حينما يفقد الإنسان إرادته ويسلّم أمره إلى غيره من بشر مثله، فإنّه يفقد بذلك كينونته، ويتنازل عمّا كرّمه الله به. حينما تسلم النعجة رقب للجزّار فإنّه حتماً سوف يذبحها... وقد ينتشي بذلك.
صباحكم سعيد ومفيد، وإن شاء الله يكون مليئاً بالأخبار السعيدة.
ربما لاحظتم بأن هذه السلسلة أخذت تتمدد وتتوسّع، ولم يكن ذلك بمحض الصدفة. أنا قصدت أن أرصف الطريق بالكثير من العناية، وأن أهتم بوضع علامات المرور في آماكنها؛ ومن ثمّ رسم علامات السلامة على الطريق. من بعدها سوف أدعوكم لقيادة سيّارات الحياة عليه وأنتم أكثر ثقة بأنفسكم وأكثر معرفة بقدراتكم الكامنة في داخل أنفسكم.... وهي كبيرة جدّاً.
حينما تكون علامات المرور واضحة، وإرشادات السلامة معلومة، والنصيحة كانت قد أعطيت مسبقاً؛ تبقى مسئوليّة العبور في نهاية المطاف هي مسئوليّة جماعيّة، والإختيار هو إختيار فردي. من حق المجتمع معاقبة الفرد حينما يتعدّى الفرد على حقوق المجموعة، وتلك بكل تأكيد تقع ضمن الحدود المرسومة في مسوّدة حقوق الإنسان. فأطراف حدود حرّيتك تتوقّف عند بدايات حدود حريّتي؛ أمّا موضوع التداخل بين الحريّات فهو مسموحاً به بشرط إتفاق ورضاء الطرفين... أو الأطراف.
موضوع حلقة اليوم سوف يكون عن "الكهرباء"... كهرباء الدماغ.
إن كل شئ تعمله، وكل حركة تؤدّيها، وكل إحساس تحسّ به، وكل ردّة فعل تصدر من عندك يكون أساسها "توليد شحنة كهربائيّة" تقوم بتلك المهمّة التي ترغب أنت في القيام بها، وحتى تلك التي تحدث بالنيابة عنك وأنت متعمّقاً في نومك.
إن كل ما يحدث في جسمك لابد وأن يكون عن طريق توليد شحنة كهربائيّة، وأنا لا أعرف كثيراً عن الروح: {{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً}}، لكنّني قد أجتهد، ومن حقّي أن أجتهد. غير أنّني سوف لن أجتهد ما لم أسأل سؤال "التحدّي"... سؤال "المواجهة"... سؤال "التشكيك".
إن من لا يشك لايمكنه أن يفكّر، ومن لايفكّر لايبحث، ومن لايبحث لايكتشف، ومن لا يكتشف لا يعرف: {{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }}.. أعتقد بأنّ هذه الأية تبرهن لكم عن جديّة ومصداقية ما كتبته لكم في هذا السياق. فسيّدنا إبراهيم كان قد "شك"، ثم "سأل"، ثمّ "تنبّه" لسؤال ربّه له برحابة صدر، ثمّ "إستدرك"، لكنّه لم يرتعب، ولم يتراجع؛ بل واصل بقوله {{وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}}... كي "أعرف"، وحينما أعرف أحسّ بالطمأنينة. إصرار إبراهيم على "المعرفة" هو ما مكّنه من الحصول على الإجابة، والإجابة ما كانت لتعطى له لولا أنّه كان قد "سأل" السؤال. إجابة الرب على تساؤله هي ما مكّنته من الحصول على المعرفة، والمعرفة هي ما عمقّت الإيمان في قلبه.... فهل نتعلّم من قرآننا؟.
إنّنا سوف لن نتعلّم مالم نتحدّى... ما لم نستفسر... ما لم "نشكّك". هنا أنا أعني تحديداً تلك "الأحاديث الصحيحة".... أو ما يعرف عند شيوخ الدين ب "الصحيحين"؛ وأنتم تعرفون يقيناً ما أعني هنا. إن لم نشكّك في صحّتهما، فسوف لن نعرف حقيقتهما، وسوف يبقى ذلك "التجاهل" يعيش معنا ونتوارثه إلى قيام الساعة.
دعوني أعود إلى صلب الموضوع... أنا أرى بأن "الروح" هي "زِرّ" تشغيل لمولّدات الكهرباء في أجسامنا، أما النفس فهي شئ آخر لمن قد يستفسر. سوف أتحدّث عن الروح والنفس والعقل والإرادة في موضوع آخر، ولكن خارج سياق هذه السلسلة.
هناك من لامني على "الإطالة" في الكتابة، وأقول بأن من يذهب في رحلة ممتعة يتمنّاها بألّا تنتهي. رحلة الكتابة بالنسبة لي "ممتعة"، ومن ثمّ فأنا أسترسل فيها ولكن بمعلومية وبمعرفة وب"تبصّر" Insight.
أعود إلى موضوع الكهرباء و"طرح الأحمال"، فالصيف قادم، وسوف يعاني الشعب الليبي، والشعب العراقي، والشعب اليمني، والشعب السوري، والشعب الصومالي، والشعب الأفغاني... وغيرهم من الشعوب "الإسلاميّة" من مصيبة "طرح الأحمال". أنا هنا سوف أتحدّث عن كهرباء أجسامنا.. عن مولّداتنا التي هي في داخلنا. تلك هي ما نملك وما يمكننا التحكّم في مخرجاتها بدون أن يفرض غيرنا علينا الوصاية فيها. قد تفرض علينا "عقولنا" وإراداتنا "طرح الأحمال" في داخل أنفسنا؛ ولكن تلك هي قضيّة مختلفة.
ولأعود إلى الموضوع... الخليّة هي وحدة البناء في جسم الإنسان، وكل نسيج في أجسامنا يبدأ بخليّة. بكل تأكيد للخلية مكوّنات صغيرة والعملية لا تنتهي في التعمّق، لكنّني هنا سوف أبدأ من الخليّة كوحدة البناء في كل عضو في أجسامنا، ولنترك التفاصيل لمن يرغب فيها.
هناك بكل تأكيد أشكال وتركيبات ووظائف مختلفة للخلايا في أجسامنا؛ لكنّني هنا في هذا المجال سوف أقصر حديثي على خلايا المخّ والتي ذكرتها بالأمس على أنّها تسمّى حينما تكون متكاملة ب"العصبونة" أو ما يعرفه أخصائيوا الأعصاب ب Neuron. هناك كما ذكرت بالأمس نوعين أساسيين من العصبونات، وهي الحسيّة والحركية، وكل منهما تعتبر وحدة توليد كهرباء مستقلّة أي أنّها تعتبر في جوهرها "مولّد كهربائي متناهي في الصغر"، وحينما تشتغل العديد منها في تجانس مدروس ومتكامل نتمكّن نحن من أداء الوظيفة كما يجب. يكون بوسعنا حينها أن نفكّر، ونتكلّم، ونرى، ونسمع، ونتذوّق، ونشم، ونتخاطب، ونتسامر، ونتغازل، ونعيش بسلام. أمّا حينما تحدث "تضادّات" وغياب التنسيق بين العصبونات المخيّة فإنّها تنتج شحنات كهربائيّة تحدث الكثير من المشاكل لعل أقلّها أننا نتحوّل إلى أعداء متخاصمين؛ فيرفع كل منّا سلاحه في وجه أخيه ويقتله أو على الأقل يؤذيه.
ولنعد إلى قشرة المخّ.... تلك المادة الرمادية التي حدثتكم عنها بالأمس. فهي بإعتبار أنّها في واقع الأمر هي تجمّع (كابينة) لمولّدات الكهرباء في دماغ الإنسان، أرى بأن البداية من عندها تعتبر مهمّة جداً. هناك ما يقارب من 10 مليار عصبونة في مخّ الإنسان، وكل عصبونة واحدة تولّد تيّاراً كهربائيّاً لوحدها. كل عصبونة تتواصل مع عدد من العصبونات الأخرى عن طريق "التشعّبات العصبيّة" Dendrites، والتي يبلغ عددها في كل عصبونة 5 تشعّبات تنقسم كل واحدة منها إلى أعداد كبيرة من التشعّبات العصبيّة تتواصل مع تشعّبات عصبونات مجاورة لتشكّل فيما بينها شبكة غاية في التعقيد والترابط؛ وإن حاول أيّ منكم عدّها، فإنّه سوف يحتاج إلى 300 مليون سنة بأيّامها ولياليها وهو يعد ليحصيها. تلك العصبونات بتشابكاتها المعقّدة تقدر مجتمعة على توليد طاقة كهربائية بمقدورها تسيير وظيفة مقصودة مثل تحريك اليد من هنا إلى هناك، أو تحريك اللسان بحيث أنّه يصدر حركات نقصد بإنتاجها إرسال إشارات صوتية متناغمة لمن نتحادث معهم ونشرع من حينها بالنقاش والحوار أو التخاصم والصياح و الشجار.... حسبما نفكّر ونقرر، وحسبما نشتهي ونختار !!.
بكل تأكيد، فإنّنا حينما نتتج شحنات كهربائيّة غير خاضعة لإراداتنا؛ فإنّنا يقيناً سوف نتشنّج ونغضب ونخرج عن طوعنا فنقوم بأعمال شرّيرة منها الكذب والسرقة والغش والإعتداء على حقوق الغير، والإغتصاب، والإختطاف، وطلب الفديات الماليّة، وقد ندخل في حروب وإقتتالات فيما بيننا مع أنّنا في الجوهر "إخوة" ويجمع بيننا ما بوسعه أن يجمعنا مع بعض حول علاقات وطيدة وأخوية و"إنسانيّة" كما نقول.
هناك إضطرابات كهربائية أخرى قد تكون خارج سيطرتنا وخارج إراداتنا تنتج عن خلايا مخاخنا بسبب إختلالات كيميائية ناجمة عن أصابتنا ببعض الأمراض، أو تعاطينا لأدوية من نوع معيّن، أو إحتساء بعضنا لمحفّزات كحولية، أو شرب كميات كبيرة من القهوة أو تناول مفرط للشكولاطة. يحدث ذلك أيضاً إن نحن تناولنا حبوباً منبّهة أو مخدّرة أو مهلووسة.
هناك أيضاً ما ينتج عن الخوف والإرتعاب والشك والظن والتوهّم والإعتقادات الخاطئة، وتلك تنتج شحنات كهربائيّة غير مبرمجة ممّا يخرجنا من عالمنا المسالم إلى عوالم أخرى تكون مخيفة ومرعبة ومربكة تدفعنا إلى القيام بتصرّفات غريبة أو ربما تدفع بنا نحو الإنزواء والإنطواء والتغرّب في عالم التوحّد والإنفراد والتفرّس والتحيون(الحيوانيّة) والتي تعارفنا علي تسميتها بالسحر والجن والخوف من المجاهيل ورؤية أشباحاً تمشي أمام أعيننا وغيرها من تلك الخرافات التي نعتقد في وجودها ويدافع بعضنا عن وجودها مع أنّها ليست أكثر من خيالات ترسمها لنا أذهاننا بسبب إشارات نرسلها "نحن" لخلايا مخاخنا فتنتج كهرباء غير متجانسة وغير متواءمة تدفع بنا لدخول تلك الحالة "الهستيرية" التي تفقدنا السيطرة على أنفسنا، وتحوّلنا إلى ضحايا فاقدة الإرادة لغيرنا الذي يستغل ضعفنا ويستفيد من فقداننا للسيطرة على أنفسنا فيكذب علينا بما يتداول في ردهات الجهل والتخلّف... يكذب علينا بقراءة "الرقية" ويسمّي نفسه نتيجة لذلك ب"الراقي" ويمكنكم تحديد مستواه العقلي والفكري بأنفسكم. وحتى يقنعوكم بجدواها (الرقية) تمادوا في ذلك بأن أطلقوا عليها "الرقية الشرعيّة" ليعطوها "قدسيّة" تخدّركم وتفرض عليكم الإنصياع الأعمى لهم ولعمليات "التنويم المغناطيسي" التي يخدرونكم به فتتحوّلوا إلى بشر مطيعين وتائهين في عالم "الخيال" الذي يرسمه لكم "الراقي" ويدفعكم للدخول إليه وأنتم لا تدرون ماذا تفعلون... أي أنّكم - وللأسف - تسيرون إلى هناك كالأنعام، أو لأقل كتلك النعجة التي تذهب يوم العيد لساحة نحرها وهي فرحة لأنّها لا تدري ما يخبئه القدر لها.
الرقية هي "بدعة" لا وجود لذكرها أو الإشارة إليها في القرآن، ومن ثمّ فهي غير شرعيّة، ولا علاقة لها بالدين على الإطلاق أكثر من كونها آكاذيب وتخاريف لا تختلف في أيّ شئ عن السحر نفسه. وفي هذا، ربما لا يختلف من ينصحون بقرائتها أو يمارسونها بأنفسهم على الغلابة والمغفّلين من البشر... لايختلفون إطلاقاً عن السحرة الذين يخالفون آوامر الله. المهم هذه المواضيع سوف أخوضها وبعمق في الحلقات القادمة، وسوف بإذن الله ينتصر العلم على الجهل وتنتصر الحقائق على الآكاذيب.
في ختام حلقة اليوم، أنا إرتأيت الإبتعاد عن الأمور الفنيّة(التقنيّة) مثل حركة الأملاح عبر جدران الخلايا داخلاً وخارجاً وما ينتج عن ذلك من تكهرب الخليّة وتحويل جدارها إلى ما يشبه خيطاً كهربائيّاً مشحوناً يصبح "متحفّزاً"، وقد يؤدي إلى إحتراق الخلية نفسها لولا تناوب عمليات الإستقطاب Depolarization والعودة للحالة المتعادلة Repolarization وتتابع تلك الحالات مادمنا نحن نقوم بحث الخلايا المخّية على إنتاج المعلومة. نحن من يحث الخلايا، ونحن من يوجّهها، ونحن من يجلب إليها المعلومة(سواء كانت صحيحة أو خاطئة)؛ ومن ثم فنحن من يحث خلايانا على إنتاج ذلك النوع من الشرارات الكهربائية التي تؤدي بنا إلى المصالحة أو الإقتتال... مع أنفسنا، وكذلك مع غيرنا.
في الحلقة الموالية، سوف أتعرّض لتلك الكيميائيّات التي ينتجها جسم الإنسان، والتي تتجوّل بين خلايا المخ فتحثّها لتنتج أنواعاً معينة من الطاقة تتحكم في سلوكياتنا وتعاملاتنا مع بعض كبشر، وكذلك في تعاملاتنا نحن مع أنفسنا بما يشمل الحزن، والكآبة، والإجرام، والكراهية؛ مقابل الحب، والنقاء والصفاء والتجانس الأخوي؛ والتنعّم بما حبانا الله به من خيرات كثيراً ما نتغاضى عنها فقط لأنّنا لا نقدر على أن نقدّرها. يومكم سعيد، وما سوف يأتي سيكون أكثر إثارة بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك