2018/11/25

لماذا نحن متخلّفون(2)

الإعتراف بوجود الخطأ هو الخطوة الأولى نحو تغييره، ومن يعترف بخطأه سوف يجد الشجاعة ويمتلك القدرة على إصلاحه ومن ثمّ رسم معالم جديدة للغد تكون معاول تنفيذها بأيدي وقدرات من يعترف بأخطائه ويؤمن بوجوب إصلاحها.
الحلقات السابقة: الحلقة الأولى
(الحلقة الثانية)
محاربة رجال الدين للعلماء والمبدعين

الصراع بين رجال الدين ورجال العلم والمعرفة هو صراع أزلي وسوف يبقى إلى أن يخلف الله الأرض ومن عليها. إن هذا الصراع هو في حقيقته وواقعه ليس بين الدين والعلم، وإنّما هو يعكس طريقة تفكير رجال الدين والكيفيّة التي يفسّرون بها دين الله. هذا الصراع هو لم يكن صراعاً بين الوجوديّة والدينيّة وإنّما هو صراع أشخاص غير قادرين على إستيعاب حركيّة(ديناميّة) الحياة وبين أولئك الذين يؤمنون بالتغيير ويعرفون بأنّهم يقدرون على إحداثه. 
أنا هنا لا أقصد ديانة بنوعها أو تديّن معين وإنّما أشمل فيه كل رجال الدين وعبر العصور والأجيال، فهو ليس حكراً على شيوخ الإسلام عندنا وإنّما هو يعني شيوخ الدين في أيّ زمان وفي أيّ مكان ومن أتباع أية ديانة أو إعتقاد. فالمشكلة هي ليست في الدين ولكن في رجال الدين، فقد قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حين رفعت المصاحف في معركته مع معاوية: إن القرآن لا ينطق بنفسه وإنّما يحتاج إلى رجال، فالقرآن حمّال أوجه. وكان يقصد بأن توظيف النص الديني هو أمر يتعلّق بالبشر الذين يحملونه، فيفسّرونه على أهوائهم وإستجابة لرغبة من يحكمهم أو يسيطر عليهم.
إن من يحارب المبدعين والمفكّرين وأصحاب الرأي هو من لا يقدر على فهم الحياة من ناحية، وهم من يخاف على دين الله ويخشى الكفر والإلحاد من ناحية أخرى. فالأديان تؤكّد على حقيقة شموليّة، أبديّة وأزليّة ثابتة لاتتغيّر؛ وتلك الحقيقة تشمل كافة نواحي الوجود من الطبيعة إلى الإنسان، مروراً بقوانين الكون وقصّة خلقه ومصيره. فيما يقترح العلم على لسان العلماء(علماء الحياة) سيناريو نسبي وجزئي ومؤقّت وإفتراضي يكون في العادة نظريّاً لكنّه يخضع لعمليّات البحث والبرهنة والإثبات والرفض... وهنا حيث يأتي خوف وإرتعاب شيوخ الدين والذين يصنعون من أنفسهم قيّمين عليه ونوّاباً على الأرض لله فيه.
فالكثير من العلماء والمفكّرين يعتبرون في الواقع من الوجوديين الذين يؤمنون بالإدراك الحواسي مع البرهنة والإثبات العلمي المدروس ولا يمكنهم أن يقتنعوا بالغيبيّات أو المعجزات أو بالمسلّمات التي يتوجّب الإقتناع بها بدون الحاجة إلى إثباتها أو البرهنة عليها كوجود الله مثلاً، وكمعجزات الأنبياء، وكتلك الأحداث التي رواها لنا القرآن أو الإنجيل أو التوراة عن السابقين الذين كان بوسعهم التصرّف من خلال المعجزات كعصاة موسى وقدرات النبي سليمان على تسخير الجن وقدرات المسيح عيسى على إشفاء المرض وإحياء الموتى. يعتقد الكثير من علماء الحياة وحتّى المؤمنين بالأديان منهم أن شيوخ(رعاة) الأديان السماوية الثلاثة يشتركون في حدس داخلي مشترك فيما بينهم يدفع إلى التوجّس من إستخدام العقل والذكاء بدون روادع وفي وجود حريّة التفكير والإعتقاد على إعتبار أن كل ذلك قد يؤدّي إلى إنكار الوجود الإلهي وذلك حسب تفكير شيوخ الدين قد يؤدّي إلى غضب الله وخسف الأرض عليهم. 
من ناحية أخرى قد يشعر العلماء والمفكّرون وأصحاب النظريات الوجوديّة بأنّ الطاعة العمياء لكائن "خرافي" وغير مرئي ولا وسيلة للبرهنة على وجوده العملي من خلال الطرق العلميّة والمختبريّة المعروفة قد يكون الإيمان بذلك الرب أو الإله هو من إبتكارات وإختلاق الأوّلين. أو كما قال الفيلسوف الألماني نيتشه: إن مفهوم "الله" كان قد تم إختلاقه كمعادل أو مضاد لأطروحة الحياة. ومن خلال هذا التفكير يقول بعض الوجوديين أنّه ليس من الصدفة خروج الأديان السماوية الثلاثة من نفس المنطقة ومن صلب الصحراء العربية ومن مناطق الرمال والعطش كمكّة والمدينة والقدس وبيت لحم والناصرة حيث تعيش القبائل في حالة من التقشّف والحرمان تحلم بالفراديس والمياه الوفيرة الباردة والمنعشة والهواء المعطّر بديلاً عن غبار الصحراء وأنهار الحليب واللبن والخمرة والحوريّات الجميلات وأسرّة الحرير والحدائق الغنّاءة... وهي نفس الأشياء التي وعد بها الأنبياء الثلاثة موسى وعيسى ومحمد أتباعهم أثناء الدعوة لدين الله الذي تحدّثوا عنه وقالوا بأنّه "هو" من أرسلهم إلى أقوامهم وأمرهم بما يقولون ويفعلون.
وكما ذكرت أعلاه فإنّ محاربة العلماء ورجال الفكر ليست هي خاصيّة يهوديّة أو مسيحيّة ولا هي حكراً إسلاميّاً، بل إن رجال الدين عبر العصور كانوا دوماً يرتابون من العلماء والمفكّرين وأصحاب النظريّات الوجوديّة بسبب خوف رجال الدين من عجز أولئك عن البرهنة على وجود الله ومن ثمّ إنكار وجوده من حيث الأساس. كذلك فإن رجال الدين وعبر العصور هم يؤمنون بمسلّمات لا يعتقدون بإمكانيّة البرهنة عليها على أساس أنّها من "علوم الرب" ويجب الإيمان بها بدون نقاش وبدون بحث وبدون الإضطرار للبرهنة عليها من خلال علوم البشر مهما تعمّقت ومهما بلغت من الحداثة والتحديث كما نشهده الآن في حياتنا العصريّة.
أنا أعرف بوجود صراع وعبر العصور بين الحكّام وبين رجال الدين، وأعرف بوجود الكثير من التعاون بين رجال الدين والحكّام وكان الهدف الوحيد دائماً من مثل ذلك التعاون هو تمكين الطرفين من الحكم أو فرض الإرادة. وأعرف كذلك الكثير من مهادنة شيوخ الدين للحكّام من أجل الحفاظ على النفوذ، وأعرف تنازل الحكّام الطغاة لرجال الدين بهدف ضمان البقاء في الحكم من خلال الضحك على الرعيّة من كلا الطرفين. شهدت ذلك كل الأمم وعبر كل العصور، ولنا في أوربا في العصور الوسطى حيث كانت هناك دائماً 
تحالفات بين الملوك ورجال الكنيسة. هناك الكثير من الأمثلة الحيّة على إستغلال الدين في السياسة والسياسة في الدين في الإسلام ومنذ أيّام الخلفاء الراشدين وحتى يومنا هذا... والسعوديّة تعتبر المثال الأروع بالنسبة لعالم اليوم.
كذلك فأنا أعرف بأن شيوخ الدين كانوا قد قتلوا علماء وكفّروهم وهجّروهم من بلدانهمم ومنعوا كتبهم وكتبابتهم من التداول، لكننّي لا أعرف إطلاقاً بأن علماء حياة كانوا قد فعلوا نفس الشئ بشيوخ الدين. كذلك فأنا أعرف بأن رجال الدين يقحمون أنفسهم في كل شئ ويفرضون أفكارهم نظريّاتهم على كل الناس وكل من يخالفهم يعتبرونه مخالفاً لأمر الله، لكن لا يمكن لعالم أو مفكّر أو باحث أن يفرض رأيه على الآخرين أو أنّه يتدخّل في شئونهم الخاصة أو أنه يقحم الله في علومه وأبحاثه ونظريّاته.
أنا أعرف بأن رجال الدين يتدخّلون في كل شئ بدءاً من مؤسّسات الدولة وإنتهاء بالأفراد في بيوتهم وفي خصوصيّاتهم، وأعرف رجال دين ذبحوا وقتلوا وعذّبوا مثّلوا بجثث قتلاهم لكن لا يمكن لباحث أو عالم أو مفكّر أو فيلسوف أن يفعل ذلك. أنا أعرف بأن رجال الدين كانوا في السابق وفي الحاضر قد هدّموا معالم في بلدانهم ومثالنا في ليبيا وفي العراق وسوريا، لكن رجال العلم لا يفعلوا ذلك إطلاقاً مهما إختلفوا مع ما يجري في البلد أو مهما إختلفوا مع طريقة تفكير الناس. أنا أعرف بأن رجال الدين يفرضون أرائهم وطرق تفكيرهم على الناس وعلى شئون الدولة من خلال فتاويهم الفرديّة أو عن طريق دور الإفتاء التي لا تستطيع أية دولة إسلاميّة أن تحكم أو تسيّر شئون الناس بدونها، ويشترط رجال الدين أن تقتصر العضويّة عليهم وحدهم وأن تكون الفتاوي حصريّاً نابعة من عندهم بدون حتّى مجرّد التفكير في أخذ اراء العلماء والمفكّرين حتى وإن كان الأمر يتعلّق بقضايا تقنيّة أو فنيّة أو تعليميّة أو صحيّة أو أكاديميّة.
وحتّى لا أتشعّب كثيراً في هذا الشأن أطرح هنا أمثلة لمحاربة رجال الدين للعلم والعلماء، وحيث أنّني لم أعثر على أية معلومات عن محاربة رجال الدين اليهود للعلماء أو للعلم فإنّني سوف أقصر ما أشير إليه هنا على شيوخ المسيحيّة وشيوخ الإسلام، وأبتدئ بشيوخ المسيحيّة:
خلال القرون الوسطى كانت القوى المؤثّرة على الصعيد السياسي في المجتمع الغربي هي النبلاء ورجال الدين والملوك، وقد نتج عن ذلك في الكثير من الأحيان صراعات بينهم. والجدير بالذكر هنا هو أن سلطة الباباوات كانت قويّة بما يكفي لتحدّي سلطة الملوك مستغلّين في ذلك مناصرة عموم الشعب لهم لأنّهم كانوا يستغلّون الدين في شراء الولاءات. 
الذي يجب التنويه إليه وعدم تجاهله من باب الإنصاف، فإنّ الكنيسة الكاثوليكيّة في بداية إنتشارها في أوروبا كانت معنيّة بالتعليم، فقد شهدت على ولود أولى الجامعات في أوروبا مثل جامعات مونبلييه وأوكسفورد ومودينا وبلنسية وكامبريدج وغيرها من الجامعات الأخرى في العصور الوسطى، إلّا أن تلك الجامعات بدأت كلّها أو أغلبها كمدارس كاثيدرائية أو رهبانيّة، وشغل نسبة كبيرة من رجال الدين والرهبان المسيحيين مناصب فيها كآساتذة ومعلّمين وكانت أغلب موادها التي تدرّس تخضع لرقابة وسلطة الكنيسة ممّا خلق الكثير من الخصومات بين رجال الدين والملوك، وكذلك بين الكثير من العلماء ورجال الدين. 
ومن المؤكّد وبكل الشواهد، فإن جناية رجال الدين الأوروبيين على الحقيقة كانت أشنع وأشد وأشمل من جناية أنصار العلم عليها، وإن كان كل منهما قد يعتبر من باب الإنصاف مسئولاً عن النتائج المؤسفة لذلك الصراع. الكنيسة في هذا المضمار كانت قد إرتكبت خطأين فادحين في آن واحد: 
أولاهما: تحريف حقائق الوحي الإلهي وخلطها بكلام البشر. 
ثانيهما: فرض الوصاية "الطغيان" على كل ما هو ليس داخلاً في دائرة إختصاصاتها. 
فالخطأ الأوّل بالنتيجة كان مسئولاً عن تسرّب الخرافات المتوارثة من تعاليم الوثنيّة حيث سمحت الكنيسة بتسرّبها بل إنّها جعلتها ضمن العقائد الإلهية التي تدخل في صلب الإيمان الكاثوليكي وهددت الناس بأن عدم الإيمان بها يعتبر كفراً بالمعتقد الديني. أمّا الخطأ الثاني فقد نشأ عن ضيق صدر الكنيسة بما يخالف تعاليمها الممزوجة وإصرارها الأعمى على التشبث بها وفرضها على الناس. ونتيجة لذلك فقد كان الإمتداد الطبيعي للطغيان الديني طغياناً فكرياً عاماً، ومن ثمّ فقد حاسبت الكنيسة الناس لا على معتقدات قلوبهم فحسب، وإنّما كذلك على نتائج تفكيرهم وبنات أفكارهم، وتوهّمت الكنيسة حينها بأنّه في مقدورها أن تملك ما لا تستطيع أية قوة طاغية أخرى أن تملكه وتحتكره، وهو الحقيقة العلمية فيما يتعلق بالتجربة المحسوسة أو النظر العقلاني السليم؛ وبذلك أقحمت الكنيسة نفسها في متاهات كانت غنية عنها وأثارت بذلك على نفسها حروباً كانت قاسية في معظم الأحيان وهي من جنت أثارها السلبيّة فيما بعد.
إن أكثر أصحاب الوظائف العلمية حتى في أوج العصور الوسطى كانوا ينتمون إلى نوع من أنواع التنظيمات الكنسيّة، حيث أن الكنيسة كانت تتدخّل في كل لون من ألوان النشاط البشري وبخاصة النشاطات العقليّة. ومن هنا يمكن القول بأنّ الرجال الذين يتلقون تعليمهم في الكنيسة كانوا يحتكرون الحياة الآكاديميّة ، فكانت الكنيسة هي منصّة المحاضرة والصحافة والنشر والمكتبة والمدرسة والكليّة ومعامل الأبحاث، وكان كل ذلك يتم بإشراف وتحكّم رجال الدين من القساوسة والباباوات. ومن هنا، فقد كانت معلومات الكنيسة الطبية تعتبر أفضل وأنجح الوسائل العلاجية في نظرها كإقامة الطقوس لطرد الشياطين التي تجلب المرض، ورسم إشارة لصليب لجلب الشفاء الإلهي، ووضع صور العذراء والقديسين تحت رأس المريض من باب التبرّك ليشفى(لاحظوا ما يفعله شيوخ ديننا بالمقارنة !!).
إنّ إختراع المطبعة على يدي غوتنبرغ في عام 1440 كان قد أثار قلق الكنيسة ذلك لأنّه حينها كان بثّ المعرفة والعلوم المدوّنة تحت السيطرة الكاملة للكنيسة، لكنّه بإختراع المطبعة لم يعد كذلك مما أفقد الكنيسة سلطة كانت تحتكرها وتمارس من خلالها تعاملها مع الرعيّة. ونتيجة لإختراع المطبعة، دخل الكتاب في ميدان التجارة والتداول العام، وإنكسر بذلك إحتكار رجال الدين للمعرفة وبات ممكناً للناس دراسة النصوص من مصادرها الأصليّة، وكان ذلك بكل تأكيد يشمل النصوص الفلسفية الإغريقية وتفسيراتها من قبل طبقة جديدة من المفكّرين الحداثى دون الحاجة إلى وساطة الكنيسة بين الله والشعب.
كانت الخطوة الموالية في التفكير الكنسي عندما إصطدم ذلك بإرادة رواد تمرّدوا على المسلّمات (الدوغما) الدينية الكنسيّة، وبات على رجال الكنيسة التعامل مع أفكار ونظريات تجديديّة غير متعوّدين على مثلها وبات عليهم البحث عن الردود المقنعة عليها من باب أنّها "مستلهمة" من النصوص المقدسة ولا تتعارض مع بديهيّاتها، كبديهيّة "مركزية الأرض" للكون وعلى أنّ الأرض مسطّحة. وكانت أولى بوادر الثورة على الموروث المقدس على يد نيكولا كوبيرنيكوس المثقف البولوني المتنوّر والجريء الذي كان يعيش في وسط رجال الدين بعد ثلاثة عشر قرناً من عصر آريستارك الفيلسوف العالم. تجرّأ كوبرنيكوس على وضع الشمس وسط نظام شمسي عادي لايختلف عن غيره من مليارات الأنظمة الشمسية الأخرى والأرض تدور دورة مزدوجة على نفسها وحول الشمس فأثار ذلك حفيظة رجال الدين وإعتبروه تحدّياً لسلطتهم وعلومهم الربّانية مما حدا بهم لملاحقة كوبرنيكوس ومعاقبته بحجب كتاباته ومنع الناس من تداولها بحجّة أنّها "محرّمة".
وفي 22 يونيو 1633، أقتيد العالم الشهير غاليليو غاليله، الذي كان يبلغ من العمر تسعة وستون عاماً، بجلبابه الأبيض كمتهم بالهرطقة والخروج على نصوص ونظريات الدين المسيحي وتعاليم الكنيسة الكاثوليكية، في أسوأ فترة من تاريخ المسيحية - وهي فترة محاكم التفتيش - أمام محكمة للإستماع إلى الحكم الصادر بحقّه بموافقة صديقه السابق البابا يوربان الثامن وبدون حق المناقشة والرد والدفاع عن النفس بل الإعتراف بالذنب والقبول بالحكم صاغراً في روما مقر البابوية، وبعد إعتقاله وسجنه لمدة ستة أشهر قبل نطق الحكم ضده، أمرته المحكمة بالتوبة والتراجع عن أفكاره ونظرياته العلمية الثورية في الكون والتنكر لها والعودة إلى نصوص الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد بخصوص هذه المسألة لكنه أبى أن يفعل ذلك فنال عقابه من الكنيسة.
ثم جاء بعد ذلك دور إسحق نيوتن الذي ولد في نفس العام الذي توفي فيه غاليليوغاليليه. ترسّخت فكرة كرويّة الأرض تدريجياً في أوساط البروتستانت أولاً ثم تبنّاها بعض الكاثوليك مثل ديكارت وباسكال. وفي عام 1660 تبنّى أغلب العلماء الموهوبين وأيّدوا نظريّة كرويّة الأرض في حين منعت الكنيسة الكاثولكية وحرّمت قراءة مؤلفات ديكارت وباسكال. وفي هذه الأجواء قدّم نيوتن دفعاً جديداً في مجال الميكانيكا الفضائيّة، وشرح  رياضيّاً حركة الكواكب وتجاذبها بدقة كدقة الساعة ولذلك سمّاها الساعة الكواكبية ومن ثمّ فقد نشأ نظام نيوتن الكوني الذي لم يلق تقبلّاً وحماسة من جانب السلطات الكنسية والدينية رغم إشارته إلى يد الله الصانعة والمصمّمة لهذه الدقّة الكونية والنظام الكوني المنظّم له. وكان قد حورب وبشدّة من قبل شيوخ الكاثوليكيّة لاسيما في فرنسا، بينما دافع عنه المفكّر والفيلسوف الفرنسي فولتير الذي تحدّى الكنيسة بالعلم.
تلك كانت مجرّد أمثلة قليلة من محاربة رجال الدين المسيحيين للعلم والعلماء، غير أن شيوخ ديننا الإسلامي لم يكونوا مختلفين كثيراً عن شيوخ المسيحيّة بل يمكن القول وبكل سهولة بأن رجال ديننا كانوا أكثرة قسوة وتكفيراً للعلماء والمتعلّمين وأصحاب النظريّات الفلسفيّة من رجال الكنيسة.
ففي العالم الإسلامي والعربي تم إصدار الكثير من الأحكام التكفيريّة بقرارات ونصوص من قبل شيوخ الدين ودور الإفتاء في العالم الإسلامي كانت متطابقة بالشكل والمضمون مع قرارات محاكم التفتيش التي كفّرت غاليلو وجيوردا ونويرنو وكوبرنيكس ونيوتن وديكارت وفولتير، وغيرهم؛ فحرّمت قراءة كتبهم، وبالغت في مطاردتهم وتعذيبهم والتنكيل بهم. فلا فرق هنا بين تلك الأحكام التعسّفية الجائرة بحق العلماء والمفكّرين المسيحيين، وبين الأحكام الإرتجاليّة المتطرفة التي أصدرها شيوخ الإسلام ومفاتيهم، والتي ضلّلت الناس وحرّضتهم على قتل الطبري، وصلب الحلاج، وحبس المعري، وسفك دم جابر بن حيّان، ونفي إبن المنمّر، وحرق كتب الغزالي وإبن رشد والأصفهاني، وتكفير الفارابي والرازي وإبن سيناء والكندي والغزالي، وكذلك السهروردي الذي تمّ قتله، وإنّهم في غابر الزمان كانوا قد قطعوا أوصال إبن المقفّع، وأن الجعد بن درهم مات مذبوحا، وعلّقوا رأس أحمد بن نصر وداروا به في الأزقّة، وخنقوا لسان الدين بن الخطيب ثم حرقوا جثّته، وكفّروا إبن الفارض ثم طاردوه في كل مكان حلّ به.
هذه قائمة للبعض الذين تمّت محاربتهم على أفكارهم من قوم هم من جلدتهم ونفس معتقدهم... من مسلمين أمثالهم:

في الزمن الحاضر
  1. نجيب محفوظ: على الرغم من كونه العربي الوحيد الذي ظفر بجائزة نوبل للآداب، إلا إن الروائي المصري نجيب محفوظ الذي نقل بيئته المحلية إلى العالمية تعرض لمحاولات إغتيال عدة، أبرزها كان في عام 1994 عندما طعن بسكين في رقبته على يد مسلم شاب متطرف، قرر النيل منه بعد اتهامه بالكفر والخروج عن الملة والتطاول على الذات الإلهية بسبب روايته "أولاد حارتنا"، التي منعت من النشر في مصر لسنوات طويلة، بتعليمات من الأزهر. خلال التحقيقات، اعترف المتطرف الذي أقدم على طعن محفوظ بأنه لم يقرأ شيئاً من الرواية التي ارتكب جريمته بسببها، وحكمت عليه السلطات بالإعدام هو وشاب آخر اشترك معه في محاولة الاغتيال. 
  2. نصر أبو زيد: ولد المفكر والكاتب المصري نصر أبو زيد عام 1946 وتوفي عام 2010. وكان قد صدر بحقه حكماً منتصف تسعينيات القرن الماضي يقضي بتطليقه من زوجته بعد أن أعتبر مرتدّاً عن الإسلام بسبب تفكيره وكتاباته في الفكر الإسلامي. إثر صدور الحكم، لجأ أبو زيد مع زوجته إلى هولندا، ثم عاد إلى مصر قبيل وفاته بفترة وجيزة، حيث كان مصاباً بفيروس أدخله في غيبوبة، ولم يتمكن الأطباء من تحديد طريقة علاج
  3. فرج فودة: ولد الكاتب والمفكر المصري فرج فودة عام 1945 وتم اغتياله عام 1992 على يد كل من أشرف سعيد إبراهيم وعبد الشافي أحمد رمضان، حيث أطلقا عليه النار عندما كان يستقل سيارته بعد خروجه من مكتبه في شارع أسماء فهمي الواقع شرقي القاهرة، بذريعة كتاباته التي تحمل بقوة على الفكر الإسلامي المتطرف. وقبيل اغتياله بفترة وجيزة، كان الأزهر قد أصدر بياناً، اتهم فيه فودة بالكفر وحرّض على قتله، وتداوله أنصار الجماعات الإسلامية فيما بينهم. خلال التحقيقات، اعترف عبد الشافي رمضان أن شخصاً يدعى أبو العلا عبد ربه كان قد زوده بالسلاح وحدد له الموعد وخطة التنفيذ. وأصدرت المحكمة آنذاك حكماً بإعدام من نفذا عملية القتل، والسجن المؤبد لعبد ربه، العقل المدبر للاغتيال.
  4. ناهض حتّر: ولد الكاتب والصحافي الأردني ناهض حتر عام 1960 وتم إغتياله عام 2016 بثلاث رصاصات أردته قتيلاً على باب محكمة قصر العدل الواقعة في قلب العاصمة الأردنية عمّان، عندما كان متجهاً لحضور جلسة محاكمته بتهمة إثارة "النعرات المذهبية" و"إهانة المعتقد الديني"، على خلفية رسم ساخر كان قد شاركه عبر حسابه الخاص على موقع فيسبوك، ينتقد به الفكر "الداعشي". وقبيل عملية الاغتيال، أصدرت جماعة الإخوان المسلمين بياناً دعت فيه إلى اتخاذ أقصى العقوبات بحق حتر الملتزم بالفكر القومي العربي، وذلك بسبب المنشور الذي قام بمشاركته.
  5. طه حسين: في عام 1926 تم تكفير الأديب العربي طه حسين بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي"، واتهم بالتعدي على الدين، إلّا أن المحكمة برأته بعد ذلك. 
  6. محمّد عبد الوهّاب: أتهم الموسيقار محمد عبد الوهاب بالكفر، ورفع أحد المحاميين السلفيين دعوى ضده تطالب بالتفريق ما بينه وبين زوجته، وذلك بسبب أغنية "من غير ليه"، و"لست أدري"، حيث رأى من كفّروه آنذاك فيهما إنكاراً لوجود الله. 
في الزمن القديم
  1. جابر بن حيان (721-815م): أحد العلماء المسلمين العباقرة الملقب بـ"أبي الكيمياء" لأنه من أوائل من إستخدم الكيمياء بشكلٍ عملي في التاريخ، وله أيضاً العديد من المساهمات في مختلف فروع العلوم، مثل المسيقى، والفلك، والطبّ، والأحياء، والهندسة، والنحو، والمنطق، والصيدلة. من أبرز إنجازاته تعريف تركيب ماء الذهب، وملح النشادر، والبوتاس، إعتمد التجربة في الكيمياء أساساً لأبحاثه التي تتوخّى الدقّة، وأقبل على تكرير المعادن، وصبغ الأقمشة، ودبغ الجلود، وتحضير الفولاذ، وإستخدام ثاني أكسيد المنغنيز في صنع الزجاج، كما إكتشف حمض النتريك، وحمض الهيدروكلوريك، وحمض الكبريتيك، ووضع أوّل طريقة للتقطير في العالم، غير أن كل ذلك لم يمنع إبن تيميّة من إلحاقه بقائمة العلماء المتّهمين بالزندقة والكفر والإلحاد ذلك بسبب إشتغاله بعلم الكيمياء الذي يحرّمه إبن تيميّة، الذي يقول في كتابه الفتاوى: "حقيقة الكيمياء إنما هي تشبيه المخلوق وهو باطل في العقل والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله... فهو سبحانه لم يخلق شيئاً يقدر العباد أن يصنعوا مثل ما خلق". 
  2. عباس بن فرناس (810-887م): مخترع موسوعي مسلم عاش في زمن الدولة الأموية بالأندلس، وبرغم أن سبب شهرته محاولته الجريئة للطيران بالقرب من قصر الرُصافة بقرطبة، إلا أنّه برع في العديد من المجالات خاصة الفلسفة والكيمياء والفلك وعلم الحيل (الميكانيك)، إضافة إلى مهارته في الموسيقى وعزف العود، له مجموعة من الابتكارات والاختراعات، منها: تصنيع الزجاج الشفاف من الحجارة، أول قلم حبر في التاريخ، الساعة المائية (الميقاتة)، بناء غرفة تحاكي السماء، واعترافاً بفضله سُميّت فوهة قمرية باسمه، وأصدرت إسبانيا طابعاً بريدياً العام 2001 يحمل صورته وإسمه. ثار عليه جهلاء العامة وبعض الفقهاء وأتّهم بالكفر والزندقة وإتيان الخوارق الشيطانية، وشكوه إلى قاضي قرطبة سليمان بن أسود الغافقي، لتعقد له محاكمة حاشدة بالمسجد الجامع، ولحسن حظه انتهت بتبرئته لما كان في الاتهامات من مبالغات وجهل. 
  3. الفارابي (874 – 950م): يلقب بـ"المعلّم الثاني" بعد "المعلّم الأوّل" أرسطو، له مصنّفات كثيرة في الفلسفة والطب والموسيقى والسياسة والاجتماع والمنطق والعلوم، قال عنه إبن القيّم في "إغاثة اللهفان": "والمقصود أن الملاحدة درجت على أثر هذا المعلّم الأوّل، حتى إنتهت نوبتهم إلى معلّمهم الثاني أبي نصر الفارابي.. وكان على طريقة سلفه في الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر". 
  4. أبو العلاء المعري (973 – 1057م): شاعر وفيلسوف ولغوي وأديب عربي من عصر الدولة العباسية، عُرف بسعة علمه ومعرفته وغزارة إنتاجه ومنهجه الجامع بين الفلسفة والأدب، ترك العديد من الكتب الأدبية الممتعة التي أثرت المكتبة العربية، أهمها "رسالة الغفران"، ورغم ذلك فإن التكفير كان مصيره المحتوم؛ إذ يقول عنه ابن الجوزي: "وأما أبو العلاء المعرّي فأشعاره ظاهرة الإلحاد وكان يبالغ في عداوة الأنبياء"، ويقول عنه ابن القيّم: "وممن كان على هذا المذهب، أي الامتناع عن أكل الحيوان، أعمى البصر والبصيرة كلب معرّة النعمان المكنى بأبي العلاء المعري، فإنه إمتنع من أكل الحيوان زعماً لظلمه بالإيلام والذبح". 
  5. إبن سينا (980-1037م): فيلسوف وعالم وطبيب معروف باسم "الشيخ الرئيس"، برع في علم الفلك وعلم الأحياء والمنطق.. ألّف قرابة مائتي كتاب أغلبها في الفلسفة. كفّره علماء دين كثيرون، قال عنه إبن القيّم الجوزية في "إغاثة اللهفان": "إنّه إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر". وقال عنه الكشميري في "فيض الباري": "ابن سيناء الملحد الزنديق"، وقال عنه الشيخ المعاصر صالح الفوزان: "إنه باطني من الباطنية، وفيلسوف ملحد".
  6. إبن رشد الحفيد (1126-1198م): من أبرز الفلاسفة المسلمين، حاول التدليل على أنه لا تعارض بين الفلسفة والشريعة، عرف بكتبه المهمة التي تنتصر للعقل، يقول عنه ناصر الفهد في كتابه "حقيقة الحضارة": غيلسوف، ضال، ملحد، يقول بأنّ الأنبياء يخيلون للناس خلاف الواقع، ويقول بقدم العالم وينكر البعث، وحاول التوفيق بين الشريعة وفلسفة أرسطو في كتابيه "فصل المقال" و"مناهج الأدلّة"، وهو في موافقته لأرسطو وتعظيمه له ولشيعته أعظم من موافقة ابن سينا وتعظيمه له، وقد إنتصر للفلاسفة الملاحدة في "تهافت التهافت"، ويعتبر من باطنية الفلاسفة، وإلحادياته مشهورة". 
  7. إبن المقفّع : أتّهم بالزندقة و قتل بعدها على يد سفيان بن معاوية حيث قام بصلبه و تقطيع لحمه قطعة قطعة و شيها في النار أمام ناظريه حتى مات .
تلك كانت فقط بعض الأمثلة، لكن عداء رجال الدين للعلماء والمتعلّمين ظلّ دائماً يطاردهم ويحد من إبداعاتهم ذلك لأن رجال الدين لم صل خيالاتهم وطرق تفكيرهم إلى مستويات أولئك العلماء والمفكّرين فإتّهموهم بالكفر والخروج عن حدود الله، وبذلك حاربوا وألّبوا العموم من الناس عليهم. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك