2011/08/07

شتّان بين الثرى والثريّا

بعد فترة سكون وسكوت أحاطت بالطاغية القذافي كانت غير معهودة بالنسبة لحاكم طاغية مثله لايستطيع العيش بدون ضوضاء وبهارج حتى أن حدوثها أرسل الكثير من الإشارات؛ فهذا الطاغية يعيش على الدعاية، ولا يستطيع نظام حكمه أن يعيش يوما واحدا بدونها.... بعد هذا السكوت الذي لم يستمر طويلا؛ قرر الطاغية القذافي الخروج للعالم بطريقة فريدة من نوعها... رقما قياسيا عالميا في طول "العلم الأخضر"الذي إستعرض به "مؤيدوه" في شوارع العاصمة ليبرهن للعالم على أنه مازال موجودا، وعلى أنه مازال قادرا على تحدّي العالم أجمع.... وعلى أنّه سوف ينتصر في نهاية المطاف؛ أو هكذا قال له السحرة.

بعد صدور قرار المحكمة الدولية، وبعد تلك الإنتصارات الكبيرة التي حققها ثوّار الجبل، وبعد إقترابهم من مدينة الزاوية؛ بدأت الإشاعات تتناقل هنا وهناك عن مصير القذافي، وأين يحل ترحاله بعد أن ضاقت به الأرض، ولم يعد أحدا على وجه الأرض يطيق بقائه بين البشر العاديين. بعد كل هذا وغيره خرج الطاغية القذافي على الناس بمفاجأة جديدة لكنها بعد تمحيص وتدبّر؛ تبيّن أنها لم تكن جديدة على الإطلاق. إنها مثل تلك المشاهد التي تعوّد عليها المواطن المغلوب في بلادي منذ عام 1969.

أرسل الطاغية القذافي مناصريه، وحوارييه، والمغفّلين من أتباعه إلى المناطق التي مازال يسيطر عليها، ويفرض عليها الأمر الواقع آمرين سكانها بالخروج في مسيرة "كبرى" تأييدا "للقائد"ومن لم يخرج في هذه المسيرة فسوف يحسب من أعداء الثورة؛ والليبيون يعرفون ماذا تعني تلك العبارة المخيفة.
أُرسلت الحافلات إلى المدن والقرى التي مازالت ترزح تحت حكم الطاغية وبداخلها غوغاء االلجان الثورية وهم يحملون في جيوبهم أمرا بتجميع "مليون" متظاهر للمجئ بهم إلى ميدان الشهداء (الساحة الخضراء) حتى يباهي بهم الطاغية القذافي الأمم الأخرى.
برهن الثوريون على ولائهم "للقائد" وأحضروا له ما يريد، فأستعرضوا بهم في ميدان الشهداء، وفي شارع عمر المختار، وبقية
الشوارع التي تتفرّع من ذلك الميدان مثل شارع 24 ديسمبر ( الأول من سبتمبر)، وشارع الإستقلال (المقريف)، وكذلك شارع الوادي، وشارع الشط.
ما إن تأكّد "القائد" من دخول تلك الجموع إلى ميدان الشهداء ( الساحة الخضراء) حتى قامت وسائل إعلامه بإذاعة خطاب مسجّل ـ معدّ سلفا لهذه المناسبة تم إخراجه ومونتاجه بما يخدم الغرض الدعائي ـ عبّر فيه "القائد" عن إبتهاجه بهذه الجموع التي "تنادت" تأييدا للقائد المفكّر، وأعربت عن حرصها على "سلطة الشعب" وتمسّكها بالقائد المقكّر الذي أصبح يعرف أخيرا ب"الرمز".
أفرغ القائد الرمز ما بجعبته من ترهات تعوّد على سماعها الليبيون منذ أن عرفوه لأول مرة في عام 1969، وأضاف إليها تبجّحا من نوع جديد لم يسمعه الليبيون من قبل؛ وإنتهى المشهد لتعود الجماهير المغلوبة على أمرها إلى الآماكن التي أحضرت منها "غصبا عنها" وخفت بعدها الزعيق إنتظترت لشطحة أخرى قد تكون أكثر فجاجة من سابقتها إلى أن يصبح الليبيون على خبر مسك "القائد الرمز" والإعلان عن موعد لمحاكمته على الجرائم التي إرتكبها في حل الليبيين، وبقية شعوب الأرض.

يقال بأن هذا القائد "الرمز" كان منذ يومين فقط قد إستجلب أعدادا كبيرة من مشاهير السحرة ليقوموا بحمايته وتجنيبه شرور المحكمة الدولية فعسى أن يقوم أحد المقربين من القذافي، أو أحد أبناء عمومته، أو ربما أحد أبنائه بالتبليغ عن مكان وجوده بغرض التخلّص منه
بعد أن ضمن القائد "الرمز" وصول جابهذة السحرة إلى أرض "الجماهيرية العظمى" قام بالمرحلة الموالية ـ حيث ضمن له السحرة "الأمان" و"السلامة" من أي متربّص به ـ بأن آذن بالبدء بالعروض الشعبيه "المليونية" ليتحدى بهم العالم كله، ويعلن على أعتابهم إنتصاره على التحالف الدولي.

تلك كانت مشاهد لمن مازال يعيش في الثرى..... في براكين المياه الآسنة. تلك كانت مشاهد من صور التخلّف والتفكير بمنطق العصور الغابرة وهو نفس نمط الحياة الذي فرض على الليبيين منذ إستيلاء هذا المتخلّف على سدة الحكم في ليبيا منذ أكثر من 42 سنة تمكّن خلالها من ، وطمس كل علامات المدنيّة والتحضّر ذلك لأن القائد "الرمز" لايحب المدينة، ولايستطيع شم نسائم المدنيّة والتحضّر لأنّه بدويّ الطباع، بدائي التفكير،ومزاجي التصرّف.

في المقابل... ذهبت ظهر هذا اليوم لحضور ملتقى لبعض من عقول ليبيا المهاجرة؛ وكان اللقاء أخوي الإحساس، حضريّ الوجود، عقليّ التفكير، متجدّد النهج، دافئ الأحضان.
تحادثت مع إخوتي أبناء بلدي الذين أعرف منهم الكثير حيث كانوا رفقاء دراسة وكانت فرصة كثيرا ما بحثت عنها للإلتقاء بهؤلاء الشباب ( وأقول شباب رغم دخول بعضهم سن النضوج لأنهم مازالوا يحملون روح وتفكير الشباب) وقد برهن كل منهم على نبوغه ومقدرته المهنية في المجال الذي تخصص فيه، وبرهن الليبي على أنه قادر على إثبات نفسه في حلبات الصراع المهني الشريف بحيث تمكّن شباب ليبيا وعلمائها من منافسة والإنتصار على من ينتمون إلى دول تعتبر من الثمان العظام بحكم المقاييس العالمية المتفق عليها.
برهن أبناء وبنات ليبيا على أنهم لايقلّون عن غيرهم نبوغا ومعرفة رغم المعاناة، ورغم التخلّف الذي فرض عليهم في بلادهم التي ينتمون إليها بكل فخر رغم محاولات الإقصاء والتهميش التي مارسها عليهم نظام المتخلّف القذافي خلال العقود الأربعة الماضية ، ورغم عمليات التجهيل، والتحقير التي مارسها هذا النظام مستعينا بالغوغاء من لجانه الثورية في حقهم..... نظام حكم الطاغية القذافي هو نظام حكم بدأ فردي ثم بعد ذلك تحوّل إلى عائلي متخلّّف بكل المعايير والمقاييس. حكم هذا الفوضوي ليبيا لأكثر من أربعة عقود من الزمن كان بإمكان الليبيين خلالها الإرتقاء بليبيا إلى مصاف هذه الدول الكبرى التي نتحدّث عنها لو أن هؤلاء الشباب سُمح لهم بالتفكير والإبداع في بلادهم بدل التحجير على عقولهم، والإستحواذ على إرادتهم، ووأد حريتهم بهدف تمكين هذا المتخلّف من التفرّد بكل الصفات والألقاب التمييزية أو لنقل "الفريدية".

كنت لا أعرف كيفية الوصول إلى مكان الملتقى فأخذت معي جهاز الإرشاد المكاني عبر الأقمار الصناعية بغرض الإستعانة بإرشاداته للوصول إلى المبتغى. وأخذ "التوم توم" يصدر لي التعليمات بالصوت والصورة وأنا أقود سيارتي يدلّني على الإتجاهات بكل دقة ووضوح، وببرهة من الزمن والمسافة كافية لإستمرار الرحلة بدون توقّف أو تأخير بسرعة تتجاوز 120 كلم في الساعة.

كان الجهاز ينصحني أيضا بأخذ الجانب المناسب من الطريق، ويدلّني على مواضع راصدات (كامرات) السرعه قبل وصولي إليها حتى لا اقع في المحظور. قلت في نفسي.... هذا هو العالم الحقيقي الذي يحيط بنا وعلينا أن نعيش فيه ونتكامل معه بدل أن نحاربه ونحاول أن نلغيه بحجة أننا نحن من يطرح للعالم نظرية فريدة من نوعها تقدّم الحلول الجذرية لمشكلة الحكم، وتفتح الطريق نحو التقدّم "الحقيقي" الذي يجب أن ينتهجه هذا العالم بدل الجري وراء "سراب" الحضارة الغربية "الزائفة" كما حاول إعلام القذافي إقناعنا به خلال سنوات حكمه الطويلة والمملة.

هذا العالم المتقدّم في كل شئ، والذي يعتمد على العقل والتقنية لسبر أغوار المستقبل من أجل غد أفضل؛ هو نفسه العالم الذي حاول جاهدا الطاغية القذافي حجبه عنّاّ لكنّه لم يفلح البته والدليل هذه العقول الليبية النيّرة التي تجتمع اليوم من أجل غد ليبيا، ومستقبل الحياة فيها بدون الطاغية القذافي، وبدون أبنائه الطائشين.

وبينما كانت تدور هذه الأفكار في مخيّلتي وانا أمخر الطريق سريعا عساي أن أبلغ مكان اللقاء قبل البداية مرّ بذاكرتي خبر أولئك السحرة "الفطاحل" الذين إستجلبهم العقيد القذافي ليحموه من ضربات الناتو... وحينها قلت في نفسي: نعم إن هناك فرقا بين الثرى والثريا... فرقا بين العلم والجهل، فرقا بين من يعيش الواقع ويتدبّر ما حوله؛ وبين ذلك الذي يعيش في الخيال، ويبني مجده على الوهم. شعرت حينها بالأسى والمرارة، وتمنيت على أهلنا في ليبيا الحبيبة أن يفيقوا من سباتهم، وأن ينفضوا عن كواهلهم غبار التخلّف الذي تجمّع على عقولهم ، وعزلهم عن التفكير في شئون حياتهم ومصير أجيالهم القادمة طيلة فترة حكم هذا البدائي المتخلّف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك