عندما يعجز الإنسان عن التمييز بين المهم والأهم فإنّه يتوه بين الجيّد والردئ وتختلط عنده الأشياء فلم يعد بمقدوره التفريق بين الحق والباطل، وحينها يتداخل عنده الخير مع الشر.
عندما كنت صغيراً كنّا نذهب يوم الجمعة زرافات ومجاميع وأصحاب إلى الجامع حيث نصلّي الفرض وبعدها نتصافح ونتحدّث عن أشياء متداولة ويذهب بعدها كل إلى بيته أو عمله وهو راضِ عن نفسه ومتصالح مع ربّه.
كنّا كذلك نذهب يوم العيد (الصغير والكبير) لحضور صلاة العيد حيث يكون الجامع ممتلئاً بالبشر مما يضطر الكثيرين للجلوس والصلاة خارج الجامع. كان عدد الحضور لأداء صلاة العيد (سنّة) يزداد عن ضعفي من يذهبون لصلاة الجمعة(فرض)، وكان هناك العديد من البشر يحضرون لصلاة العيد ولا أراهم مطلقاً في أيّام الجمع.
وحيث أنّني ولدت متمرّداً ولم أكن يوماً من بين أولئك الذين يرضون بالمألوف، قلت في نفسي: لماذا يذهب الناس لتأدية السنّة ويتركون الفرض؟.
أذكر أنّني لم أذهب للصلاة في أحد الأعياد، وحين إلتقيت ببعض الأصدقاء عتبوا عليّ وحاولوا أن ينهروني لعدم ذهابي لحضور صلاة العيد. حينها شعرت بالغضب وقمت بالرد عليهم مباشرة: لماذا لا أراكم تحضرون صلاة الجمعة... أليست الجمعة فرضاً يتوجّب عليكم حضوره وتأديته، وأليست صلاة العيد سنّة.... فلماذا أنتم تحرصون عليها أكثر من حرصكم على تأدية الفرض؟.
قالوا لي، نعم.... نحن نعرف بأن صلاة الجمعة فرض وأنّ صلاة العيد سنّة، لكن صلاة العيد هي مناسبة نلتقي فيها مع المعارف والأصدقاء ونعيّد على بعضنا. قلت لنفسي حينها: إذا كان البشر يفكّرون هكذا فأنا لست منهم. لم أذهب بعدها لحضور صلاة العيد إلاّ ما ندر.
في هذه الأيّام نحن نرى الكثير من المسلمين يهتمّون ب "السنّة" أكثر من إهتمامهم بالفرض، ويأتونك بآحاديث "نبوية" لا تعد ولا تحصى ليستدلّوا بها على ما يريدون إقناعك به، ولكن حينما تسألهم عن مصدرها في القرآن فإنّهم في الغالب لا يعرفون أي سند لها في القرآن. أيّن هو مرجعنا الأساسي كمسلمين: القرآن أو الآحاديث؟.
تجد كذلك الكثير من البشر يحرصون على تأدية سنن الصلاة وكثيراً ما يغيبون عن تأدية الفرائض، وتجد من يكثر من التسابيح والتعاويذ والإستغفار وتجده يعد "الدرجات" وكأنّها دراهم يضعها في المصرف بهدف إستثمارها، وتسمع من يقول لك بأنّك إن صلّيت على الرسول يوم الجمعة كم مرّة، أو سبّحت بحمد الله كم مرّة أو فعلت كذا وكذا كم مرّة في ليلة القدر أو يوم الجمعة أو في عاشوراء أو المولد فإنّك سوف تحصل على 70,000 درجة و50,000 درجة، وغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك، وأجارك من النار وما إليها من تلك الخرافات التي توارثها البشر أب عن جد وأغلبها تعود إلى عصر الدولة الأموية والدولة العبّاسية حيث كثرت الكتب الصفراء وكثرت التعاويذ وكثر المنافقون الذين يتغنّون بفضائل السلطان (الإمامة العادلة ذات السلطة القادرة على الكفرة الباغية" وهو كلّه كلام في كلام ولا يوجد له في الواقع ما يثبته أو يبرهن عليه.
في المقابل تجد نفس أولئك البشر الذين يجمعون "درجات الأجر" من التسابيح والتعاويذ وكثرة النوافل حتى أنّك هذه الأيّام تجد من يصلّي ركعتين "سنّة" بعد صلاة الجمعة، وركتتين سنّة بعد صلاة الظهر، وهناك من يصلّي ركعتين "نافلة" بعد صلام العصر.
أنا عندما كنت صغيراً كان والدي رحمه الله يمتلك مكتبة دينيّة راقية جداً، وكان كثيراً ما يخطب يوم الجمعة ويؤوم الناس للصلاة، وكان يشتغل في محكمة، وكانت ثقافته العربية والدينيّة راقية جداً، وكنت أنا من يقرأ له وأنا إبن العاشرة وكان يشرح لي كل شئ في الدين... كان والدي يقول لي هناك نافلتين قبل صلاة الصبح، وثلاثة نوافل بعد صلاة العشاء، ونافلتين غير مؤكّدتين بعد صلاة المغرب. لم يحدّثني والدي رحمه الله عن أية نوافل أخرى إلاّ أن يكون ذلك من باب التبرّك.
كان والدي رحمه الله يعلّمني أدب الحديث، والإلتزام بالصدق، وإحترام من هو أكبر منّي سنّاً، وإحترام آساتذتي، وعدم الغش أو السرقة وعدم التحايل حتى وإن كنت في أمس الحاجة لأي شئ، وكان يقول لي: القناعة كنز لا يفنى، والطمع دائماً يوقع بصاحبه في المثالب. تعلّمت كثيراً من القيم الإنسانية من والدي رحمه الله، وتعلمت منه القناعة والرضاء بما أعطاني الله، وعلّمني بأن لا أكره الناس ولا أحقد على أحد وبأن لا أغتاب البشر ولا أستهزأ بالغير مهما كانت عيوبهم.... تلك هي القيم التي تعلّمتها، وتلك هي القناعات التي كبرت عليها، لكنّني أبداً لم أتعلّم كيف أحسب درجات الجزاء أو كم إحتاج لأدخل الجنّة. تعلّمت بأن الجنه هي جزاء وتكريم وصواب لعمل صالح لكنّها ليست غاية وإنّما الغاية هي ان أطيع الله وألتزم بأوامره وأنتهي عن نواهيه، امّا الجزاء فذلك تعلّمت بأن أتركه لله العادل والكريم.
في عالم اليوم ترى الكذابين والمنافقين والطمّاعين والمرتشين وهم يتظاهرون بالتديّن فيتركون لحاهم تكبر ويشمّرون سراويلهم ولا يتكلّمون إلا بإسم الله وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهم يغتابون الغير ويبحثون عن كل فرصة ليسرقوا ويكذبوا ويخونوا ويغدروا ويقتلوا بإسم الله... وانا هنا لا أتحدّث عن أولئك الذين بإٍسم الله يذبحون البشر ويكفّرون غيرهم، وبإٍسم الله يدمّرون مطار العاصمة وبإٍسم الله يحرقون مصدر الرزق الذي يتعايش عليه أهلهم من بني بلدهم. أليس الدين هو المعاملة يا سادتي؟. أليس الدين هو الرحمة والعطف والحنان والرفق؟. أليس الدين هو الكلمة الطيّبة وأدب الحديث والترفّق في التعامل مع البشر بغض النظر عن أعراقهم أو إعتقاداتهم أو أصولهم أو ألوانم؟. أليس الدين هو مصدر القيم الإنسانيّة النبيلة التي يتوجّب علينا ممارستها في حياتنا وهي أهم من التعبّد والطقوس والمظاهر الدينيّة التي نرى الكثيرون يحرصون عليها أكثر من حرصهم على حياة غيرهم من البشر؟. الدين هو ممارسة حياتيّة وإلتزام بالقيم والأخلاق قبل أن يكون مجرّد ركوع وسجود وطقوس وتسابيح وتزاحم على الإستحواذ على درجات الجزاء من أجل دخول الجنّة. الدين هو الكيفيّة التي نتعامل بها مع بعض، وهو ان تحسّ بأنّك معي في آمان وبأنّني لا أخونك ولا أغدر بك ولا أكذب عليك من أجل إستغلالك أو تغفيلك أو الضحك عليك. الدين هو أن تحس بأنّني إنسان في تعاملي معك وبأنّك تأمن على نفسك وعلى مالك وعلى أسرارك حينما تتعامل معي... ذلك هو الدين بالنسبة لي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك