النظام في الأيام السابقة لهذه المسيرة نتيجة لإصرار الطلبة على تكوين إتّحاد مستقل منتخب لطلبة جامعة بنغازي.

بعد ذلك كما نعرف تواصل الغضب الشعبي في مدن ليبيا مما أدّى إلى إندلاع أحداث 6 أبريل 1976، وما لحق ذلك من سجون وإعدامات، وطرد، وتشريد لليبيين المناهضين لنظام الديكتاتور القذّافي.

تشكّلت بعد ذلك جبهات النضال ضد نظام الطاغية القذافي خارج الوطن لإستحالة تشكيلها في داخل ليبيا فكانت الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وكانت تنظيمات المعارضة الأخرى، بالإضافة إلى منظمات حقوق الإنسان الليبيّة، وغيرها من المناشط النضاليّة بما فيها ملتقى المؤتمر الوطني للمعارضة الليبية الأول والثاني الذي تناقلته وسائل الإعلام المختلفة.

كان هناك أيضا نضال الليبيين من خلال وسائل الإعلام المتاحة مثل مداخلة الأستاذ فرج بولعشّة على قناة الجزيرة التي أحدثت ربكة كبرى في أجهزة النظام وقتها.

هناك أيضا المحاولات الإنقلابيّة التي قام بها ضبّاط من الجيش الليبي، وغيرها من المحاولات المتكرّرة التي كانت تستهدف إسقاط نظام حكم الطاغية القذّافي.

إذاً.. من هذا نستطيع القول بأن ثوّار 17 فبراير رغم أهميّة إنتفاضتهم الكبرى تلك، إلاّ أنّ ثورتهم كانت تعتبر تتويجا لنضالات سابقة؛ ومن هنا يجب علينا كليبيين أن ننصف الجميع، ويجب على ثوّار 17 فبراير إعتبار تضحياتهم جزءً من تضحيات الشعب الليبي ككل من أجل ليبيا كبلد، ومن أجل حرية هذا الشعب.

بعد إنتهاء القتال، وإعلان تحرير ليبيا من نظام الطاغية القذّافي يوم 23 أكتوبر 2011 كان ذلك ربما هو التاريخ الحقيقي لبلوغ القمة بالنسبة لثوّار 17 فبراير، وكان يجب أن يكون ذلك التاريخ موعداً لثوّار ليبيا بأن يقوموا بالعمل على تشكيل نواة الجيش الوطني الليبي الذي ينخرط فيه كل راغب من الثوّار في جميع أنحاء ليبيا على أن يقوم الآخرون الذين يفضّلون العودة للحياة المدنيّة بتسليم سلاحهم والإتّجاه نحو أعمالهم فيقوم الجيش الوطني بمهمة الحفاظ على أمن البلاد الداخلي والخارجي.

في الواقع لم يحدث من ذلك شيئاً، وواصل ثوّار 17 فبراير الإحتفاظ بسلاحهم، وبتشكيلاتهم القتالية كما كان عليه الحال قبل التحرير، وسرعان ما تحوّلت تلك الكتائب المناضلة من أجل الحريّة إلى ميليشيات مسلّحة تثير المشاكل بين الناس الآمنين، بل وتحوّل الكثير منهم إلى مشاغبين وسرّاق يسطون على أملاك الغير فيغتصبونها من أهلها.

إستمرّت المظاهر المسلّحة في كل مدن ليبيا، وبدأ الناس يخافون من هذه الميليشيات خاصة بعد تلك الأحداث المتكررة التي راح ضحيتها الكثير من الناس الأبرياء منهم الكثير من الأطفال.

حاولت القوى الخيّرة في الوطن بما في ذلك المجلس الإنتقالي، والمجلس التنفيذي، ثم الحكومة المؤقّتة، وكذلك الخيّرين من أبناء البلد من أمثال الشيخ "الصادق الغرياني" وغيره من رجال الخير في بلادنا ولكن بدون جدوى.

أصرّ الثوار على الإحتفاظ بسلاحهم وبتشكيلاتهم العسكرية غير عابئين بتوسّلات الليبيين حتى بدأ الناس يكرهون رؤية هؤلاء الثوّار وهم يتجوّلون بسلاحهم وخاصّة في المدن الكبرى مثل طرابلس.

بالطبع كل الليبيين يعرفون جيّدا تلك المنازلات العسكرية بين ميليشيات الثوار المسلّحة وبعضها البعض مثل ما حدث في الزاوية مع ورشفّانة، وما حدث في وسط طرابلس، وفي بني وليد، وأخيراّ في مطار طرابلس الدولي بين قوات اللواء حفتر، وثوار الزنتان الذين كانوا يحرسون المطار.

الخلاصة.. إنني أرى ثوّار 17 فبراير وهم يحرقون أوراقهم في كل يوم، ويخلقون لأنفسهم أعداء وكارهين من أبناء وبنات الشعب الليبي نتيجة لإصرارهم الغير منطقي والغير مقنع على الإحتفاظ بسلاحهم وبتشكيلاتهم العسكرية رغم وجود حكومة متكاملة لإدارة شئون البلاد بما فيها وزارة للدفاع ووزارة للداخليّة.


ثانياً: آمازيغ ليبيا


عاش الليبيون (عرباً وأمازيغاً) إخوة متحابّين في ليبيا منذ أن دخل الإسلام ليبيا عام 642م، وظلّت العلاقة بين الفئتين متجانسة رغم التفوّق العددي للعرب على الأمازيغ لكن ذلك لم يغري الأكثرية بالسيطرة على أو إستغلال الأقلية وتلك كانت حسنة من حسنات الشعب الليبي التي تميّز بها عن غيره من الشعوب المحيطة.

ظل العرب والأمازيغ إخوة متحابّين إبّان الإحتلالات المختلفة التي عانت منها بلادنا بدءا بفرسان مالطة، ومرورا بالإحتلال العثماني الأول والثاني، وخلال الإحتلال الإيطالي أيضاً. كذلك إستمرت علاقات العرب والأمازيغ على أخويّتها خلال الحكم الملكي، ثم خلال حكم الطاغية القذافي رغم محاولات الأخير إحداث الفتنة بين العرقين من خلال حرمان الإخوة الأمازيغ من إستخدام لغتهم، ومن تسمية أطفالهم بأسماء آمازيغية؛ لكن الليبيّون إستمرّوا مئتزرين ببعض، ومتحابّين، ومتعاطفين أيضا.

حين إنتفض الشعب الليبي ضد نظام الطاغية القذافي كان المنتفضون من العرب والأمازيغ وبنفس الحماس، وبنفس الرغبة في التضحية من أجل الحرية. قاتل العرب والأمازيغ في الجبل الغربي ( جبل نفوسة) جنبا إلى جنب دون أن تحدث بينهم أية خصومات أو إختلافات فكان لذلك التجانس والتعاون أثره الفعّال على أرض الصراع بحيث كانت مناطق الجبل الغربي من أوّل المناطق التي أعلنت تحرّرها من سلطة القذّافي.

بعد التحرير إستمرت العلاقة بين العرب والأمازيغ على قوّتها، وكانت الأصوات تنطلق من الجانبين تدعو للحفاظ على الوحدة الوطنية، وتؤكّد على التلاحم الأخوي بين العرب والأمازيغ.
كانت هذه الدعوات أمراً طبيعيّاً، وعفويّاً، ومنطقيّاً حيث يرتبط العرب والأمازيغ بالإضافة إلى الإنتماء لوطن واحد.. إرتبطوا بعلاقات مصاهرة، وعلاقات جيرة في السكن، وفي المدرسة، وفي آماكن العمل.
قررت قناة "ليبيا الأحرار" تخصيص ساعات من البث المرئي باللغة الأمازيغية، وكان يشرف على برامجها العربية الكثير من الإخوة الأمازيغ.. وهذا طبيعي جدا في بلد مثل ليبيا.

ذلك التجانس بين العرقين لم يعجب البعض من الآمازيغ الذين كانوا ربما يخطّطون للإنفصال بحيث كانت المسيرة الكبرى في مدينة طرابلس لأمازيغ ليبيا والتي شاركهم فيها الكثير من العرب المتعاطفين مع قضيّتهم. رفع الأمازيغ علماّ ينتمي إلى أمازيغ الجزائر والمغرب على حساب علم ليبيا الوطني .... راجع:  أمازيغ ليبيا يتظاهرون
وكان لذلك بالتأكيد الأثر السلبي في نفوس العرب من الليبيين وهم يمثّلون أكثر من 93% من مجموع عدد السكّان؛ خاصة حين تحدّث بعض الأمازيغ عن فرض اللغة الأمازيغية على كل الليبيين كلغة قومية، وكذلك فرضها كمادة في الدستور الليبي. أثارت مثل هذه  الدعوات حفيظة الكثير من العرب فلا يعقل أن يتعلّم 97% من السكان لغة غريبة عنهم من ناحية، وهي بكل المعايير والمقاييس تعتبر "لغة ميّتة" قياساً بقائمة اللغات الحيّة المعاصرة في العالم الذي نعيش فيه.

خلقت مثل هذه الدعوات - فرض الهوية الأمازيغية على كل الليبيين - هوّة بين أبناء الشعب الواحد، وقللت بكل تأكيد من عدد أولئك المتعاطفين من الليبيين مع الحق الأمازيغي.

يبدو من شبه المؤكّد بأنّه لو إستمر الأمازيغ في إصرارهم على فرض هويتهم على بقية الليبيين فإن الأغلبية السكانية من العرب في ليبيا سوف تقاطع الأمازيغ، وتوقف التعامل معهم مما قد يؤدي إلى عزلهم في مناطق صغيرة، وقد يتحوّلوا إلى منبوذين؛ خاصة إذا أخذنا في الإعتبار أن أغلب أمازيغ ليبيا هم من الراغبين في إستمرار الحب الأخوي بينهم وبين إخوانهم العرب الذين يشتركون معهم في العقيدة الدينية التي تؤدّى مشاعرها باللغة العربية.

بمجرّد أن خف الإحتقان نتيجة للمسيرة الكبرى تلك في ميدان الشهداء حتى خرج علينا بعض "المتطرّفين" من الأمازيغ من أمثال السيد "فتحي بن خليفة" والمتعاطفين معه بمظاهرة هذه المرة تحتجّ على حكومة السيادة الليبية بقيادة الدكتور عبد الرحيم الكيب بذلك العنف الذي أدى بالمتظاهرين لمحاصرة مبنى رئاسة الوزراء، والهتاف بشعارات ضد الحكومة، وضد المجلس الإنتقالي. وحين خرج عليهم الدكتور الكيب محيّياً، ومخاطباً فيهم ليشرح لهم الطريقة التي أختيرت بها الحكومة المؤقته أخذوا يقذفونه بالبيض، وينعتونه بأوصاف غير لائقة مما أغضب رئيس الوزراء معتبرا أن ما جرى كان القصد منه إهانة رئيس الحكومة، وهو بدون شك يعتبر إهانة لكل الليبيين فهذه الحكومة تمثّل السيادة الليبية.

الأمازيغ بمثل تلك التصرفات خلقوا لأنفسهم المزيد من الأعداء، وقل عدد المتعاطفين معهم في داخل ليبيا، وربما في خارجها أيضا من محيطهم العربي الذي لايستطيعون نكران وجوده وفعاليته.

حرق الأمازيغ بمثل هذا التصرفات الكثير من أوراقهم، وقد يصبح من الصعب عليهم كسب المزيد من الأوراق لو إستمروا بمثل هذه العصبية وذلك التعصّب الذي لا أرى أنا شخصيا وجود أي مبرر له في بلد مثل ليبيا للأسباب المذكورة عاليه.


ثالثاً: المتشدّدون الإسلاميّون

ليبيا بلد إسلامي (97%) على أقل تقدير، ويتبع أغلبهم المذهب المالكي. الإسلام في ليبيا يعتبر ديناً وسطيّاً وبعيداً كل البعد عن التشدد والتطرّف. الليبيون بطبعهم يعتبرون مسالمين، ولا يبحثون عن المشاكل خاصة عندما يتعلّق الأمر بشئون الدين والعبادة.

ليبيا لم تعرف طيلة تاريخها الإسلامي أي نوع من المشاحنات أو المشادات الدينية؛ فما بالك بأية صراعات أو حروب طائفية ذلك لأن الطائفية لا وجود لها في ليبيا.

بدأ بعض الليبيّون يتطرفون تدريجيا لأسباب بعضها معروف، وبعضها الآخر ربما ظل مبهما. كانت ربما حرب أفغانستان من أكبر المحطّات التي أثّرت في المعتقد الليبي، وشوّشت على نقاء العلاقة بين مسلمي ليبيا؛ فقد ذهب الكثير من الليبيين للقتال في أفغانستان تحت إمرة "الطالبان" الذين يشهد لهم تطرّفهم في الدين فتعلم أولئك الليبيون الكثير من التطرّف الديني في أفغانستان، وكان ربما من أبرز الجماعات الليبية المتطرفة التي تأثرت بالقتال في أفغانستان هي "الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة" التي أعلنت في يوم من الأيام إنضمامها لتنظيم القاعدة في المغرب العربي الذي يعتبر أكثر تطرفاً ودموية.

هناك عوامل أخرى لايجوز إنكارها في هذا الصدد مثل حرب الصومال، حركات التطرّف في الدول المجاورة مثل الجزائر والسودان، وكذلك نظام حكم الطاغية القذّافي الذي زرع الكثير من السموم بين المسلمين في ليبيا.

يضاف إلى تنظيم الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة الذي مازال له الكثير من الأنصار والنشطاء في ليبيا يوجد تنظيم "الإخوان المسلمون" الذي يتبع فكرياًّ وتنظيميّا جماعة الإخوان المسلمون العالمية والتي تعتبر مصر عاصمتها الروحية والإدارية. جماعة الإخوان الليبية تتبع تنظيم الإخوان المسلمون خارج حدود البلد، ويلتزم أتباع تنظيم الإخوان المسلمون في ليبيا بولائهم للتظيم على حساب ولائهم لليبيا وفي هذا الكثير من الإشكال.

وبدل أن تتحول التنظيمات الإسلامية في ليبيا إلى الإشراف على عمليات التوعية الدينية، والغوث، والمصالحة بين الناس نجدهم يدخلون ساحة الصراع السياسي من أوسع أبوابه وهو من حقهم؛ ولكن يجب أن يكون ذلك من منطلقات ليبية صرفة بدون إستلام الأوامر من خارج الحدود.

بعد أن أسس الكثير من إخوان ليبيا حزباً جديدا أطلقو عليه "التجمع الوطنى من أجل الحرية والعدالة والتنمية" قالوا بأن حزبهم "ليبرالي" على غرار حزب العدالة والتنمية التركي، وعلى أنه يعتبر حزبا علمانيا بعيدا عن التشدد الديني أو التطرف، وقالوا بأنّهم يؤمنون بالديموقراطية والإنتخابات، وبحق المرأة في الإنتخاب، وغيرها... بعد كل ذلك عادوا ليلعبوا نفس الأدوارالقديمة منذ تأسيس تنظيم الإخوان المسلون عام 1928 على يديّ "حسن البنّا" المصري والتي تظهر الحزب في موقع المرن والقابل للتطوّر حسب مقتضيات الحال ( الغاية تبرر الوسيلة) لكننا نرى بأن هؤلاء الناس يعملون بكل ما أوتوا من حيلة ودهاء للإستيلاء على الحكم ومن ثم فإنّهم سوف يفرضون الأمر الواقع وذلك بالإقدام على إلغاء جميع الأسس الديموقراطية التي لايؤمنون بها أصلا معتبرين إيّاها بدعة محرّمة. كما أنهم سوف يعملون على إعادة الخلافة الإسلامية، وفرض الحاكم (الخليفة) الذي يبقى في الحكم وفق نظرية المبايعة التي في رأيهم تلغي الحاجة للإنتخاب.

الذي يبرهن على مصداقية هذا الكلام هو أن إخوان ليبيا قاموا بدعوة الشيخ يوسف القرضاوي - وهو من أكبر قادة الإخوان المسلمين - للحضور إلى ليبيا، والقيام بالكثير من الأنشطة الإجتماعية بهدف تزيين صورة الإخوان المسلمون في ليبيا تهيئة لهم لخوض الإنتخابات المقبلة والتي يحلمون بالفوز فيها إسوة بتونس، ومصر، والمغرب.

إن المنتمين للتنظيمات الإسلامية في ليبيا قد لايدركون بأنّهم أقلية صغيرة في البلد التي يزيد عدد الشباب فيها عن ثلثي عدد السكان الإجمالي، وهؤلاء الشباب يعتبرون من الفئات الواعية جدا التي تستخدم آخر مبتكرات العصر من تقنية، وإتصالات، وشبكات المعلومات؛ وهؤلاء لايمكنهم أبدا أن يستلموا أوامرهم من شيخ دين متشدد مازال يؤمن بعقلية القرن السابع الميلادي.

إن الجماعات الإسلامية المتشددة في ليبيا بإصرارها على العيش بمعطيات الأزمان الغابرة وهي تتحدث إلى جيل الشباب المتفتح إنما هي تحرق أوراقها كل في يوم، وما إستعانتها بالشيخ القرضاوي إلا دليلا على إحساسها بالضعف وربما "التغرّب" في مجتمع مثل المجتمع الليبي الذي يتميّز بالنباهة، والذكاء؛ خاصة أن هؤلاء الشباب (الفتيات منهم بالذات) كانوا قد ذاقوا طعم الحرية "الدينية" في عهد الطاغية القذافي الذي ورغم كل مساوئه إمتاز بخاصّيتين مهمّتين في هذا المجال:

1- محاربته للتشدد أوالتطرّف الإسلامي مما قلّل من وجوده وخطره في ليبيا.
2- تبنّيه لحرية المرأة الأمر الذي يرفضه هؤلاء المتشددون بغض النظر عن التنظيمات التي يتبعونها.

إن هؤلاء الشباب ( والشابات) الذين ذاقوا طعم الحرية الإجتماعية سوف لن يقبلوا بشيخ دين يتحكم في كل شئ في حياتهم بدءا بالملبس، والمأكل، والمتاجرة، والإبداع بجميع أشكاله، وكذلك العلاقات الإجتماعية الشفافة التي ربما من بين ملامحها إحترام المرأة، وعدم النظر إليها على أنّها خُلقت لإمتاع الرجل كما يعتقد شيوخ الدين الذين يسمحون لأنفسهم بالزواج كما طاب لهم من مثنى وثلاث ورباع، وإذا أرادوا الزواج بالمزيد كما هو الحال في السعودية، وبقية دول الخليج فإنّهم يجيزون لأنفسهم ذلك بالإستناد إلى آيات من القرآن يفسرونها على مزاجهم من أمثال:{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَ‌ٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا }، وكذلك: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ }, وكذلك: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا }، وكذلك: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }، وكذلك: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}، وكذلك: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، وقوله تعالى: { ۞ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَ‌ٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ۚ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}... وغيرها كثير من الآيات التي يفسّرها أولئك الشيوخ كما يحلوا لهم بحيث في نهاية المطاف يمتّعون أنفسهم بنكاح من إشتهوا من النساء وتلك هي عقدة "الإسلاميّين".
راجع خطبة المستشار عبد الجليل في يوم إعلان تحرير ليبيا حين - بدل الإعلان عن تحرير ليبيا - قرّر إلغاء قانوناً سنّه القذّافي لكبح الشهوة الجنسيّة لرجال الدين؛ وكان ذلك على ما أظن إرضاء لقادة الإخوان المسلمين الذين كانوا يهدّدون أمن البلاد خاصة بعد تصريحات أبناء الصلاّبي (علي وإسماعيل) في تلك الأثناء.... أراد ربما أن يعطيهم قطعة من "الشيكولاتة" ليلهيهم بها !.

في الختام إنني أنصح كل تلك الفئات التي ذكرتها أن تثب إلى رشدها، وأن تتدبّر أمرها، وأن تنظر إلى مصالحها من خلال مصلحة الوطن؛ فليبيا بها من العقول من بيده أن يميّز بين من يحب الوطن ومن يحب نفسه. عليكم قبل أن تحرقوا أوراقكم أن تنتبهوا إلى مصالح الغير وحقّهم في الحياة الحرة الكريمة فباب الحرية في ليبيا كان قد شُرّع على مصراعيه منذ السابع عشر من فبراير وإنّه سوف لن يغلق من جديد.... فالذي ذاق طعم الحريّة لن يستطيع أن يعيش بدونها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك