2019/09/07

هل هي جينات وراثيّة أم أنّها من نواتج الحريّة ؟

 
كنت بالأمس خارجاً من المستشفى حوالي الساعة السادسة والنصف مساء بعد إنتهاء الدوام، وبينما أنا أمشي بتوانٍ وإرتياح وقع بصري على مروحيّة الإسعاف الطائر وهي تشرع في الهبوط على مكانها المحدد قبالة قسم الإسعاف بالمستشفى، وشدّتني إليها فنّيات الهبوط من قبل قائدها الذي بصدق كان مبدعاً بكل معاني الكلمة.
وقفت أترقّب في تأمّل عميق محاولات القبطان في الهبوط العمودي وعلى مساحة تكاد تتسع لمثل تلك المروحيّة ووفق مقاساتها ليس أكثر. كان القبطان يميّلها على هذا الجانب، ثم على ذلك الجانب ثم يديرها بكل دقّة ثم يصعد بها قليلاً ثم إذا به يعدّل وضعها إلى مستوى أفقي يكاد يقاس بالزوايا والملّيمترات ومن بعدها ينزل بها الهوينى بشكل دقيق ومهني وبالفعل فنّى وجميل. كنت أراقب كل حركة في الطائرة وكل إنحناء وأنا أقف متاّمّلاً ومتدبّراً ومعجباً متعجّباً في نفس الوقت.
أنا بطبعي ومنذ الصغر لا أمرّ بالأشياء بدون النظر إليها وتأمّلها وملاحظة كل حركاتها وتركيباتها ونسجها ونسقها وحتى ألوانها... تلك هي طبيعتي التي نشأت معي من الصغر وكبرت معي مع الأيّام وأنا أحتضنها وأفرح بها، بل وكثيراً ما أفتخر بتلك الخاصّية التي علّمتني الكثير وفتحتي مخيّلتي على الكثيرمن عوالم الخلق ومن تصرّفات البشر، بل وحتى الحيوانات وربّما في آحايين كثيرة الأشجار والنباتات.
يقول المثل الإنجليزي Curiosity kills the cat أي أن الفضول يقتل الهرّة، حيث تتميّز القطط بخاصّية الفضول والإجتهاد في دراسة الأشياء والبحث عن كنهها وترقّب الحركة الموالية. تلك الخاصّية قد تذهب بعقل القطة عنها متتبّعة لما تشاهده أمامها فتسقط مشدوهة وتقع فريسة لفضولها. أنا ربّما أعتبر نفسي فضوليّاً جدّاً ومراقباً دقيقاً للأشياء مع الكثير من التفحّص والإستدراك بهدف التدبّر، لكنّني وبحمد الله وإلى حد الآن نجوت من أن اقع ضحيّة فضولي.
المهم في الأمر أنّني كنت مشدوهاً بشكل عميق نحو تلك المروحيّة وأنا أراقب كل حركة يقوم بها قبطانها وكان مركز تفكيري ونقطة إنتباهي تكمن في لحظة تلامس المروحيّة بالأرض. كنت أعرف أنّه بداخلها يوجد مريضاً وفي حالة صحية حرجة، ومن ثمّ فقد قفز بي تفكيري مباشرة نحو لحظة الهبوط... ثانية التلامس مع الأرض، وكيف سوف تكون. هل ستهبط المروحيّة برجّة وهزّة قد تخضّ المريض أم أن لقبطانها تفكيراً آخر؟.
إنتظرت متسمّراً في مكاني ألاحظ وبعمق لحظة التلامس، ولم يطل إنتظاري، فقد لامست المروحيّة الأرض التي من تحتها بدون أن ألحظ أي إهتزاز أو تمايل أو ترنّح. نزلت المروحية على مهبطها كما تسير السفينة على مياه المحيط الهادئة. لقد أبدع القبطان بشكل مدهش، ونال كامل إعجابي بفنّياته الرائعة والمهنيّة، وبالفعل نزل بمروحيّته بذلك الهدوء وبتلك السكينة التي كان المريض أوّل المستفيدين منها، وكنت أنا من بين المعجبين بها.
بعد تلك المشاهدة واصلت طريقي نحو سيّارتي وأنا أتأمّل العقل البشري الذي أنتج مثل تلك المروحيّة. قلت في نفسي، وماذا لو أنّنا بقينا مثل ما كنّا أيّام زمان نركب الحمير أو نمشي وراء الجمال أو نسوس الشواهي والمعيز؟. قلت في نفسي، وماذا لو أنّنا حافظنا على عاداتنا وتقاليدنا بدون أن نسمح لها بالتشكّل والتمحور والتبدّل والتشكّل... هل كان بوسعنا أن نبدع أو أن نطوّر أو أن ننتقل إلى الأمام؟.
المهم في الأمر أن المروحية هبطت والمريض بكل تأكيد كان قد تم نقله للإسعاف والأطباء بكل تأكيد كانوا قد إعتنوا به، لكنّني أنا لم أهتد إلى إجابة على تساؤلاتي بعد !!.
واصلت المسير نحو سيّارتي وأنا أفكّر في إبداعات العقل البشري، وكيف أن غيرنا تمكّن من صنع كل ما نرى وكل ما نستخدم لكننا نحن عجزنا عن صنع أي شئ على الإطلاق. هنا بكل تأكيد تواردت على خيالي الكثير من الأفكار، وتناقلت في مخليلتي الكثير من التساؤلات... هل هو اللون الأبيض، أم هي الجينات الوارثية .. أم أن هناك أشياء أخرى قد تكون المميّز بينهم وبيننا؟. أسئلة أراها جديرة بالمماحكة وحريّة بالتوصّل إلى إجابات عليها إن كنّا بالفعل نبحث عن مكان لنا تحت الشمس.
قلت في نفسي، وهنا كنت صريحاً معها وإلى أبعد الحدود... لماذا هو الجنس الأبيض الذي كان دائماً من أبدع ومن صنع ومن طوّر ومن برع، ولماذا هو الجنس الأسود والأسمر والبنّي هو من بقى متخلّفاً ومعتمداً على غيره منذ أن خلق الله البشريّة وإلى يومنا هذا؟. قلت في نفسي أيضاً: ماذا لو أن أمريكا بقيت في أيدي الهنود الحمر، وماذا لو أن أستراليا بقيت في أيدي الأوبرجينز، وماذا لو أن نيوزيلندا بقيت في أيدي المأوريين، وماذا لو أن جنوب أفريقيا كانت قد بقيت في أيدي الأفارقة... هل تلك البلاد كانت ستصل إلى ما وصلت إليه اليوم؟.
أسئلة جديرة بالتوقف عندها وهي محقّة لأن تنال الكثير من التفكير والمماحكة والبحث والمناقشة. هل بالفعل هو الجنس الأبيض من فقط يقدر على الخلق والإبداع، وأن الجنس الأسمر هو من يعجز عن ذلك لأسباب جينيّة أو لنواقص خلقيّة؟.
حينما حاولت الإجابة على مثل تلك الأسئلة قفزت إلى مخيّلتي بلدان يسكنها أكثر البشر بياضاً على وجه الأرض وأكثرهم جمالاً وألطفهم نقشاً... القوقازيّون في روسيا وفي بيلّا روسيا(روسيا البيضاء) وفي أوكرانيا، وفي بولندا. هناك حيث تعيش أكثر شعوب الأرض بياضاً في البشرة وأكثرهم جمالاً في السنحة وأدقّهم لطافة في التركيب والصفات..... فهل أبدع الروس والبولنديّون والأوكرانيون بمثل ما أبدع الفرنسيّون والأسبان والإيطاليّون مثلاً وهم أقل بياضاً من أولئك؟. كانت الإجابة حاضرة في توّها... لا، لم يبدع البيض في روسيا وما جاورها !!. أذاً، فليس هو الجنس الأبيض من وحده يقدر على الإبداع والخلق والعبقرية. وماذا عن تلك الألاف السمراء والرمادية اللون التي تهاجر إلى أوروبا وشمال أمريكا وأستراليا من مواطنها الأصليّة وكيف بها تصبح مبدعة ومنتجة ومتفوّقة حتى على الجنس الأبيض نفسه؟.
هنا طاف بي خيالي إلى رحاب أخرى، وحينها تحديداً تذكّرت أحد المواقف في عيادتي صباح الثلاثاء السابق للأمس. كانت إحدى مريضاتي شابة سورية جميلة وأنيقة ومهذّبة، وكانت قد أحضرت معها في المرّة السابقة ومنذ ثلاثة أشهر مترجمة عرفت حينها بأنّها ليبيّة ومن بنغازي. فبعد أن ضحكنا على المصادفة، بقيت الليبيّة معنا بدون أن تحتاج لآن تترجم لكنّها طلبت منّي توقيعاً على قيامها بالمهمة حتى تقبض الأجر على خدماتها من الخدمات الصحية الوطنية !!.
المهم أن ذلك الأمر لم يكن يشغلني كثيراً حينها، فقد وقّعت لها وتركتها هي من تحدد الزمن الذي قضته معي في العيادة كمترجمة لتأخذ أجرها كما تشتهي، لكن الذي شد إنتباهي هو أن تلك الفتاة السورية الجميلة والرقيقة كانت تضع على رأسها حجاباً من حسن الحظ أنّه كان أبيضاً ولم يكن أسوداً فأنا أتشاءم من التوشّح بالسواد، لكنّه كان يغطّي كل شئ ماعدا بعض من وجهها. حينما حضرت لأوّل مرّة لم تشاء أن تسلّم عليّ من باب أن المرأة لا تسلّم على الرجل الغريب حتى وإن كان طبيباً أتت إليه ليبحث لها عن تشخيص لحالتها. لم تسلّم علي في البداية حينما أتت، لكنّها سلّمت وبحرارة حينما خرجت من العيادة وكأن الدين كان قد أخذ إجازة حينها !!.
المهم، أن تلك الفتاة السورية - المهاجرة لبريطانيا هروباً من الحرب والإقتتال في بلادها بإسم الله وبإسم الدين وبإسم "الديموقراطية" - حينما عادت يوم الثلاثاء للمعايدة كما هو مبرمجاً أحضرت معها أمّها هذه المرّة، وجاءت معهما مترجمة أخرى تبيّن لي على التو بأنّها ليبية أيضاً لكنها هذه المرّة كانت شابّة صغيرة وأنيقة وقالت لي بأنّها من طرابلس !!. ذكرت لي إسمها، فكان إسم أبوها وجدّها هو إسم أحد أكبر قادة المليشيات في طرابلس، وهنا قلت لها مازحاً: أتمنّى بأن لا يكون ذلك... هو أبوك. ضحكت وقالت بكل هدوء: لا، لا علاقة لي بذلك الشخص، وأنا أعرف بأنّه مليشياوي "حقير". إطمأنّيت بأن ذلك الشخص "المعروف" لم يكن والدها ولم تكن هي تنتمي إلى أسرته. المهم أن الفتاة الليبية المترجمة قالت لها السورية الشابة آنفاً بأنني ليبي وبأنّها سوف لن تحتاج إلى مترجمة فدخلت عليّ الشابة الليبية لوحدها أولاً لتقول لي بأنّني ربما سوف لن إحتاج إلى مترجمة، فهل لي أن أوقّع لها حتى تذهب للقيام بترجمة أخرى وتتقاضى أجرين في آن واحد !!. بالطبع وقّعت لها وتركتها تذهب لمساعدة مريض آخر، ودخلت السورية في هذه المرة وقد إنحسر الحجاب إلى ما تحت الرأس وإعتلت الإبتسامة على شفتيها حينما دخلت لتسلّم عليّ هي بدل أن أصافحها أنا كطبيب. دخلت بعدها أمّها التي لم تكن متحجّبة لكنني حينما مددت يدي للسلام عليها أسرعت وجذبت نهاية كم القفطان الذي كانت ترتديه لتغطي به يدها حتى لا تلامس يدي أثناء المصافحة من باب "عدم مصافحة الرجال الغرباء"!!. بكل تأكيد تولّدت في مخيلتي الكثير من التساؤلات والإستفسارات وعلامات التعجّب والإستغرابات، لكنني طبيب عليّ القيام بمهمّتي ولا أحفل بالسياسة !!. جلست الأم "المتديّنة جداً" على سرير الكشف بعد أن أذنت لها بذلك وتركتني أتحدّث إلى إبنتها عن مرضها وحالتها. كانت البنت غير قويّة في لغتها العربية ربما لأسباب الحرب وغياب التعليم في السنوات الثماني الماضية أثناء ثورة "التكبير" السوريّة، فإضطررت لأن أسأل أمّها عن بعض الأشياء التي لم توفّق إبنتها في فهمها... وساءني جداً أنني كنت أتحدّث مع الفتاة بينما أمّها كانت منهمكة في تتبّع أشياء في هاتفها النقّال لا أدري ربما واتس أب أو أي شئ آخر، المهم أن الأم لم تكن معنا على الإطلاق بغير جسدها. حينما سألتها عن رأيها أجابت بإستغراب: عن ماذا.. آسفة لم أكن أتابع محادثتكما !!. تكرّر ذلك مرّات أثناء العيادة، وخرجت السورية مع أمّها لكنني أنا بقيت في مكاني أفكّر وأحلل وأتدبّر... تلك المرأة "المتديّنة" والتي لم تشاء أن تسلّم عليّ بدون "حجاب" مع أنّها لم تكن متحجّبة وإذا بها تجلس معنا بجسدها ولم تجلس معنا بمخّها ولا بتفكيرها، وكانت غائبة خلف هاتفها النقّال وكأن ما تعاني منه إبنتها لم يكن بنفس الأهميّة.
المهم، وأثناء ذهابي ماشياً إلى سيّارتي بالأمس عادت كل تلك الذكريات إلى مخيّلتي، وتصارعت الأفكار في رأسي، وقلت في نفسي: إن ما يفرّق بيننا وبينهم - نحن السمر وهم البيض - هو ليس لون البشرة، ولا هو الجينات، وإنّما هو "الحححرررررريّيّيّة".... نعم، إنّها الحريّة في التفكير، والحريّة في التعبّد، والحريّة في الإختيار، والحرية في التصرّف. الذي يفرّق بين التخلّف والتقدّم هو لا شئ ولكن "الحريّة". الذي يفرّق بيننا وبينهم هو فقط وفقط "الحريّة". تلك التي نفقدها نحن بالكامل، وتلك التي يمتلكونها هم بالكامل... ذلك هو الشرخ الذي يفصلنا عن بعض.... ليلتكم سعيدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك