2013/03/06

الحداثة في التفكير والتجديد في الفهم (الحلقة الثانية)


  ((مهداة إلى الدكتور الشيخ عبد اللطيف المهلهل))

وتواصلاً مع كلام الأمس، فإنّني أقول بأنّ الإنسان المتعلّم له قدرة أكبر على فهم أعمق لمعاني القرآن... يقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.... فصّل الله الآيات لقوم يعلمون، فيستطيعون بذلك إستدراك بعض مما عناه الله من ذلك "التفصيل" لكنّهم بكل تأكيد وبمهما إجتهدوا فإنّهم سيظلّون في محيطهم كبشر ولا يمكنهم أبداً الإحاطة بعلم الله ولا بما رمى إليه حين أنزل آية ما إلاّ أن يكون قد فسّرها للناس بما يتناسب مع عقولهم وفهمهم.. قال الله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ.} 
كان الناس قديماً يخشون من العلماء ولا يشجّعون كثيراً على التعلّم، لأنّهم كانوا يظنّون بأنّه كلّما تعمّق الإنسان في فهم الأشياء كلّما إزداد تحدّيه لله، وتركت تلك المفاهيم أثارها على عقليّة وقبول الناس لموضوع "التعلّم" حتى أنّنا نجد الكثير من البلاد الإسلاميّة ( والمتخلّفة على وجه الخصوص) تحاول الدفع نحو التعلّم في الكتاتيب (باكستان، أفغانستان، بنغلاديش، موريتانيا، وبعض البلاد الإسلاميّة في أفريقيا) ذلك لأنّ - حسب ظنّهم - التعلّم في الكتاتيب يكون "مقنّناً" ومحدّداً بما لا يسمح بتعلّم العلوم الحياتيّة (الغير دينيّة) على إعتبار أن تلك العلوم هي من يدخل الشك في رأس وتفكير متعلّمها. والذي سمعنا عنه خلال الأيّام الماضية من إقدام بعض السلفيّين على تمزيق صفحات من كتاب الأحياء للصف السابع من التعليم الأساسي بدعوى أنّ تلك الصفحات تحتوي على مادّة تعليميّة "خليعة". تلك الصفحات بالتأكيد تتعلّق بتركيبة ووظيفة بعض أعضاء جسم الإنسان وكأنّنا لسنا في حاجة للتعرّف على تلك الأعضاء أو معرفة زظائفها من منطلق ديني أراه "عقيماً". 
إن إنتشار التعليم في القرن الماضي وما سبق من هذا القرن بذلك الشكل الذي أبهر حتى غير المتحمّسن له هو ما أقنع الجميع من سكّان الأرض بأنّ هناك الكثير من المهارات والملكات لا يمكن إكتسابها من تعلّم القرآن والآحاديث فقط، وإنّما من خلال الإنخراط في المدارس والجامعات لمعرفة علوم وسبل تمكّن الحاصل عليها من فهم التقنية الحديثة من حواسيب وإتصالات إليكترونيّة وكذلك كيفية التعامل مع المتسخدمات اليوميّة في البيت والمكتب والمدرسة نفسها . 
بسبب هذا الإنتشار الكبير لعلوم الحياة بين الناس بدأ يتولّد نوع من التكامل بين العلوم الدينيّة والعلوم الحياتيّة ليس من باب الإقتناع بالنسبة للكثير من شيوخ الدين "المحافظين" ولكنّها من باب "التعامل مع الأمر الواقع"، وبذلك بدأ هؤلاء يغيّرون نظرتهم للحياة وبدأ الكثير منهم يتقبّلون "عالم الحياة" ويستمعون إلى رأيه ووجهة
 نظره . 
تغيّر بناء على ذلك تفسيرنا لبعض آيات القرآن والمثال هو هذه الآية الكريمة: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. بكلّ تأكيد فإنّه في هذه الآية توجد "ضمّة" وكذلك توجد "فتحة" وما عليك إلاّ أن تضع كلّ منهما في غير مكانها لتنقلب المفاهيم رأساً على عقب. كانوا قديماً يخيفوننا من التعلّم والتبحّر فيه لأنّ "اللهٌ" هو من يخشى من عباده "العلماءَ"، أمّا وقد إنتشر العلم وإقتنع الناس به فعادوا ليقرأوا الآية كما يجب وبذلك تبادلت الفتحة مع الضمّة المواضع وعرف الناس على إثر ذلك "التبادل" بأنّه كلّما تعلّم الإنسان أكثر كلّما إزداد إيمانه بالله، لأن المتعلّم يستخدم العقل قبل العاطفة ويستند إلى المنطق قبل شغفه بالمؤثّرات الصوتيه أو البصريّة .
برغم كل ذلك فإنّني لازلت أعتب على إخوتنا بعض رجال الدين الذين مازالوا يظنّون إلى يومنا هذا ويؤمنون بأنّ "العالم" هو "فقط" المتبحّر في الدين، وفي هذا أرى بأن هناك "شوفينيّة" متجذّرة في عقلية وفكر وربما مفهوم رجل الدين عندنا على أنّه هو "العالم" وهو من يحق له وحده بأن "يفتي" وعلى أن غيره من المتبحّرين في علوم الحياة لا يمكنهم أبداً أن يرتقوا إلى مستواه، ومن هنا فإنّنا نلاحظ درجة كبيرة من التجافي بين عالم الدين وعالم الحياة.. والعمليّة هنا قد تكون متبادلة لكنّ دوافع ذلك التجافي ليست نفسها عند أي من الطرفين. فعالم الدين يظنّ بأنّ عالم الحياة لا يعرف كثيراً في علوم الرب "الروحانيّة" التي لها أسرارها وهذه الأسرار ليس بوسع عالم الحياة فهمها أو تصوّرها. في المقابل، فإنّ عالم الحياة يظن بأن عالم الدين إنّما هو إنسان يعيش في الماضي ويعتمد على أقوال وأفكار من مضى وبذلك ينظر عالم الحياة إلى عالم الدين على أنّه منخلّف وعلى أنّه "أقلّ" منه مستوى وأقلّ منه فهماً وإدراكاً خاصّة بما يتعلّق بأمور الدنيا في عالم اليوم الملئ بالأحداث .
حين قرأت خبر تشكيل "هيئة علماء ليبيا" فرحت وتفاءلت خيراً إلى أن عرفت بأن المعني هنا فقط هو "علماء الدين" وعلى أنّه لا مكان لعلماء الحياة في هذه الهيئة.. حينها أحسست بالغبن وأصابني لفح "الشيفونيّة الدينيّة" التي كنت أظنّها تتعارض مع عقليّة وتفكير رجل الدين الصادق حيث يتغلّب التواضع على التعالي .

كيف يمكننا مكاملة عالم الدين مع عالم الحياة ؟.... ذلك هو موضوع حديثي في الليلة القادمة بإذن الله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك