2013/03/16

الحداثة في التفكير والتجديد في الفهم (الحلقة التاسعة)

 ((مهداة إلى الدكتور الشيخ عبد اللطيف المهلهل))

هل يمكن تحسين العلاقة بين أهل الكتاب ؟

إذا توفّرت الرغبة فإنّ كل ذلك يصبح ممكناً بكل تأكيد.
الذي لاحظناه عبر العصور والأجيال هو أن رجال الدين في المعتقد الواحد كانوا قد تخاصموا وتقاتلوا بسبب جدالات عقيمة لم تكن مبرّرة لو أنّنا إستخدمنا العقل وإحتكمنا للمنطق في البحث عن تفسير لها.
تخاصم اليهود مع نبيّهم، وتخاصموا مع بعضهم، ثم تخاصموا من النبي عيسى وبعدها مع أتباعه. فعل مثل ذلك أتباع عيسى من المسيحيّين، وفعل ذلك أيضاً أتباع محمّد عليه السلام من المسلمين... والأسباب كانت في الأغلب تكمن في تشبّث كل عالم دين بطريقة تفكيرة دون وجود رغبة للتقارب أو التصالح.
كان جوهر النقاش في حلقة الليلة من المفترض بأن يتناول محاولات التقريب بين عالم الدين وعالم الحياة من أجل تفكير متكامل يؤدّي إلى المضي قدماً، لكنّني إرتأيت في آخر لحظة أن أتحدّث عن العلاقة بين "الديانات الثلاث" أو كما يظن الكثيرون، مع أنّها في واقع الأمر يجب أن تكون "العلاقة بين أتباع الديانة الواحدة والمعتقدات المختلفة".
اليهود والمسيحيّون إختصموا لدرجة الإقتتال والتنكيل والنفي وخاصّة من قبل اليهود ضد المسيحيّين إلى درجة أن حاول اليهود وبكل إصرار قتل عيسى عليه السلام.
المسيحيّون والمسلمون بدورهم تقاتلوا وإقتتلوا لأسباب واهية في مواقع كثيرة لعلً أهمّها بكل تأكيد "الحروب الصليبيّة". 
هل كان بالإمكان تفادي تلك الحروب بين المعتقدات الثلاث؟. ربما كان بالإمكان لو أنّ علماء الدين من كل طرف إمتلكوا الحنكة والتواضع والرغبة في الحوار. كان بالإمكان تفادي تلك الحروب والإقتتالات لو أن الناس جلسوا مع بعض وأخذوا يتحاورون إنطلاقاً من مبدأ البحث عن الحقيقة. الحقيقة تقول بأنّ هؤلاء الذين يتقاتلون هم في نهاية الأمر أتباع ديانة واحدة إسمها "الإسلام" ولو أنّ الأقدم من بينهم كان قد قرأ كتابه الذي يقول له سوف يأتي نبيّاً إسمه أحمد برسالة مكمّلة لهذه فعليك إتّباعه؛ لكنّها "الأنانيّة" وحب التسلّط وضيق الأفق هي الأشياء التي منعت الناس من رؤية ما أمروا برؤيته.
يقول الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي أنّ الناس كانوا أحباب إلى أن نزل عليهم كلام الله فإختلفوا في تأويله وأصر كل جانب على وجهة نظره بل وتعصّب لها، فإختلفت الأقوام وتقاتلت وجذّرت العداوات بين الناس وعلماء الدين يتفرّجون، بل إن الكثير منهم كانوا مساهمين في هذه الإختلافات والنزاعات.

 يقول الله تعالى أيضاً: {ثُمَّ أَنتُمْ هَـٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، ويقول: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَ‌ٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}. 
لو إجتمع أهل الكتاب بنيّة حسنة وقرّروا بأن يلتقوا حول المعبود وهو الرب عند الجميع لكانوا تحوّلوا إلى سند لبعضهم ولأصبحوا حجر بناء بدل أن يكونوا حجر عثرة.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.

ولننتقل إلى تطبيق مثل هذا الكلام في ليبيانا الحبيبة... فقد كنّا في ليبيا نستقبل الكثير من المسيحيّين من لبنان وسوريا ومصر، وكانوا يعاملون كإخوة وكانوا هم أنفسهم يعاملون الليبيّين كإخوة. كان الكثير من المسيحيّين يحترمون عاداتنا، ولا يأكلوا أمامنا في رمضان وكانوا لا يشربون القهوة ولا يدخّنون حين يعرفون بأنّنا صائمون. أذكر أنّني في نهاية السنة الثانية في كليّة الطب حين سمحوا لنا بالإرتباط بأحد المراكز الصحيّة في الفترة الصيفيّة كان في المركز الصحّي الذي ذهبت إليه ثلاثة أطباء معروفين واحداً منهم كان إسمه يوسف وهو مسيحي محبوب ومحترم من الجميع، والثاني إسمه صفوت وهو مسيحي أيضاً وكان من خيرة الناس وقد إستفدت منه كثيراً حيث كانت قدراته الطبيّة وعلومه جيّدة، والثالث كان إسمه أحمد وهو مسلم بطبيعة الحال. كانت علاقتي بهم الثلاثة متساوية إلى حد كبير، بل إن علاقاتي بالمسيحيحيّين كانت أكثر إنفتاحاً وأقرب إلى الصداقة.
كان المصريّيون على وجه الخصوص يحظون بمعاملات ممتازة من قبل الليبيّين ولا أعرف بأن الليبيّين كانوا يفرّقون بين مسيحي ومسلم في المعاملة على الإطلاق.
حين أزداد نفوذ الوهابيّون (السلفيّون) بعد وفاة جمال عبد الناصر الذي كان يقهرهم دائماً ويمنعهم من رفع أصواتهم عالياً... حين توفّى عبد الناصر رفع أهل الخليج رؤوسهم بعد كثر إنحناء وشعروا بنوع من التحرّر، وكانت السعوديّة بدون شك من أكبر بلاد الخليج العربيّة فرحاً بوفاة عبد الناصر حيث كان آل سعود يخافون منه ويخجلون من رفع روسهم عالياً أو حتى أصواتهم في وجود عبد الناصر. حين توفى عبد الناصر بدأت الأصوات تخرج من منطقة الخليج، وبدأ السلفيّون (الوهابيّون) في السعوديّة في التمدّد مستفيدين من الفورة النفطيّة فبدأت السعوديّة بصدق تفرّخ الإرهاب وتزرعه في الكثير من بلاد العالم التي كانت أفغانستان من أولاها ثم الصومال ثم بلاد المغرب العربي. كان الوهابيّون تكفيريّون وكانوا عنفوانيّون يؤمنون بالعنف كوسيلة لنشر أفكارهم، فكانت بدون شك مغامرات أسامة بن لادن التي أساءت إلى الإسلام بقدر لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم الإسلامي منذ وفاة الرسول عليه السلام. خلق بن لادن وتنظيمه الوهابي "القاعدة" مدرسة عداء وكره ومقت بين المسلمين والمسيحيّين الذين كان ينعتهم ب"الكفّار" وكان يفضّل أن يطلق عليهم "النصارى" وهي تعني عنده "الكفّار" أو"أعداء الله".
بدات العداوات تتعمّق وتحتد بين المسلمين والمسيحيّين بسبب إزدياد نفوذ الوهابيّين في العالم العربي والإسلامي بعد أن غاب عن طريقهم من كان يخيفهم ويقزّمهم بدون أن يكون قصده. بدأ الوهابيّون ينتشرون في الكثير من البلاد العربيّة وبدأ مع إنتشارهم يتعمّق الكره للمسيجيّين من لبنان إلى العراق وسوريا ومصر.
تحوّل العالمين اسلامي والمسيحي إلى عدوّين لدودين بعد أن كانت العلاقة بينهما تسير نحو التطبيع في فترة الستينات وأوائل السبعينات، وبدأت الثقة بين الطرفين تضعف بل وتغيب في آحايين كثيرة.
بعد ثورة الربيع العربي إزدادت سيطرة الوهابيّون على مفاصل الدولة في كل من تونس ومصر وليبيا، وإزدادت بطبيعة الحال سيطرة الإخوان المسلمون أيضاً في تلك البلاد مع المغرب والسودان وغزّة وكان كل هذا على حساب العلاقات مع الإخوة المسيحيّين في مصر وفي العراق على وجه الخصوص وفي لبنان وسوريا على وجه العموم.  
يحدث كل هذا التأجيج لنار العداوة والكراهيّة بفضل التفكير السلفي المتشدّد والذي ينادي بدولة إسلامية "نقيّة" من الثقافات والمعتقدات الأخرى على إعتبار أن كل ما هو غير إسلامي فهو كافر لا يمكن إتمان شرّه. طبعاً الوهابيّون يحفظون القرآن عن ظهر قلب لكنّهم يفلحون في نسيان أو تناسي مالا يهمّهم من كلام الله. يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}، وقال: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}. 
   
وختاماً... قال الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، وقال أيضاً: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ }... فهل نتبع كلام ربّنا ونتخلّى عن شيفونيّتنا؟. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك