2019/05/24

خطابنا الديني يقتل الأمل في النفوس... ويدفع إلى اليأس

 لا يمكن لأي شعب بأن ينتقل إلى الأمام إن كان هو مازال ينظر إلى الماضي. الحياة تسير إلى الأمام وتخطو في كل آوان مراحل جديدة تدحض خرافات الماضي وتستبدلها بحقائق يبرهن على مصداقيّتها العلم وترسم ملامحها المعرفة. علينا بأن نسعى إلى الأحسن، وذلك لا يمكن تحقيقه إن كنا نحن مازال بيننا من لا يستطيع الخروج من الماضي.
قمت صباح هذا اليوم بإعطاء طلبة وطالبات السنة النهائيّة بكليّة طب جامعة وورك حصّة إضافية من التعليم السريري في أمراض الأعصاب مدتها كانت ساعتين. هذه الحصة كانت بمثابة تعويض لهم عن عطلات الإثنين، حيث في شهر مايو من كل سنة يحتفل الإنجليز بعطلتين كل واحدة منهما تكون في يوم الإثنين.
الحصة التعليمية كانت رائعة والحالتين كانتا في صلب مستوى الطلبة والطالبات والمريضتين كانتا متعاونتين جداً... فكانت الحصيلة سعادة للجميع.
طريقة التعليم التي إنتهجها تعتمد على فكرة "التفاعليّة في التعلّم" بمعنى أن المعلّم يعطي كل شئ للطلاّب ويتركهم يفكّرون مع بعض في محاولة للتوصّل إلى تشخيص الحالة من خلال السيرة المرضيّة لكل مريض، ثم التفكير في الإحتمالات التشخيصيّة (التشخيص التفاضلي) ثم بعد ذلك أقوم معهم بوضع خارطة كشف سريري متكاملة تحتوي على العلامات السريرية التي نتوقّع إيجادها حينما نقوم بالكشف عن المريض المعني.
بعد الخريطة السريرية التي يرسم معالمها الطلبة والطالبات في صالة التدريس بإشرافي أنا ومراقبتي لهم وهم يفكّرون علانية وبتعاون مثير للإعجاب، يتم إحضار إحدى المريضتين لحجرة الكشف وهي صالة كبيرة مجهّزة بسرير كشف ومعدّات كشف سريري.
أقوم في كل مرّة بإختيار أحد الطلبة عشوائيّاً وأطلب منه أو منها (بالتناوب بين الأولاد والبنات) بالقيام بالكشف عن جزء محدّد من الجسم تكون له علاقة بالمرض المقترح (محل النقاش). وهكذا يتناوب الطلبة والطالبات عشوائيّاً على المريض ( في العادة ثلاثة طلبة لكل مريض) حتى يتم إستخراج كل العلامات المرضيّة، وبعدها نقوم بالعودة إلى صالة المحاضرات وهناك أقوم بعرض شرائح تعليمية عن طريقة التوصّل إلى التشخيص من خلال سيرة المرض والعلامات السريريّة المستخرجة والتحاليل الخصوصية. بعد التوصّل إلى التشخيص تتم مناقشة العلاج، ثم المضاعفات، ثم المآل، ثم الختام بفتح المجال للطلبة والطالبات لطرح أية أسئلة أو وجهات نظر مختلفة أو إقتراحات، وبعدها أقوم بتوزيع ملازم تحمل بين طيّاتها خلاصة عن المرض والأمراض المشابهة للطلبة كي يرجعوا إليها قبل الإمتحانات.

المهم.. ليس هذا هو الموضوع الذي وددت التحدّث عنه، وإنّما إستخدمت هذا العرض كمقدّمة لأن الأمور لها صلة ببعضها وأنا هنا أعني فقط مقدرتنا على إستخدام ملكة التفكير التي حبانا الله بها وأنعم بها علينا حتى نتمكّن من خلق حياة فيها كرامة وفيها قناعة وفيها رضاء عن النفس.
الطلبة والطالبات الذين أمضيت معهم ساعتين متكاملتين أعطوني صورة رائعة للكيفية التي يفكّرون بها وطرقهم في دمج المتوفّر من معلومات للتوصّل إلى الهدف المبتغى وهو تشخيص المرض.
هؤلاء الطلبة والطالبات طريقة تعليمهم منذ سنوات الروضة وحتى الجامعة (بالمناسبة جامعة وورك تعتبر واحدة من جامعتين إثنتين فقط في كل بريطانيا التي لا تقبل طلبة في كلية الطب إلاّ أن يكونوا يحملون معهم شهادة تخرّج جامعية من كلية أخرى تكون لها علاقة بالطب من هنا أو هناك ككلية العلوم أو الهندسة البيولوجيّة أو كلية التربية قسم الكيمياء أو الرياضيّات، ومع أن الدرجة التي يتحصّلون عليها بعد التخرّج هي عبارة عن بكالوريوس في الجراحة والأمراض الباطنية، إلاّ أن قيمة الشهادة من هذه الجامعة يتم التعامل معها بمستوى درجة الماجستير، ومدة الدراسة هنا في كلية الطب هي ثلاثة سنوات فقط) طريقة التعليم في بريطانيا وأغلب بلاد العالم المتقدّم تقوم على مبدأ "التفاعليّة في النقاش والتوصّل إلى المعلومة بدون تقيدها سهلة مستصاغة من قبل المعلّم.

خرجت من تلك الحصة التعليميّة متّجهاً نحو مسجد المستشفى لحضور صلاة الجمعة، وما إن دخلت المسجد حتى وجدت نفسي في عالم آخر. كان الخطيب يلقي درس الجمعة الذي وأقسم بأنّه لم يخرج فيه عن عام 700 أو 800 ميلادي، ولم يلامس الرجل حياتنا المعاصرة بشئ وكأنّنا نعيش في تلك الحقبة من الزمن. أنهى الرجل الدرس وبدأ بعد الأذان في إلقاء الخطبة الأولى والتي ذكر فيها عبارة كان يقرأها من كتيب صغير من الكتب الصفراء مفادها كما قرأها: ((إن الله خلق لكم الدنيا، وخلقكم للأخرة)). لم أتمكّن من هضم هذه العبارة، ففيها التناقض كان يبدو واضحاً بالنسبة لي.... كيف يخلق الله لنا الدنيا ويخلقنا نحن للآخرة... لماذا هو إذاً يخلق لنا الدنيا إن كنا نحن مخلوقين فقط للآخرة؟!!.
بقية تلك الخطبة لا أريد أن أساهم في تقزّزكم منها، ولكن في خطبته الثانية وهي نفس الخطبة التي بقيت أسمعها حرفيّاً في كل جمعة لمدة 8 سنوات متواصلة!. يبدو أن العالم بالنسبة لهذا الشيخ لا ينتقل إلى الأمام إطلاقاً.

في الخطبة الثانية تسمع الكثير من الكلام المتناقض مع بعضه، ولعل أقل ذلك التناقض تسمعه حينما يقرأ الشيخ حديثاً يقول لك إنه للنبي عليه السلام مرويّاً عن فولان وفولان عن فولان وذلك عن فولان أنّه سمع فولانة أنها روت حديثاً للنبي عليه السلام يذكر فيه الخلفاء الرشدين بنفس الترتيبة التي نعرفها وهي أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. المنطق يقول بأن النبي لو أنّه كان قد قال هذا الحديث حقّاً فإنّه لامحالة كان قد قاله قبل وفاته عليه السلام، وهنا ينتابني تناقض آخر بين ما أسمعه من هذا الشيخ وبين المنطق الذي أؤمن به وأتصرّف بهداه، فالرسول رحمه الله كما نعلم لم يعيّن خليفة في عهده ولم يترك وصيّة من بعده، كما أن الرسول لا يعلم الغيب بناء على قوله تعالى في القرآن:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}، فكيف برسول الله يقول حديثاً "يرتّب" فيه الخلفاء الراشدين بالكيفية التي تولّوا بها الخلافة؟. بكل تأكيد مثل هذا الإلتباس وتلك اللخبطة فيما يتلى على مسامعنا في المسجد تحتاج إلى أناس يتدبّرون ويفكّرون ويحلّلون مثل أولئك الطلبة الذين ذكرتهم لكم حتى ينتبهوا إلى أن ما يقوله لهم هذا الشيخ ينتابه الكثير من ال"بهتان" والأشياء البعيدة عن المنطق، ولكن وللأسف فإنّ أغلب الجالسين إمّا أنّهم لا يحفلون بما يقوله الشيخ فكل ينتظر إنتهاء الصلاة ليعود إلى عمله أو أنّهم يأخذون ما يقوله لهم الشيخ على أنّه من "المسلّمات" ولا يحتاجون للتفكير فيه أو محاججته بالعقل والمنطق فمثل تلك الأمور تعتبر غير مرغوبة في ثاقفتنا التي تجبرك على تقبّل ما يقال لك من قبل شيوخ الدين ولا يحق للك محاججتهم فهم "أعلم منك" وهم من سوف يرد عليك بكل سرعة " وما هو علمك حتى تتفلسف في الدين؟!".

ولمجرّد التنويه، فإنّ هذا الشيخ كانت له لحية معتبرة منذ زمان لكنّه كان يوضّبها ويهتم بها ويدهنها ابلكريمات والزيوت المعطّرة وربما كان يصبغها أيضاً فكانت تبدو لامعة وأنيقة ومتناسقة. كان هذا الكلام صحيحاً إلى أن قامت ثورات الربيع العربي وبدأ الإسلاميّون يحلمون بعودة "الخلافة الإسلاميّة" من جديد فكثر عندنا في الجامع أصحاب اللحي الطويلة الشاعثة بشكل ملفت للنظر، وبكل تأكيد بدأت لحية شيخنا تكبر وتتشعّب وتشعث وتنطلق في كل إتجاه. بالطبع ... فمن متطلّبات المهمّة ولكي يضيف الشيخ "المبجّل" إلى المشهد المزيد من القدسيّة فإنّه يحلق شاربه (حفّفوا الشوارب وأعفوا اللحي)، ويقوم بضرب جبهة رأسه بماذا لا أدري، لكنّه يأتينا براس مدموغ في جبهته {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}. ولكي أكمل لكم الصورة ينهي الشيخ خطبته الثانية بالإبتهال إلى الرب بأن ينصر المسلمين ويحرر لنا القدس وفلسطين والصومال وأفغانستان وينصر المسلمين في الفيليبين وأحياناً يضيف العراق إلى القائمة ويذكّرنا بحطّين، وبعدها يطلب من الرب بأن (يرزقنا بالإمام العادل ذو القوّة القاهرة على الكفرة الباغية) ويطلب منا بأن نقول "آمــــــــين".
أخرج بعدها من المسجد وأنا أحس بالإنقباض والحسرة والحزن على واقعنا المريض وحالنا الغير واعد... بل والميؤوس منه، خاصّة حينما أتذكّر أولئك الطلبة وهم يحلّلون كل شئ ويتدبّرون في كل جزئيّة بهدف الوصول إلى تشخيص حالة مرضيّة حتى يتمكّنوا من وصف العلاج المناسب.
بعد ذلك وأنا في طريقي إلى العيادة الخارجية أسمح لزفرة أسى عميقة وطويلة كي تخرج من صدري فتخفّف عني عناء الإحتقان والضيق، وأقلّل من الضغط المتزايد بداخلي فأختمها بالقول: إن أهل العقول في راحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك