2017/07/23

الذكرى السنوية لثورة الحريّة

إنّ الأشـياء المـسرّة للـنـظـر هي تلـك التي نـراهـا عـلى طـبـيـعـتـها... هـكـذا بألـوانها وكـما خـلـقـهـا الله سـبحـانه وتعـالى. إن كل مـن يـحـاول رؤيـة الحـياة بلـونـيـن(أبيض وأسود) إنّـما هـو كـمن يـقـفـل الأبـواب عـلى نـفـسه ولا يسـمـح لضـوء الشـمـس بـأن يـتـسرّب إلـيـه خـوفـاً مـنـه لا خـوفـاً عـلـيـه. 

هذا اليوم 23 يوليو 2017 يمثّل الذكرى الخامسة بعد الستيّن لثورة مصر وثورة كل العرب... ثورة يوليو 1952 المجيدة.
كانت مصر تقبع في دهاليز الظلام والتبعيّة في عهد عميل الإستعمار الملك فاروق آخر سلالة الأسرة العلويّة التي لم تعرف غير التعامل مع المستعمر والإحتماء به.
تربّى فاروق بن فؤاد مرفّهاً في بيت أبيه، وعيّن وليّاً للعهد وهو مازال طفلاً لم يبلغ العاشرة. قامت بتربيته شابّة إنجليزية إسمها "إينا تيلور" التي علّمته كل أبجديات الثقافة والإتيكيت الإنجليزي، وما إن بلغ عمر السادسة عشر حتّى إحتضنه الضبّاط الإنجليز الذين كانوا يحتلّون مصر ويحمون عرش والده، وطلبوا من والده بأن يرسله إلى بريطانيا ليتعلّم المزيد من الثقافة الإنجليزية التي سوف تتحكّم في مسيرته السياسية كملك مستقبلي لمصر.
ذهب فاروق المراهق وهو في عمر 16 سنة إلى بريطانيا، وقد رافقت الأمير فاروق خلال سفره بعثة برئاسة أحمد حسنين باشا ليكون رائداً له - والذي كان له دوراً كبيرا في حياته بعد ذلك - بالاضافة إلى عزيز المصري الذي كان نائباً لرئيس البعثة وكبيراً للمعلمين بالإضافة إلى عمر فتحي حارسا للأمير وكبير الياوران فيما بعد، وكذلك الدكتور عباس الكفراوي كطبيب خاص وصالح هاشم أستاذ اللغة العربية بالاضافة إلى حسين باشا حسني كسكرتير خاص. وقد كان وجود أحمد باشا حسنين كمرافق للأمير في رحلته عاملاً مساعداً للأمير على الانطلاق والإنفتاح ثم التفسّخ، فقد شجّعه على الذهاب إلى المسارح والسينما ومصاحبة النساء وكذلك لعب القمار.
نصّب فاروق ملكاً على مصر ولم يبلغ سن الرشد، وبذلك فقد بقى تحت الوصاية حتى بلغ عمر 18 سنة، ولم يكن لفاروق أي أثر في حكم مصر، فقد كانت الحاشية الفاسدة المحيطة بفاروق هي من يحكم مصر، بينما كان فاروق غارقاً في المجون منغمساً في الملذّات التي كان من بينها النساء والخمر والقمار. عانت مصر في عهد فاروق أتعس أيامها، وبلغت الطبقية مبلغها وشعر أغلب المصريون بأنّهم كانوا مهمّشون في بلادهم وبأن خيرات بلادهم كانت تذهب إلى قصر الملك وحاشيته لتنفق على ملذّاته الباذخة.
قام الضابط الصغير في الرتبة جمال عبد الناصر ورفاقه في الجيش المصري بالثورة على عرش فاروق ونجحت الثورة المصرية التي كانت بصدق رائدة في كل شئ، فكانت أولى إنجازاتها رد الإعتبار والإحترام للشعب المصري الغلبان. ألغت الثورة المصرية الحكم الطبقي في مصر، ومكّنت المواطن المصري من العيش بخيرات بلاده بعد أن إستلّتها من بين فكوك مغتصبيها من البهوات والملوك والأمراء الذين لم يكن يهمّهم غير مصالهم الآنيّة... وكذلك هم الملوك في كل مكان في العالم يفعلون.
حقّقت الثورة المصرية بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر منجزات ضخمة للشعب المصري مازالت أثارها باقية حتى يومنا هذا. فمع تأميم قناة السويس، ومع إنشاء السد العالي، تم بناء الجامعات... مع ذلك والكثير غيره، تم بناء الإنسان المصري الذي كان مهمّشاً. إزدهرت في مصر كل مناحي الحياة من علوم وثقافة وأدب ومسارح وموسيقى وسينما، وبدأت مصر تتألّق في منطقة الشرق الأوسط وفي أسيا وأفريقيا وحتى أمريكا اللاتينية.
ساهمت مصر في تأسيس وتنمية الجامعة العربية، ومنظّمة الوحدة الأفريقية ومؤتمر عدم الإنحياز، ووصل نفوذ التحرّر المصري إلى اليمن وسوريا والعراق والسودان وليبيا، وكان عبد الناصر زعيماً لكل العرب وبإمتياز. لم يتغنّ كل العرب في كل بلاد العرب بزعيم قط في تاريخهم قدر تغنّيهم بجمال عبد الناصر وحبّهم الحقيقي له.
إن حب الشارع العربي لجمال عبد الناصر جعل كل من حاول منافسته على الزعامة يظهر للشعب العربي على أنّه لا قيمة له، وبالفعل دخلت كل صراصير التديّن والنفاق في جحورها وظلّت مختفية خائفة ومذعورة إلى أن كاد من كاد بعبد الناصر، وما إن غاب الأسد حتى خرجت الخراف وهي تتمختر وتخدع الشعوب العربية بثقافة الوهابيين المتخلّفة بعد أن غلّفوها للناس بلفافات دينية وتعاويذ قالوا لهم بأنّها سوف تجلب لهم الحظ وتبعد عنهم السحر وتأثير الجن.
بقدر هزيمة عبد الناصر في عام 1967 بقدر قضائه على تنظيم الإخوان المتلوّن والمنافق، وبرغم كل المؤامرات التي حيكت في الخفاء وبالتعاون مع الإنجليز والأمريكان واليهود فإن الوهابيين الحقراء في السعودية وما حولها لم يتمكّنوا من رفع رؤوسهم، وبقوا كالنعامة يطمرون رؤسهم في الرمال إلى أن شعروا بزوال الخطر فخرجوا متبجّحين بعد أن أيقنوا بأن الأسد كان بالفعل قد غاب عن الساحة بعد أكثر من عقدين من الخوف والذعر والمذلّة التي فرضوها على أنفسهم ولم يفرضها عليهم الزعيم - الخالد بصدق - جمال عبد الناصر.
تمرّ علينا هذه الذكرى الجميلة ونحن وللأسف أصبحنا نعاني من الهزيمة ومن المهانة ومن فقدان الحسّ الوطني خاصّة بعد تغوّل الفكر الديني المتشدّد على بلداننا منذ غياب البطل الراحل جمال عبد الناصر في أوائل السبعينات وحتى يومنا هذا مروراً بثورات الربيع العربي التي فتحت الأبواب واسعة لكل متطرّف ومتغلّف وغجري متعجرف لأن يفرض علينا سلطانه بقوّة الترهيب وسلاح الفتاوي الذي يتفوّق على سلاح الحديد والنار.
أنا بدأت أشعر في هذه السنة بأن الحسّ الوطني بدأ بالفعل ينتعش من جديد وبأنّ الفكر الديني المتطرّف بدأ يفقد بريقه وينحسر بين عموم الناس بعد مشاهد الفشل الذريع التي عانى منها الفكر الديني المتشدّد الذي أخذ وللأسف ينتشر تدريجيّاً في كل بلاد العرب وفي أغلب بلاد المسلمين.
لقد أخذ ما أطلقوا عليه خداعاً "الصحوة الدينيّة" في التعثّر والتقهقر بسبب كم الإنتكاسات التي عانى منها العرب والمسلمون خلال العقود الأربعة الماضية، وبسبب المكاره والفضائح التي أخذت تلتصق بالمسلمين والعرب في كل مكان نتيجة لتلك الأعمال البذيئة والكريهة والمقيتة التي قام بها أتباع الفكر المتشدّد بإسم الله وبإسم الإسلام حتى أصبح الإٍلام شتيمة في عالم اليوم، وأصبحت الديانة الإسلاميّة ملتصقة في عقول الغير مسلمين بالإرهاب وبالقتل وبالذبح وبمعاداة البشريّة والتحضّر.

من هنا بدأنا نلاحظ الآن بأنّ "الصحوة الوطنيّة" الحقيقيّة أخذت بالفعل تتعافى وتسترجع أنفاسها من جديد ولو كانت هذه الصحوة بطيئة ومرتعبة في البداية لكنّها حتماً سوف تتعاظم وتتفاعل في عقول الشباب الذين لم يروا الكثير في سنوات أعمارهم القليلة ولم يعاصروا سنوات التحرّر والإحساس الوطني الصادق الذي وللأسف قضت عليه الجماعات الدينيّة المتطرّفة بسبب طريقة تفكيرها وبسبب نظرتها لحياة الناس الدنيويّة على أنّها زائلة فلا تستحق ذلك الإهتمام الذي توليه إيّاه بقيّة شعوب العالم الغير مسلمة وبعض من المسلمين المتفتّحين والمتعلّمين والمتحضّرين الذين يعيشون عالم اليوم بأبجدياته الحقيقيّة. 
إنّ مجرّد عودة الحسّ الوطني إلى مدارك الناس ومشاعرهم ليعد في حد ذاته بشرى جميلة لكلّ من يحلم بالغد الجميل ويطمح إلى مستقبل أفضل لأمّة العرب بعد أن إخترقها الطامعون من كل جانب ومن كل ركن نتيجة لإنحسار الفكر الوطني منذ بدايات السبعينات ونتيجة لغياب القيادات الواعية والمثقّفة والعارفة في عالمنا العربي والتي حلّت محلّها وللأسف قيادات "وهميّة" زيّنها في عقول الشباب إعلام الفكر الوهابي الذي نادى بعودة ما سمّى ب"الصحوة الإسلامية" على حساب المشاعر الوطنيّة وعلى حساب العصرنة والعيش بمعايير اليوم بدل الدوران في فلك الماضي الذي إنتهى وتداركه الزمن بفعل التطوّر الطبيعي للكائن البشري الذي زوّده الله بالعقل وبالعلم وبالمعين الذي مكّنه من الإبداع والتطوير والعبور إلى عوالم أخرى لم يشهدها إنسان العصور السابقة ولم يكن يحلم بها.

من بين علامات إعادة الروح للإحساس الوطني أقيم بالأمس حفل إفتتاح قاعدة "محمّد نجيب" العسكريّة في مدينة "الحمام" غرب الإسكندريّة بحضور الرئيس عبد الفتّاح السيسي وعدد من الضيوف بما فيهم المشير خليفة حفتر ورئيس الإمارات العربية المتحدة، وقد أعجبتني المراسم والخطابات التي أحيت الإحساس الوطني في قلوبنا من جديد وبعثت فينا روح الأمل بعد أن كدنا نفقده بسبب الهموم التي لحقت بعالمنا العربي خلال السنوات السبع العجاف الماضية والتي برهنت على أن تغوّل رجال الدين على مسار الحياة لا يمكنه إلّا وأن يدمّر كل شئ بناه الإنسان العربي والإنسان المسلم خلال العقود الماضية منذ أيّام التحرّر والإستقلال وحتى بدايات هذا العقد من الزمان.

أنا شخصياً أؤمن بأن البناء والتعمير لا يمكنهما إطلاقاً بأن يكونا تحت أية مظلّة دينيّة مهما كانت شعاراتها ومهما كانت غاياتها، وإنّما كل من البناء والتعمير يحتاج إلى عقول متفتّحة ومجاميع من الشباب والشابّات المتعلّمين والمهنيّين في مختلف دروب الحياة وتخصّصاتها ذلك لأن الحياة هي بالفعل ملوّنة ويتوجّب علينا رؤيتها ملوّنة فالله كان بالفعل قد خلقها لنا ملوّنة وزاهية ومتفتّحة وأرادنا بأن نحسّ بها كذلك وأن نراها كذلك.

عاشت الثورة المصرية الرائدة وعاش زعيمها في قلوب كل العرب الأوفياء، وسوف بإذن الله يستعيد العرب أيام عزّهم وكرامتهم من جديد بعد أن يتخلّصوا من هؤلاء الحثالة المشعوذين الذين مازالوا يعيشون بثقافة الكهوف. ومبروك على مصر بذكرى ثورة 23 يوليو العظيمة بصدق، ومبروك كذلك على كل العرب الشرفاء الذين مرّغ تجّار الدين كرامتهم وأذلّوهم وعادوا بهم إلى عصور ما قبل التاريخ بسبب العقلية المتخلّفة والقصور الذهني الغير قابل للتجديد أو التطوير أو الإنفتاح على الغير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك