2016/02/09

وهل تتحوّل البومه إلى صقر ؟

منذ إنحسار التيّار الوطني(القومي) في المنطقة العربيّة بقيادة مصر في بداية السبعينات والسعوديّة تحاول جاهدة ملء الفراغ الناتج، ولكن هل تستطيع السعودية القيام بذلك الدور... أو بمعنى آخر هل يستطيع الملك سلمان لبس حذاء الراحل جمال عبد الناصر؟.علينا بالعودة إلى الوراء قليلاً حتى نفهم كم المهام ونوعها ونفهم كذلك إمكانيّات من يحاول القيام بها وتحقيقها. فالمهام هي كبيرة جدّاً ومتنوّعة وبكل تأكيد تحتاج إلى قلوب كبيرة وشخصيات قويّة، وتحتاج أيضاً إلى عقول متفتّحة وبشر لهم رؤية ولهم بعد نظر.
ومن أجل أن يتحوّل الكلام إلى واقع، فإنّني سوف أستشهد بفترة ما بعد الإستقلال (1950 - 1970) في العالم العربي؛ حيث خرج المستعمر بطريق أو آخر وترك وراءه تخلّفاً كبيراً في هذه البلاد، وترك كذلك خراباً وفساداً، وترك فوضى وطوائف متنافرة ومتناحرة. مثل تلك الأوضاع بكل تأكيد تحتاج إلى الكثير من العقل ومن الجهد ومن التفكير، وتحتاج إلى حسابات دقيقة وبرمجة وتخطيط.... تحتاج إلى سعة أفق وبعد نظر.
مصر إستطاعت أن تقود المرحلة بما تملكه من طاقات بشرية وإمكانيات علميّة، وبما تملكه مصر من عقول مبدعة. مصر إستطاعت في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مقارعة كل الصعاب وبالفعل تمكّنت مصر من ريادة وقيادة كل البلاد العربيّة، وكان لها أثراً قياديّاً وكبيراً في أغلب البلاد الإسلاميّة ذلك. فقد إستطاع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر القضاء على تنظيم الإخوان المسلمون الذي صنعته بريطانيا وشكّلته وفق المعايير الإنجليزية في عهد الإمبراطورية التي كانت لا تغرب عنها الشمس، وفي إطار ثقافة "فرّق تسد" التي كانت تعتمدها تلك الإمبراطورية وتبني كل خططها على ضوئها.
بعد ذلك إتجه عبد الناصر إلى بناء الداخل المصري وحقق الكثير من الإنجازات في هذا المضمار، ولعلّ من أهمّ تلك الإنجازات تأميم قناة السويس وبناء السد العالي وتأسيس صناعات وطنية مصريّة كان ربما من أهمها صناعات النسيج وشركة نصر لصناعة السيّارات. حقّق عبد الناصر كذلك لمصر وللعرب قاعدة معلومات كبيرة جدّاً وثقافة متنوّعة رفعت من قيمة مصر في كل البلاد العربيّة. تلك المشاريع وغيرها ساهمت في بناء الإقتصاد المصري، ورفعت من مستوى الخدمات لصالح المواطن المصري والعربي على حدّ سواء. عبد الناصر كذلك لم يغفل جيرانه العرب من شرق العالم العربي وحتى غربه، ولعل تحرير اليمن من حكم سكّان الكهوف(الأئمّة) يعتبر أهم تغيير في المنطقة في تلك الآونة، وكانت السعوديّة هي من أكثر المتضرّرين من ذلك التغيير الجوهري لكنّها حينها لم تتمكّن من مقاومة المد الناصري رغم أنّها كانت من أكبر المعادين له. 
كانت السعوديّة من أكبر المعادين للفكر الناصري، وكانت تمقت عبد الناصر بشكل كبير جداً، لكن التاييد الشعبي لجمال عبد الناصر في كل البلاد العربية بما فيها السعوديّة نفسها كان كافياً لإسكات ملوك السعوديّة ودفعهم خوفهم من عبد الناصر إلى التحمّل والسكوت والرضاء في أحيان كثيرة بما لا يعجبهم، لكنّهم لم يكونوا يمتلكون الشجاعة ولا المقدرة على مقاومة المد الناصري في المنطقة.
الذين يكرهون جمال عبد الناصر لايذكرون من عهده الزاهر غير هزيمة عام 1967 والتي بكل تأكيد كانت كارثة عربيّة قبل أن تكون مصريّة، غير أنّها لم تكن الكارثة الآولى ولا الأخيرة بالنسبة للعرب. ألم تكن هزيمة 1948 أكثر كارثيّة من هزيمة 1967؟. فلماذا يركّز المعادون لعبد الناصر على هزيمة 1967 وينسون الهزائم الأخرى؟. أنا أعرف الإجابة، وأعتقد بأن الكثيرون منكم ومن أتباع التيّار الوطني والتحرّري يعرفون الإجابة. ملاحظة واحدة أريد أن أذكرها هنا إنصافأ للرجل الذي هو الآن بين يدي ربّه مفادها أن عبد الناصر كان قد إعترف بمسئوليته عن الهزيمة أمام العالم أجمع، وتعلّم عبد الناصر من الخطأ بأن بدأ في بناء الجيش المصري من جديد، وبدأ بالفعل يستعد لتعويض الهزيمة بنصر قد يخفّف على الأقل من وقعها على العرب، وكانت حرب 1973 من نتائج ذلك الإصرار. حرب 1973 لم تكن من إبداعات أنور السادات، وإنّما كانت نتيجة لإصرار عبد الناصر على تحويل الهزيمة إلى نصر لكن قدره لم يمهله حتى يرى بعينيه نتائج ما كان قد خطّط وأعد له. 
بمجرّد غياب الرئيس جمال عبد الناصر عن الساحة أسرعت السعودية بكل ما تملك للإستفادة من ذلك الغياب، وحاولت بشتى السبل ملء الفراغ رغم السمعة السيئة للوهابيين ورغم عداء الناس في العالم العربي لطريقة تفكيرهم المتخلّفة. إستخدمت السعوديّة المال وإستفادت من وجود الآماكن المقدّسة على أراضيها وتحت تصرّفها المطلق في محاولاتها للسيطرة على عقول البشر وخاصّة في البلاد الفقيرة والتي كانت مصر من بينها. فتحت السعوديّة أبوابها للعمالة المصريّة على أمل تغيير الثقافة في مصر من علمانية متفتّحة إلى دينية منغلقة، وقامت أيضاً بتمويل الكثير من مشاريع الإستثمار السياحي وعمليات الإنفتاح الإقتصادي في عهدي أنور السادات وحسني مبارك، ومن خلال مصر بدأت السعودية تحلم بحكم العرب لتحل محل جمال عبد الناصر .... ولكن هل تنجح البومة في أن تتحوّل إلى صقر؟.
السعودية قامت بالتدخّل في اليمن وهي تسعى جاهدة إلى إعادة اليمن إلى أحضانها بعد تحرّر إستمر لما يقارب 64 سنة، وسوف تعمل السعودية كل ما بوسعها للسيطرة على اليمن وتشجيع أهله على العودة إلى نظام حكم الإماميّة القريب جداً من طبيعة وشكل نظام الحكم السعودي.
كذلك فإنّنا نرى السعودية الآن وهي تواصل مشاريعها للسيطرة على المنطقة العربية والإسلاميّة وكان أوّل تلك المشاريع هو تأسيس ما يسمّى ب"التحالف الإسلامي" وهو على نسق مشروع التضامن العربي في عهد الراحل جمال عبد الناصر ولكن برؤية مختلفة تماماً وفي إتجاه مختلف تماماً.
السعودية تطمح من خلال مشروع التحالف الإسلامي إلى السيطرة على المنطقة إقتداء بما نجح فيه الراحل جمال عبد الناصر، لكن السعودية ربما هي تجهل بأن طريقة التفكير مختلفة والعقلية مختلفة والوسيلة مختلفة. السعودية من وجهة نظري هي تحلم بغباء كامل بالسيطرة على المنطقة بنفس الكيفيّة والكمية التي نجح فيها جمال عبد الناصر، لكن السعودية سوف تصاب بخيبة أمل منقطعة النظير. الشعب العربي والكثير من الشعوب الإسلامية أصبحت الآن تفكّر بطريقة متقدّمة جداً على الطريقة التي يفكّر بها ويمارسها حكّام السعوديّة، ولا يمكن لهذه الشعوب أن ترضى بالعودة إلى الوراء. جمال عبد الناصر كان يتقدّم فكريّاً وحضاريّاً تفكير شعوب المنطقة العربية حينها، ومن ثمّ فقد أصبح محط أنظار الأجيال الناشئة في تلك الفترة والتي كانت تحلم بالغد وتبني للمستقبل. حكّام السعودية لا يمتلكون تلك الخواص التي كان يمتلكها الراحل جمال عبد الناصر، ولا يمكن مثلاً للملك سلمان بن عبد العزيز أن يجذب شباب المنطقة العربيّة بلغته الركيكة وطريقة تفكيره المتخلّفة وبطلعته البائسة والعبوسة كما كان يفعل عبد الناصر بلغته العربية الجميلة وبإبتسامته الجذّابة وبحماسه الواضح وبذكائه المتقد وبوطنيّته التي كانت متقدّمة على كل من وجد في زمانه وحول مكانه.
هناك مشكلة كبرى تواجه السعودية وتحجّم طموحاتها في ريادة المنطقة وقيادتها وهي إيران. إيران سوف تكون هي الخصم العنيد للسعوديّة، وإيران سوف تحقق إنتصارات كبيرة على السعوديّة بما ربما سوف يؤدّي إلى تقسيم السعودية وتحويلها إلى دويلات متصارعة بإسم الدين والتديّن.
على السعودية بأن تنتبه اليوم وقبل غد بأن مشروعها الحالي الذي يدفع نحو التدخّل في سوريا سوف ربما يكون كارثة كبرى عليها، فسوف لامحالة تصاب السعودية بهزيمة كبرى في سوريا، وسوف تتبع تلك الهزيمة في سوريا هزيمة لاحقة في اليمن، ومن خلال العراق وسوريا واليمن سوف يتم الإنقضاض على السعودية وتمزيقها إلى دويلات بما سوف لامحالة ينهي حكم آل سعود وينهي سيطرة الوهابيّون على تلك المناطق التي كانت تسمى نجد والحجاز والتي سوف تعاد إليها تلك التسمية.
نحن نعرف بأن السعودية تحتمي بأمريكا وبريطانيا، لكن السعوديين لا يعرفون بأن أمريكا تسعى لتحقيق أهدافها ومصالحها ولا تلتزم في سبيل ذلك بولاءات تعرف بأنّها في الأساس غير سليمة وغير مستديمة. أمريكا ترى مصالحها الإستراتيجية في إيران وليس في السعودية، وسوف تسير أمريكا مع الأوضاع الجديدة لأن مصالحها سوف تتحقق من خلال الأوضاع التي سوف تفرضها الظروف الراهنة وقتها. أتمنّى بأن ينتبه حكّام السعودية إلى أنفسهم، وأن يعرفوا كم قوّتهم ومقدار تأثيراتهم لأنّهم حسبما أرى الآن لا يمتلكون تلك الرؤية البعيدة النظر والعقلية العميقة التفكير.
وختاماً أقول لمن جرفه التيّار وأخذ ينجرف بدون أن يفكّر... إن من بدأوا يفكّرون اليوم بما يسمّى "الصحوة الإسلاميّة"، وأولئك الذين نهلوا من العلم والمعرفة والخبرة في مهنهم، وكذلك من إختلط بالشعوب المتقدّمة فأخذ يترك لحيته ويشمّر سرواله ويدمغ جبهة رأسه ظانّاً بأنّه أصبح هو بدوره من بين أولئك الذين يحلمون بعودة "الصحوة الإسلاميّة"... أقول لكل هؤلاء بأنّكم واهمون وبأن الذي نشهده الآن هو صحوة وهابيّة همّها السيطرة على المنطقة بإسم الدين بهدف القضاء على أي مشروع وطني تحرّري أو إنفتاحي بما يشابه تماماً عودة الصحوة للكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى بعد هزائمهم المتلاحقة على أيدي العرب المسلمين حينها بدءاً بصلاح الدين الأيّوبي ومروراً بفتح القسطنطينيّة على أيدي محمّد الفاتح ومن ثمّ طرد المسيحيين من تركيا وملاحقتهم حتى غرب أوروبا حيث نقلوا عاصمتهم الدينيّة من القدس، إلى القسطنطينيّة وأخيراً إلى روما. 
عودة الصحوة الدينية حينها أدّت إلى المزيد من سيطرة الكنيسة على حياة البشر بما حدّ من حرّيتهم ووقف في وجه إبداعاتهم وتدخّل في جزئيّات حياتهم حتى ملّ الناس من سيطرة رجال الدين على كل شئ حولهم وبينهم ممّا أدّى إلى نشوب ثورة عارمة أبعدت الكنيسة من حياة الناس بما فتح أبواب أوروبا نحو الإبداع والإختراعات والإكتشافات والإبتكارات والتي تواصلت من حينها وحتى يومنا هذا، وهي مازالت في ريعان شبابها رغم مرور الزمن عليها. 
إن من يحلمون بعودة الصحوة الدينية بيننا إنّما هم يفتحون الطريق أمام سيطرة رجال الدين على كل شئ في حياتنا ممّا سوف يقفل الأبواب أمام كل المبدعين والمحدّثين بيننا وذلك لوحده سوف يحدث ثورة مشابهة لتلك التي شهدتها أوروبا في القرن الخامس عشر وما بعده. إن الدين لا يصلح لحكم الشعوب، وإنّما أنزل الله الدين للعبادة وتنظيم العلاقات الإجتماعية بين البشر. كذلك فإنّنا كنّا بديننا الوسطي في فترة الخمسينات والستينات أحسن حالاّ لألف مرّة مما نعيشه اليوم في ظل "الصحوة الدينيّة" التي أوجدت بيننا ولأوّل مرّة الذبح والغدر والخيانة والتفجيرات والأحزمة الناسفة وتدمير المساجد وقتل الناس وهم يصلّون. لقد كنّا ننعم بالأمن والسلام وكانت بلداننا تبني وتضيف في كل يوم، فإذا بنا اليوم وفي ظل "الصحوة الدينية" نجد أنفسنا نقدم على تدمير كل ما بنيناه، ونعمل على تحطيم كل القيم الإنسانيّة النبيلة بإسم الدين، ونخلق العداوات بين الشعوب، ونعبث بكل إنجازات البشر عبر العصور. إن ما يسمّى ب"الصحوة الدينية" ما هو إلّا محاولة من رجال الدين لإحكام قبضاتهم الحديديّة على رقاب الناس بهدف السيطرة على كل جزئيّة في حياتهم حتى يتحوّل البشر إلى عبيد طائعين لا يملكون إرادة ولا يستطيعون الإعتراض.... فما بالك بهم يقدرون على التغيير، أو حتّى يحلمون به في مضاجعهم وأسرّة نومهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك