تمرّ بنا اليوم الذكرى ال48 لثورة الأوّل من سبتمبر 1969 التي خلّصت ليبيا من نظام ملكي كان متعفّناً وفاسداً ومترهّلاً، وكان يعتمد في حماية نظام حكمه على قوى خارجيّة من خلال قواعد أجنبيّة كانت تدنّس التراب الليبي وكان هو من حرص على إبقائها على التراب الليبي بالرغم من معارضة العديد من أعضاء مجلس النوّاب الذين تم أقصاءهم، وبالرغم من معارضة حزب المؤتمر الوطني الشديدة برئاسة الزعيم الوطني بشير السعداوي رحمه الله، والتي أدّت بالملك لأن يلغي كل الأحزاب الوطنية ويلغي الديموقراطيّة الوليدة في ليبيا حينها.الحديث عن النظام الملكي بهكذا "سلبيّة" لا يلغي إيجابيّاته والتي ربّما من بينها توحيد البلاد التي كانت متشرذمة حينها، والتي كانت تتصارع فيها القوى الوطنيّة والقبائل والطبقات من أجل فرض السيادة أو الإنسلاخ عن الوطن. كذلك فإن الملك وحكومته تمكّنوا من العبور بليبيا من فترة الإحتلال إلى مرحلة الإستقلال والتي كان من بينها بناء أسس الدولة ولو بشكل صوري، وتوفير الخدمات للمواطنين بما أتاحت به الظروف حينها. كانت موارد ليبيا الطبيعيّة شحيحة في فترة الخمسينات كما نعرف، لكن برغم إكتشاف النفط في أوائل الستينات والبدء في تصديره إلّا أن الفساد الإداري وسوء إستعمال السلطة منعا البلاد من التقدّم بما يتناسب مع مقدّراتها الطبيعية خاصّة وأن عدد سكان ليبيا كان صغيراً. كانت ليبيا لازالت حتى نهاية الستينات تعتبر دولة "بدويّة" وغير متحضّرة، والذين كانوا يقيمون في العاصمة حينها يعرفون ما عنيت. المهم في الأمر هنا هو أن لكل نظام حكم عيوبه وله ميزاته وعلينا بأن نتحدّث عن الإثنتين معاً من باب الإنصاف.
أنا أعرف بأن الكثيرين ممن سوف يقرأون هذا الكلام قد يغضبون، ولكن حينما أتحدّث عن الواقع أنا لا أخشى أحداً، ومن يقدر أن يبرهن على أنّه كان أكثر عدائيّة لنظام الطاغية القذّافي منّي طيلة سنوات حكمه الطويلة فليبرهن على ذلك. أنا فقط أريد أن أكون منصفاً وأن أكون صادقاً مع ليبيا ولا تهمّني الأشخاص مهما تم تقديسها أو نعتها بما لذ وطاب من الصفات والألقاب.
علينا أن نتذكّر جميعاً بأنّ ثورة الأوّل من سبتمبر لم تكن ثورة القذّافي ولم تكن ملكه، وإنّما هي كانت ثورة ضبّاط شرفاء من أبناء الشعب الليبي ومن كل أنحاء ليبيا الحبيبة. كانت ثورة 1 سبمتمبر 1969 هي ثورة الجيش الوطني الليبي الحقيقي الذي رأى الفساد فلم يطقه، وشعر بأن التراب الليبي كان مدنّساً من قبل الوجود الإنجليزي والأمريكي والطلياني أيضاً، وكان القرار الليبي يصنع خارج ليبيا ومشاريعها كلها تأتيها جاهزة من خارج حدودها. الثورة قام بها الشرفاء من صغار الضبّاط في الجيش الليبي وكانوا يمثّلون كل مناطق ليبيا وكل تنوّعاتها العرقية والثقافية وبذلك فإنّها كانت ثورة للجيش الوطني الليبي بكل المعايير.
الثورة أيضاً سرعان ما تحوّلت من إنقلاب عسكري إلى ثورة شعبيّة عارمة حيث وفي أقل من يومين خرجت جموع الشعب الليبي برجالها ونسائها مؤيّدة للإنقلاب العسكري حتى قبل أن تعرف أسماء الضبّاط الذين قاموا به، ولم يكن حينها إسم معمر القذّافي وارداً على الإطلاق. لقد ذكر العقيد معمر القذّافي كقائد لذلك الإنقلاب العسكري بعد ثمانية أيّام من حدوثه، وفي تلك الأثناء كانت شوارع وميادين ليبيا تغص بجماهير الشعب الليبي المؤيّدة والفرحة بالثورة والتخلّص من النظام الملكي. ثورة 1 سبتمبر 1969 لم يقم بها معمّر القذّافي وإنّما قام بها ضبّاط الجيش الليبي، وإستيلاء القذّافي عليها كان تحديداً مثل إستيلاء التنظيمات الدينيّة على ثورة 17 فبراير 2011 بعد أن قام بها شباب وشابّات ليبيا بدون علم تلك التنظيمات التي كان أفرادها إما قابعين في حفر تورا بورا أو في بلاليع العراق والصومال أو يتنعّمون بالمعونة الإجتماعية في بريطانيا... ويجب ألّا ننسى أولئك الذين إشتروا حرّيتهم من سجن أبوسليم بإصدار تلك "التصحيحات" والإعتذار للقذّافي ثم إعتباره "ولي الأمر" الذي تتوجّب طاعته وعدم الخروج عليه، وكان بيان الشيخ الصادق الغرياني في ديسمبر 2010 بوجوب طاعة ولي الأمر(القذّافي) وتحريم الخروج عليه بإعتبار ذلك مخالفاً لأمر الله خير دليل على ما أقول.
كذلك يجب التذكير هنا بأن ثورة 1 سبتمبر 1969 لم تكن ثورة هدّامة على الإطلاق وخاصّة في سنواتها الخمس الأولى حينما كانت لازالت تحت رعاية مجلس قيادة الثورة، إذ تمكّنت تلك الثورة الوطنية في تلك الفترة القصيرة من تحقيق الآتي:
- إجلاء القواعد البريطانيّة.
- إجلاء القواعد الأمريكيّة.
- إجلاء المستطوطنين الطليان.
- تأميم شركات النفط وإخضاعها لأوّل مرة للسلطات الوطنية.
- الإهتمام بالزراعة والتعليم والصحّة والطرق، ومن يشك في ذلك فليتذكّر كيف كانت ليبيا قبل 1969 وكيف أصبحت في خلال 5 سنوات فقط.
وبالرغم من أن معمر القذّافي تحوّل من إنسان وطني وصادق إلى منتهز ومستغل لتلك الثورة منذ بدايات 1973 وبوضوح منذ عام 1976، إلّا أنّه لم يكن كلّه وبالاً على ليبيا. لقد حقّق القذّافي الكثير من المنجزات لليبيا وعلينا بأن نعترف بذلك حتى وإن كنّا نكرهه. علينا أن نتذكّر الآتي وأن نكون منصفين وأن نرى كل ما تحقّق على الأرض الليبيّة بقى في ليبيا ولم يذهب مع ذهاب الطاغية القذّافي بعد أن أصبح طاغية بسبب أنانيّته وضيق أفقه:
- كان عدد الجامعات في ليبيا جامعتين وواحدة دينية قبل 1969، ووصل عدد الجامعات إلى 13 جامعة منها إثنتين تتبعان القطاع الخاص.
- كان لليبيا إحترام العالم لها وكانت الأرض الليبيّة لها حرمتها ولها قدسيّتها ولم تكن حدود ليبيا مباحة لكل من هبّ ودب كما أصبحت اليوم وللأسف والحرقة.
- لو أننا تجاهلنا كل شئ تم تحقيقه على الأرض الليبية، فعلينا تذكّر النهر الصناعي الذي كان وبصدق أعظم شئ تحقّق في ليبيا منذ إنشائها، والعطاشى الذين يبحثون عن مياه الشرب اليوم كلّهم ينادون بتشغيل منظومات النهر الصناعي حتى تصلهم المياه إلى بيوتهم.
- لا أريد هنا أن أتحدّث عن مصنع أبوكمّاش للكيماويّات ومصنع الحديد والصلب بمصراته، ومصافي النفط ومحطّات توليد الطاقة الكهربائيّة في مختلف مناطق ليبيا وكيف كان الليبيّون يتمتّعون بكهرباء مستمرة، بمياه متدفّقة، بوقود لا ينفذ، وبأمن في بيوتهم وفي شوارعهم.
- لا أريد أن أتحدّث عن مشروع "ليبيا الغد" ومطار طرابلس الجديد الذي كان من الممكن أن يكون الآن في كامل تشغيله وما يعني ذلك للمعذّبين الليبيّين والليبيّات الذين يعانون اليوم بشكل لم يكن في الحسبان حين قامت ثورة الحريّة في 17 فبراير 2011.
- ليبيا كانت من بين الدول القليلة جداً في العالم التي لاتوجد عليها ديون خارجية على الإطلاق بشهادة البنك الدولي، وحينما قتل القذّافي كان قد ترك 400 مليار دولار للشعب الليبي.. قارنوا حالكم اليوم يا من تعانون من نقص في السيولة وتستلفون الآن من البنك الدولي وبشروطه القاسية.
الحديث عن بعض إنجازات القذّافي لا يعني أننا نسكت على عيوبه التي كانت تتفوّق على ميزاته، فقد إنفرد القذّافي بالسلطة منذ إعلانه لما سمّي حينها بالثورة الشعبيّة(الجماهيريّة) وبدأ بالفعل يمارس ديكتاتوريّة مقنّنة مكّن خلالها كل إنتهازي ومتسلّق من تسيير أمور البلاد، والأكثر من ذلك فرض كل أبنائه وإبنته على الليبيّين فأعاث هو وأبنائه الفساد في البلاد وأهدروا الكثير من ثروات الشعب الليبي فيما لا يعني ولا يفيد، وأدخل ليبيا في صراعات مع جيرانها كانت بلادنا في غنى عنها. أفسد القذّافي وتمادى في الفساد وتحوّل بالفعل إلى طاغية متجبّر وكان قد دفع بحمقه وأنانيّته الشعب الليبي للثورة عليه وإنهاء نظام حكمه... وبتلك تكون دوماً نهاية الطغاة.
وبغضّ النظر عن تصرّفات القذّافي فإنّه أيضاً يتوجّب عليّ هنا التنبيه إلى أن من صنع من القذّافي طاغية وحوّله إلى متغطرس كان هو ثلّة المنافقين والمداهنين والطمّاعين من أبناء وبنات هذا الشعب. الشعب الليبي هو من صنع ذلك الطاغية، وهو نفس الشعب من يعمل الآن على صنع طاغية جديد مشابه له، وهذا ربّما يرجع إلى الثقافة المتخلّفة التي نتوارثها عبر الأجيال والتي تمجّد الحاكم وتعتبره ولي الأمر الذي تتوجّب طاعته مهما فعل وربط ذلك بالإعتقاد وب"آوامر الله"!!.
يمكنني القول هنا ومن باب الإنصاف أيضاً بأنّ ثورة سبتمبر 1969 في سنواتها الخمس الأولى كانت قد حقّقت من النجاحات على كل المستويات مالم تحققه أية ثورة مشابهة لها، ولا تحدثوني هنا عن إنجازات "ثورة التكبير" في الست سنوات الماضية. رجائي من كل من يحاول إنتقاد هذا المقال أن ينظر حوله ليرى حال ليبيا اليوم بعد 6 سنوات من "ثورة التكبير".. أين كرامتكم، أين سيادتكم، أين هو إحترام العالم لكم، أين هي مقدرتكم على حكم بلدكم بأنفسكم، أين هي مستشفياتكم ومدارسكم وجامعاتكم، أين هي أموالكم، أين هي سمعتكم، أين هو أمنكم، أين هي الكهرباء والمياه والإتصالات والطرق وبقيّة الخدمات؟. نحن هنا لا نتحدّث عن السنة الأولى من قيام الثورة، فالعذر قد يكون متواجداً حينها.. نحن هنا نتحدّث عن 6 سنوات متكاملة ونحن لا نعرف من يحكم ليبيا، وماذا سيحدث في السنة القادمة، ومن ذاك الذي يحمي ثروات ليبيا من النهب والنصب والإحتيال من قبل من يحكمها؟. لماذا تلوموا الفساد في عهد الطاغية القذّافي أذا كنتم أنتم كما نعرفكم وكما نراكم وكما خبرناكم؟. رجائي أن تخجلوا من أنفسكم وأن تذهبوا... إذهبوا... إذهبوا فلعنة الله عليكم كلكم يا من تحكمون ليبيا الآن بغض النظر عن الجهة التي تتبعونها وما إذا كانت تلك الجهة شرعية أو غير شرعيّة.
إنتبهوا إلى أنفسكم يا من تحكمون ليبيا الآن ويا من تحلمون بحكم ليبيا في المستقبل، فقد تجاوز السيل الزبي ومن منكم لا يدري أحوال الناس في بلادنا فلينزل إلى الشارع ليعرف الحقيقة التي تدمي القلوب قبل أن تدمع العيون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك