2021/03/13

السحر وتأثيره على العقل (الحلقة الثالثة عشر)

السحر في اللغة المجازيّة يقصد به كل ما لطف مأخذه وخفي سببه؛ ومنه إقتران السحر بالجمال، ومنه المناظر الخلاّبة الساحرة، ومنه العيون الجميلة الساحرة، ومنه تلك الإبتسمات الرقيقة الساحرة... ومنه بكل تأكيد الطبيعة السحريّة والهواء العليل والأجواء الشاعريّة في رحاب الروابي والشعاب والمسارب الرومانسيّة الساحرة.
 
حلقة اليوم هي "الحلقة الموعودة"، وهي التي كانت الدافع لكتابة كل هذه السلسلة الطويلة من الحلقات.... ولن أهمل بكل تأكيد ذلك الطلب العزيز من الإنسان المحترم "يعرب البدراوي"، حينما طلب منّي منذ أسبوعين بأن أكتب عن "السحر".
أنا متأكّد بأنّ الكتابة عن "السحر" بالنسبة لي هي شيّقة، ومغرية، ومحفّزة ومتحدّية؛ والأكثر من كل شئ ، هي مقصودة لتنبيه الغافلين، والذين مازالوا يفكّرون بعقلية القرن السابع الميلادي... بأن الحياة كانت قد سارت إلى الأمام، وكانت قد قطعت أشواطاً من الصعب حصر أمديتها أو إستيعاب أطوالها وأعماقها ومساحات فضاءاتها وباحاتها وبواحاتها بقدراتنا الذهنيّة والعقلية؛ مع أنّنا بكل تأكيد نمتلك أفضل ما وهبه الله لأيّ مخلوق على وجه الأرض... وهو "العقل"، ونمتلك كذلك المقدرة على الإبتكار والتطوير والإبداع. كما أنّنا نمتلك المقدرة على التدبّر، ومن ثمّ البحث والدراسة والإختراع.
السحر... تلك الكلمة السحريّة
السحر في اللغة المجازيّة يقصد به كل ما لطف مأخذه وخفي سببه؛ ومنه إقتران السحر بالجمال، ومنه المناظر الخلاّبة الساحرة، ومنه العيون الجميلة الساحرة، ومنه تلك الإبتسمات الرقيقة الساحرة... ومنه بكل تأكيد الطبيعة السحريّة والهواء العليل والأجواء الشاعريّة في رحاب الروابي والشعاب والمسارب الرومانسيّة الساحرة.
أما المعني اللغوي الحقيقي للسحر فهو "الخداع والتمويه"؛ وذلك هو تحديداً - وللأسف - ما وجدت نفسي "ملزماً" بالكتابة فيه، مع أنّني لو خيّرت لكنت كتبت في جمال العيون وسحر الإبتسامات ولطافة مداعبات الآنامل وعذوبة تلامس الشفاه.

السحر عبر التاريخ
يعود التعامل بالسحر إلى ما قبل التاريخ، فقد مارس إنسان العصر الحجري الطقوس والتعاويذ السحريّة؛ فالرسوم والرموز التي نقشت على جدران الكهوف والمغارات والكتب والأساطير القديمة تدل على ذلك. فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ كانت قبائل "النياندرتال" و"الكرومانيين" الذين عاشوا على هذه الأرض منذ ما يزيد عن 80 ألف سنة يحسّ أهلها بأنّهم كانوا يواجهون شراسة الطبيعة وجهاً لوجه، ذلك بالإضافة إلى تلك الحيوانات الضارية والأفاعي الشرسة والوحوش الكاسرة التي كانت تتواجد في كل مكان حولهم؛ فإستعانوا على قهر ذلك كلّه بالسحر... حيث كان لكل قبيلة "ساحر" تستعين به على مواجهة تلك الصعاب، فيرسم ذلك الساحر للناس صورة دب مثلا على الأرض، ثم يقوم بالدوران حولها عدة مرات وهو يترنّم ببعض الكلمات التي لها مدلولات سحريّة مع تأدية بعض الرقصات البهلوانيّة، ثم يغرس بعصاه الحجرية في عنق الدب المرسوم.. فيقتله؛ ومن ثمّ يتحمّس الشباب والصيّادون ويخرجوا منطلقين وهم يتعقبون آثار الدببة ليعودوا بها صريعة.... وبذلك تخلّصوا من أعداد كبيرة من الدببة ( ليس "الدبيبة" حتى لا تذهب بكم خيالاتكم بعيداً !!).
كتب الناريخ قالت لنا وبكل وضوح بأن كل شعوب الأرض وعبر العصور كانت قد تعاملت بالسحر؛ وكلّما تعمّق الإنسان في التاريخ القديم،كلّما تنامى شغفه بالسحر. في المقابل؛ كلّما دخل نفس الإنسان العصر الحديث بعلومه وإكتشافاته وخدماته المتطوّرة كلّما قلّ إهتمامه بالسحر؛ وقد يقتصر التعامل بالسحر في المجتمعات المتقدّمة كدول إسكندينافيا على التندّر أو من باب "الفنتازيا".
وتحدّثنا كتب التاريخ أنّه وعلى ضفاف نهر الفرات كانت قد بنيت أركان مدينة بابل؛ حيث أنّها كانت تزخر بشتى العلوم والفنون والمؤثّرات التي كان على رأسها السحر، وكان الناس هناك يعبدون الكواكب ويعتقدون بتأثيرها على حياة البشر.
وفي عهد الفراعنة في مصر كانت قد دفنت أسراراً وألغازاً، وتليت طلاسم وتعاويذ عند أقدام الأهرامات؛ وكان النيل ينقل أصداءها، وترانيمها، بل وكان إحدى المرايا التي تنعكس على صفحته بعض من هذه الأسرار والطلاسم المعقدة فارتبط الهرم بالنيل، وإرتبط الاثنان بالإنسان المصري القديم. وشكّل الجميع معتقدا غاية في الغموض، وكان أساس ذلك كله السحر، والسحر وحده. فهل حقاً ما يشاع من أن كل من سوّلت له نفسه بالإقتراب من مقابر الآلهة عند الأهرامات تحل عليه اللعنة الماحقة، لعنة الفراعنة؟!. وهل أن تلك "اللعنة" كان بالفعل أساسها "السحر"، أم أن ذلك كان مجرّد لغزاً آخراً ومجهولاً؟!.
في بلاد الهند، بلاد الغرائب والعجائب، كان السحر ربّما هو من أكثر ما يثير الإهتمام ويحظى بشغف الناس به وبأسراره الكامنة السحر. حيث إمتزج السحر بالطقوس الدينية؛ ويتجلّى ذلك في الديانة البوذية التي إحتضنت السحر وأصبح بذلك السحر شيئاً مقدّساً عند الهندوس، ووضعوا له كتاباّ أسموه "الفدا"؟!. ولم تتغير حالة الهند اليوم على ما كانت عليه سابقا، فالسحرة والكهان والعرّافون، ومروّضوا الثعابين مازالت تبلغ أعدادهم بالملايين.... وهي تجارة مربحة جدّاً !.

أمّا في بلاد الإغريق، فقد كان للسحر مكانة عالية عند اليونانيّين، حيث كانوا على أثر الأمم السابقة في أمر الاعتقاد بالرقم والعزائم والطلاسم، وتأثير الأرواح الشريرة وإلى غير ذلك من الاعتقادات السحرية. معبودات اليونان كان من أهمّها زويوس وهيرا، وهي مازالت تدخل في طقوس تسخير الجن وطرد الشياطين في سرادقات "السحر العربي" حتى يومنا هذا.
وفي ديانة "زرادشت" الفارسيّة، كان رجال الدين وقتها يهتمّون كثيراً بالسحر، ويعتقد بأنّ كلمة السحر بالإنجليزية Magic كانت قد أتت من أفراد قبيلة ماجاي الميدية الذين كانوا رجال الدين الرئيسيين في الديانة الزرادشتية. وفي العصور الوسطى قام ألبرت الكبير (1206 - 1280) Albertus Magnus بجمع عدد كبير من التعويذات السحرية، ومن الجدير ذكره أن ألبرت هو ذاته لم يكن ساحرا؛ بل كان رجل دين مسيحي مهتم بعلم الكيمياء، وكان نهجه الرئيسي هو البحث العلمي التجريدي.
ومع بداية عصر النهضة والثورة الصناعية، حلّ التفسير العلمي محل الخرافات والأساطير. فقد قام الكيميائي البروسي كارل رايخنباخ في عام 1850 بتجربة على البرافين والفينول لغرض معرفة ما أسماه بالقوة الغريبة أو القوة الغامضة لبعض المواد التي أستعملت في السابق من قبل السحرة في طقوسهم وتوصّل إلى خلاصة مفادها أن هناك "تدفق" إيجابي وسلبي في المادتين وقدم نظريته بان هناك إستعمالات أخرى غير معلومة للمواد بجانب الإستعمالات المعلوماتيّة؛ لكن نظريته لم تلق قبولاً من قبل علماء عصره. أمّا "علمائنا" فقد إستخدموا الجاوي والفاصوخ والحلتيتة... وربّما العرضاوي في بعض الحالات.
في القرن التاسع عشر، ومع موجة الإستعمار الأوروبي للشرق؛ تعرّف العالم الغربي عن كثب على أساطير الشرق الغامضة وخاصة في الهند ومصر وبدأ حينها وكأنّ ولعاً جديداً بالسحر وطقوسه قد أخذ يستحوذ على عقول البعض، وتشكّلت بالفعل جماعات منظمة تحاول دراسة السحر.
وخلاصة القول فإنّ هناك نقاط تشابه كثيرة بخصوص الكتابات القديمة حول السحر والتي مازال بعضها مستخدماً حتى يومنا هذا، ومنها على سبيل المثال:
  1. إستعمال ما يسمى بالكلمات السحرية وهي كلمات يعتقد البعض بأنّها قادرة على تطويع وتوجيه الأرواح.
  2. إستعمال آلات موسيقية بدائية مصنوعة من الخشب وإحداث أصواتاً متناغمة نوعا ما أثناء الطقوس.
  3. إستعمال رموز وكتابات وشيفرات غامضة لغرض إستحضار الأرواح.
  4. إستعمال وسيط بين القوى الخفيّة والسحرة وكان الوسيط في العادة عبارة عن أشخاص يزعمون القدرة على إستقبال رسائل من القوى الغير مرئية(الأرواح أو الجن).
وتعتبر المغرب ربما من أكبر البلاد العربيّة تعاملاً مع السحر بكل مراحله، حيث يكثر السحرة وينتشرون في كل ركن من أنحاء المغرب. إذ عرف المغاربة منذ العصور الغابرة معتقدات تعبّدية وسحرية ما زالت بقاياها صامدة ومتداولة بيننا حتى الان. فقد عبد البربر - وهم المغاربة الأقدمون - عيون الماء والاشجار والكبش ملك القطيع والكواكب وجن المغارات والعيون والهواء، وأعتقدوا في السحر، أي في إمكانية خلق هيئة أو حيوان أو بشر أما برسمه أو من خلال النطق بإسمه، وإعتقدوا أنهم بذلك يستطيعون التحكّم فيه والإمساك به وتدميره أو معاقبته، ومارسوا أيضا عبادة الموتى، وكانوا يوجّهون قبورهم جهة مشرق الشمس ويدفنون مع موتاهم المجوهرات والجرار والقصاع الطينية لإعتقادهم في خلود الروح.
واذا كانت تلك هي معتقدات أسلاف البربر، فإن الكثير من المعتقدات والممارسات السحرية التي لا تزال رائجة حتى اللحظة الراهنة في المغرب، هي عبارة عن إستمرار لتلك المعتقدات القديمة التي سادت منذ ما قبل التاريخ، وأضيفت إليها خلال المراحل التاريخية اللاحقة بعض المعتقدات والطقوس الرومانية، خلال فترة الوجود الروماني بالمغرب، أي قبل الفتح الاسلامي للمغرب. كما إنضافت اليها في العصور الوسطى تأثيرات أفريقية حملها معهم الى المغرب التجّار الذين كانوا يجلبون العبيد من غرب أفريقيا، بالإضافة الى التأثيرات القادمة من الشرق الإسلامي.
ويشهد التاريخ أن ملوك أكثر السلالات الحاكمة في المغرب أصولية وتشبّثا بأحكام الشريعة الإسلامية، وهم المرابطون والموحّدون، كانوا يشجّعون أو يغضّون الطرف عن إنتشار السحر والسحرة؛ وكانت في عصورهم للسحر أسواقاً عامرة يؤمها عامة الناس على مرأى ومسمع من السلطات، بل إن الملوك المرابطين حسب روايات تاريخية كانوا يستشيرون المنجّمين، قبل عبورهم مضيق جبل طارق نحو الأندلس!!.
ويحكي المؤرخ إبن عذاري المراكشي في هذا الصدد، أن الأمير أبا القاسم الذي كان يرافق يوسف بن تاشفين المرابطي، خلال غزوته للضفة الأندلسية من مضيق جبل طارق، لم يعط الأمر لجنوده بمهاجمة الجيوش المعادية الا بعد ما حصل على موافقة منجّمه... حيث يقول المرّاكشي "فأمر الأمير أبوالقاسم منجّمه بأخذ طالع الوقت والنظر فيه فوجده أوفق طالع وأسعد وأدلها على أن الظفر للمسلمين والدايرة على المشركين، حسب ما جرى الأمر عليه.
والمعروف في علم الاجتماع أنّه في زمن التحوّلات العميقة تتنامى مشاعر عدم الإستقرار ويزداد إنتشار الخرافات كلّما زادت ظروف الحياة صعوبة، أي أن الخرافات تكثر وتنتشر بإنتشار حالات القلق والإضطراب والشعور بالضعف والعجز عن مواجهة مشكلات الحياة ومخاطرها. ولذلك فإن السحر - كما هي الخرافة في المجتمعات البدائيّة - إنّما يقوم بتهدئة المخاوف الناشئة عن الإضطرابات التي تسود زمن التحّولات الراهن.

وختاماً في هذا السياق، يمكن القول بأن التعويذة والتي كانت عبارة عن كلمات أو كتابات مخلوطة بمواد خاصّة يقوم بها رجل الدين في طقوس خاصّة كانت تستخدم كتعويذة تهدف إلى تغيير المستقبل، وغالبا ما كانت التعويذة تتم على مراحل تحت مزاعم إستحظار قوى إلهية من خلال إحتواءها على "قوى خارقة" ويضاف إلى رهبانية المشهد إستعمال روائح خاصّة أو طقوس معيّنة عادّةما تتبّع بكل قدسيّة وكأنّها منزّلة من السماء !.
وفي نهاية حلقة اليوم... أريد أن أفصح بأنّه تبيّن لي بأن الحديث عن السحر ليس من السهل تحجيمه وحصره في مقال واحد. يوجد لديّ الكثير والكثير جدّاً ممّا ارغب في إضافته بهدف إيضاح الحقيقة أمام الناس. قد أضطر لكتابة حلقة أو إثنتين إضافيّتين عن السحر، حتى أشعر بأنّني ربّما كنت قد أسهمت بما إستطعت في محاولاتي لإخراج الآفات المضرّة بالبشر والتي وللأسف كانت قد غرست في معتقداتهم من قبل "شيوخ الدين" عندنا، وأنا أعرف بأن الدافع وراء ذلك ليس كيديّاً؛ وإنّما هو كان يقينيّاً من وقع ضحالة وعقم التفكير لدى شيوخ ديننا، وغياب البصيرة Insite في العقلية المتوارثة لدى شيوخ الدين،. وهنا -فقط - إسمحوا لي بأن "أعمّم"، وأنا أعرف عمّاذا أتحدّث، وعن "ماذا أعني"...
حلقة الغد سوف تتحدّث عن "السحر في القرآن"، والحلقة الموالية سوف تتحدّث عن دور شيوخ الدين في تثبيت وقع السحر على البشر، وترسيخ مزاعم "السحرة" وذلك بالإعتراف بها وإنتاج "علاج" لوقع السحر على الناس من خلال بدعة "الرقية" والتي دعّموها وأضافوا إليه المزيد من القدسيّة بأن أسموها "الرقية الشرعيّة". الحلقة الموالية لذلك سوف تكون عن "العلاج" المنطقي والعلمي للسحر، من خلال العودة إلى الذات والحدّث مع النفس بهدف سحذ الهمم والتعرّف على مواضع ومخزونات "الإرادة" بدواخلنا بهدف بعثها لتكون عوناً لنا في التعرّف على قدراتنا التي بها وبها فقط نقدر على تجاهل السحر وقهر السحرة. يومكم سعيد ومفيد وسديد بإذن الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك