2012/03/12

شتّان بين من يئد الحياة وبين من يصنعها

 الصراع بين العقل والعاطفة يعيش مع الإنسان منذ أول خلقه وسوف يظل معه إلى قيام الساعة. عندما ينتصر العقل يتمكّن الإنسان من الإنتقال إلى الأمام ... فكل شئ في حياتنا هو مبني على المنطق، لكنّنا أحياناً نعجز عن فهم منطق الأشياء لقصور في تفكيرنا مع أنّنا نعتبر من أنفس مخلوقات الله على الأرض.

حاولت مجموعة من الشباب الليبي ممّن يؤمنون بالفكر السلفي الهجوم على ضريح الشيخ عبد السلام الأسمر في زليطن بهدف تدميره. يقول هؤلاء الشباب بأن السبب وراء هذه المحاولة هو إبعاد الناس عن عبادة "الأصنام".
  
الشيخ عبد السلام الأسمر الفيتوري
إسمه: عبد السلام الأسمر بن سليم الفيتوري الإدريسي الحسني، يرجع نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت رسول الإسلام محمد . ولد عام 880 هـ الموافق 1475 م بمدينة زليتن الليبيّة، وتوفّي ودفن بها عام 981هـ الموافق 1573 م. وسمّي الشيخ عبد السلام بالأسمر لأنّه كان يحيي الليالي سمرًا في طاعة الله.

يعدّ الشيخ عبد السلام الأسمر من أهم علماء ودعاة الإسلام في القرن العاشر الهجري، فهو من فقهاء المالكية وعالم في عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن أبرز مشائخ التربية والسلوك على منهج أئمة التصوّف. يعتبر الشيخ عبد السلام الأسمر من أهم ركائز الحركة العلميّة والدعويّة في المغرب العربي. تضمّن منهجه الدعوي والإصلاحي الإهتمام بمختلف طبقات المجتمع ولم ينحصر على الطبقة المتعلّمة، الأمر الذي جعله قائداً روحيّاً وبمثابة حجر زاوية لرسوخ الإسلام في المغرب العربي. وعلى الرغم من مضي أكثر من 500 سنة على وفاته، فإن أثر أعماله الحسنة ما يزال واضحا ومؤثرا على الصعيدين العلمي والاجتماعي في ليبيا وخارجها.


أسّس الشيخ عبد السلام الأسمر الزاوية الأسمريّة عام 912 هـ (1491 م) بمدينة زليتن بغرب ليبيا ،وحملت منذ ذلك الوقت اسم مؤسسها ،وتعد هذه الزاوية أحد أهم المراكز الإسلامية في ليبيا وذلك لدورها الكبير في نشر تعاليم الإسلام منذ أكثر من خمسة قرون..كما أنها تعتبر حلقة وصل ربطت بين أهم المراكز الإسلامية في شمال أفريقيا فهي أهم مدرسة إسلامية تقع بين جامع الأزهر في مصر شرقاً وبين جامع الزيتونة بتونس غرباً وصولا إلى جامعة القرويين بفاس. ولا يزال هذا المركز الإسلامي يحظى باهتمام كبار العلماء المسلمين، فقد قام بزيارته علماء مهمّين على مستوى العالم الإسلامي وألقوا في المسجد و الجامعة العديد من المحاضرات والدروس.

الجامعة الأسمريّة بزليطن
أُنشأت الجامعة الأسمرية عام 1993 وبدأت في التدريس عام 1994م، ودور هذه الجامعة هو الإهتمام بالعلوم الشرعية واللغوية وإحياء التراث الإسلامي وتخريج الدعاة المؤهلين لهذا الغرض؛ وتوجد بالجامعة ثلاثة كليات هي: كلية الشريعة، كلية أصول الدين والدعوة ، وكليّة اللغة العربيّة. ويدرس بهذه الكليات طلاب من جميع أنحاء ليبيا ومن خارجها أيضاً.

ومن الجدير بالذكر أن تلاوة القرآن لم تنقطع في زاوية الأسمر منذ أكثر من 500 سنة أي منذ تأسيسها ولا تزال كذلك إلى أن قرّر المجلس الإنتقالي إقفاله مؤقّتاً بعد ما حدث حوله يوم الأمس من قبل السلفيّين الذين كانوا يعتقدون بأن الناس في ليبيا قد تبدأ في عبادته بدل الله رغم مرور أكثر من 500 سنة ولم يشهد التاريخ في أي يوم من الأيام بأن أحداً في ليبيا أو خارجها إعتقد في الشيخ عبد السلام الأسمر أو أخذ يعبده، أو يعتبره شريكاً لله.

السلفيّون والسلفيّة
السلفية هي منهج إسلامي يدعو إلى فهم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وهم الصحابة والتابعين وتابعي التابعين باعتباره يمثل نهج الإسلام الأصيل والتمسك بأخذ الأحكام من القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة ويبتعد عن كل المدخلات الغريبة عن روح الإسلام وتعاليمه، والتمسك بما نقل عن السلف دون تجديد أو إضافة.

برزت السلفيّة بمصطلحها الحالي على يد "أحمد بن تيمية" في القرن الثامن الهجري، وقام "محمد بن عبد الوهاب" بإحياء هذا المصطلح من جديد في منطقة نجد في القرن الثاني عشر الهجري والتي كانت الحركة الوهابية من أبرز ممثلي هذه المدرسة في العصر الحديث. من أهم أعلامهم: عبد العزيز بن باز، ومحمد ناصر الدين الألباني، ومحمد بن صالح بن عثيمين، و يعقوب الباحسين.

كان "أحمد بن حنبل" من أوّل من سنّ التفكير السلفي، لكن هذا المذهب إنحسر بعد ذلك بسبب تنافس الحنبليّون والأشاعرة إلى أن قام "إبن تيميّة" بإحيائه من جديد؛ لينحسر مرة أخرى بعد ذلك بسبب إختلاف المسلمين في قبول والإعتراض على تفكير علماء السلفيّة حتى كاد هذا المذهب أن يندثر نهائيّاً إلى أن قام "محمد بن عبد الوهاب" في شبه الجزيرة العربية بإعادة الحياة إليه بعد إندحارالخلافة العثمانيّة.

تبنّى مؤسّسوا تنظيم الإخوان المسلمون التفكير السلفي وأعتقدوا به من أمثال حسن البنّا وسيّد قطب؛ ثم تبنّى نفس المنهج كل من عبد الله عزّام، أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري.

ينتشر السلفية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فيتواجدون في شبه الجزيرة العربية واليمن ومصر والعراق والشام وشمال إفريقيا والملايو. وتتبنّى السعودية الفكر السلفي بشكل رسمي.

يعتقد السلفية بأن البدعة هي: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالسلوك على الطريقة الشرعية. وبحسب هذا التعريف؛ فمن معالم العقيدة السلفية كراهيتهم لما يعتبرونه بدعًا. كما يبغض السلفيون من يعتبرونهم أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم. ويحذرون منهم ومن بدعهم، ولا يألون جهداً في نصحهم وزجرهم عن بدعهم.

يعتقد البعض أن السلفية يمنعون زيارة القبور ويحرمونها، أو يعتبرونها من أبواب الشرك أو الكفر. والحقيقة أن السلفية يجيزون زيارة القبور للإتعاظ والتدبر، والتفكر فيما إليه المآل من موت وحساب، ويعتقدون أنه قد وردت نصوصٌ صحيحة في الحث على زيارة القبور لأنها تذكّر بالموت.

يعتقد السلفيّة أن الإحتفال بالمولد النبوي هو أمر مبتدع غير مشروع، أوّل من قام به هم العبيديّون (المعروفين بالفاطميين). وأن الإحتفال بالمولد النبوي لم يقم بعمله أحد من السلف الصالح، ولذا فهم ينكرون الإحتفال به وينهون عن إقامته.

لا يؤمن السلفيّون بالديموقراطيّة، ويرون أن التشريع لله وحده أما السلطة التنفيذية فهى للشعب وأن الشورى تختلف عن الديموقراطية وأن الديموقراطية تسمح بتقدم الضالّيين فكريّا أو العلمانيّين للسلطة ويرون أن الديمقراطية تجعل البشر يصوّتون على أحكام الله ويرون أن نظام الحكم يجب أن يكون بالشورى الذين هم أهل العلم والأذكياء والباحثين في الدين.

لا يعترف السلفيّون بمفهوم الدولة المدنيّة، ويعتبرون ذلك مرادفاً للدولة العلمانيّة فيقولون: يحلو للمطالبين بتطبيق نظام الحكم العلماني في بلادنا أن يُسمّوه: نظامًا مدنيًا؛ هروبًا مِن الظلال السيئة لكلمة: "العلمانية"؛ ولأن كلمة: مدنية قد تُظن أنها ضد العسكرية أو ضد الهمجية مما يضفي عليها قبولاً، بينما يريدون بها: الدولة العلمانية التي تفصل الدين عن الحياة؛ لا سيما وأن معظمهم يُظهِر تدينًا في الجزء الذي تسمح به العلمانية العلاقة الخاصة بين العبد والمعبود الذي يختاره!

من هنا نرى بأن السلفيّة يعترضون على كل أشكال الحكم العصريّة، ولا يؤمنون في الغالب بفكرة الإنتخابات، بل هم يفضّلون النهج القديم الذي يستند على فكرة "المبايعة".

ينصح السلفيّون أيضاً بعدم الإستماع إلى الموسيقى، ولا يجيزون الرقص حيث يعتبرونه فتنة. كما أنّهم يكرهون احتفال الأطفال بأعياد ميلادهم، والمتزوجين بالذكريات السنوية لزواجهم، ويكرهون أيضاً الرسم والنحت والتلوين، كما يمنعون إقامة النصب التذكاريّة ولو كانت لأبطال مشهورين.

السلفيّون ونظام حكم الطاغية القذّافي
أغلب المعلومات المتوفّرة عن حياة معمّر القذّافي في صغره أنّه نشأ في بيئة دينيّة متشدّدة كان يغلب عليها الطابع السلفي، وظلّ الأمر كذلك إلى آواخر الخمسينات حين تأثّر معمّر القذّافي بالفكر البعثي الذي أدّى به في النهاية إلى إعتناق الفكر الناصري في فترة الستّينات.

عندما إستولى معمر القذافي على السلطة في ليبيا عام 1969 كان متأثّرا بشكل كبير لدرجة "التشدّد" بالفكر الناصري. وكما نعرف فإن جمال عبد الناصر رغم ثقافته السلفيّة في صغره إلاّ أنّه إنقلب على الإخوان المسلمون بعد محاولتهم الإنقلاب عليه بهدف إفتكاك الحكم منه. كان السلفيون هم الضحيّة الثانية بعد الإخوان المسلمين نتيجة لوجود صلات وثيقة بين الفكرين. حارب القذّافي منذ البداية ( عام 1971) التنظيمات الإسلاميّة من أمثال حزب التحرير، وتنظيم الإخوان المسلموين، والسلفيين، وبقيّة التوجهات الدينية المتشددة. كان نظام الطاغية القذّافي قاسياً على أتباع هذه التنظيمات مما حدا بالكثير منهم للهجرة خارج البلاد وكانت السعودية هي وجهتهم الأولى حيث تشرّبوا هناك من الفكر الوهابي الذي دفعهم للذهاب إلى فلسطين ( حماس)، وإلى أفغانستان ( الطالبان والقاعدة).

إستمرّت محاربة القذّافي للتنظيمات الإسلامية حتى آواخر التسعينات حيث تمكّن من القضاء على محاولات الجماعة الليبية المقاتلة للإستيلاء على المناطق الشرقية بهدف إنشاء إمارة إسلاميّة عاصمتها بنغازي. سجن القذّافي منهم من سجن، وقتل منهم من قتل ( وكان من بينهم ضحايا سجن أبوسليم) إلى أن إستسلم له هؤلاء المتشدّدون بالكامل في سبتمبر 2009 حين أصدرت الجماعة مراجعاتها الفضيحة، وحين تحوّل الإسلاميّون إلى دعاة لطاعة " وليّ الأمر" وتحريم الخروج عليه بأي شكل من الأشكال؛ وكان الشيخ الطاهر الغرياني من بين أولئك الذين دعوا الليبيّين إلى عدم الخروج على الحاكم بإعتباره ولي الأمر... ولي الأمر (الراعي) طاعته واجبة على كل فرد من رعيّته بغض النظر عن مساوئه.

بعد الإشتباك مع الجماعات المسلّحة في فترة التسعينات قرّر القذافي ( بالتأكيد بعد أخذ نصيحة من خبرات إستخباراتية عالمية) إحتواء هذه المجموعات بدل مواجهتها مباشرة، وخرج علينا حينها بنظرية "إعادة الدولة الفاطميّة"، وأرسل إبنه الساعدي إلى السعوديّة فعاد منها ملتحياً وربما أصبح سلفيّاً ولو لفترة قصيرة من الزمن.

بدأ القذافي يتقرّب من الإسلاميّين بشكل ملفت للنظر حتى أنّه سمح بإطلاق اللحي، وفتح الكثير من مدارس تحفيظ القرآن إلى أن أصبحت ليبيا في عهده تسمّى ببلد "المليون حافظ" للقرآن.

تعاضمت علاقة الطاغية القذّافي مع الإخوان المسلمين بقيادة الدكتور علي الصلاّبي والتي أدّت إلى حدوث تقارب كبير بينه وبين السلفيّين، وبقيّة التنظيمات الإسلاميّة الأخرى بما فيها المتصوّفة حتى خرج العديد من السلفيين يدعون إلى إطاعة الحاكم وتحريم الخروج عليه أو محاربته.

كانت علاقة الطاغية القذافي في آواخر أيّام حكمه قويّة جدا بالإسلاميّين، وبدأوا بالفعل ينشرون فكرهم الوهابي ( السلفي) بين الشباب حتى أصبح أغلب الليبيّون يصلّون بوضع اليدين فوق بعض على الصدر بعد أن كان أكثر من 90% من الليبيّين يصلّون على مذهب الإمام مالك القاضي بوضع اليدين ممدودتين على جانبي الجسم.

الطاغية القذافي إستفاد بشكل كبير من تلك العلاقة "الحميميّة" بينه وبين السلفيّين والإخوان لأنّه رأى فيها ضمانة أكيدة لإستمرار حكمه بفتاويهم التي تحرّم الخروج على الحاكم أو محاربته. تلك هي نفس الفائدة التي تنعم بها أسرة آل سعود الحاكمه في السعوديّة وذلك بتقاربها من الوهابيّين (السلفيين) الذين تعطى لهم الحريّة في السعوديّة بممارسة فكرهم المتشدد على السعوديّين بما في ذلك جماعات "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" التي تتدخّل في كل صغيرة وكبيرة في حياة المواطن السعودي بما فيها التدخّل بين الرجل وزجته وأطفاله تحت ذريعة حماية دين الله.

إن العلاقة الحميميّة بين السلفيين ونظام معمر القذافي تجعلني أخشى بأن يكون أولئك الذين يهاجمون المقابر وينبشون القبور، وأولئك الذين كانوا ينوون تدمير منارة زليتن العلميّة هم في واقع الأمر ربّما يكونون من أزلام القذّافي (الطحالب). إن الهمجيّة التي يتصرّف بها أولئك السلفيّون لتدل على أنّهم ينتهجون نفس إسلوب الطاغية القذّافي الهدّام والذي يتم عادة بطريقة فجة ومستهجنة ومهينة لكل الليبيّين بحيث تقوم قلة منبوذة من المجتمع بفرض رأيها على الأغلبية من أبناء الوطن بإسلوب غجري بعيد عن روح وفلسفة ثورة 17 فبراير التي تنادي بالديموقراطيّة وعدم فرض رأي الأقليّة بقوة الطغيان ولغة السلاح والتهديد.

علينا أن نحذّر هؤلاء السلفيّين الذين يقومون بمهاجمة قبور الأولياء والمجاهدين بهدف ظاهري عنوانه "محاربة البدع" وهدف حقيقي عنوانه نشر الفوضى في البلاد بهدف إشعال نار الفتنة وروح الإنتقام بين الليبيّين مما قد يؤدّي إلى نشوب حرب أهليّة يكون المستفيد الوحيد منها هم أزلام القذافي وبقايا نظامه البائد.
وختاماً في هذا الإطار... المستشار مصطفى عبد الجليل قال لدى إستقباله لسفير دولة الإمارات العربية المتحدة: إن ليبيا ترغب في أن تنتهج خط دولة الإمارات العربية المتحدة لإحداث التقدّم بعد ثورة 17 فبراير. وقد قمت بالتعليق على ذلك التصريح الذي يحمل رغبة حقيقيّة من طرف السيّد المستشار:

الإمارات العربيّة المتحدة وإمارة قطر كانتا السبّاقتين في سبر أغوار المستقبل مقارنة ببقيّةالدول العربيّة.

لبنان كما نعرف سبق جميع البلاد العربيّة في قضايا التحرّر والثقافة والفنون والديموقراطيّة، لكن لبنان يمتلك القوى البشريّة الفاعلة، والعقليّة المتفتّحة بدون إمتلاكه للثروات الطبيعيّة؛ وهذا العامل كان من بين الكثير من العوامل الأخرى التي حالت بين لبنان والمزيد من التقدّم العمراني الذي نتحدّث عنه هنا.

في المقابل نجد أن المملكة العربيّة السعوديّة تمتلك ثروات هائلة لا مثيل لها في أية دولة عربيّة أخرى ( تصدّر السعوديّة ما يزيد عن 10.5 مليون برميل من النفط يوميّاً.. سعر برميل النفط يتجاوز 127 دولار هذه الأيّام ) لكنّنا ما زلنا نرى السعوديّة بعيدة عن منافسة الإمارات وقطر وحتى الكويت، وربّما عمان أيضاً. كذلك فإن السعوديّة تمتلك قوّة بشريّة هائلة ( أكثر من 27 مليون نسمة حسب تعداد 2010) مقارنة بدولة الإمارات ( 825 ألف نسمة حسب تعداد نفس السنة).

السبب الرئيسي الذي أخّر السعوديّة عن جاراتها العربيّات هو سيطرة السلفيّين على القرار السياسي السعودي وهؤلاء لا يفكّرون في المستقبل لأنّهم يخافون منه، بل إنّهم ينظرون إلى الوراء ويتشبّثون بعقلية "السلف الصالح" الذي عاش في وقت هو غير وقتنا وفي عصر هو غير عصرنا..... وهنا يكمن أحد الأسباب.

كذلك فإنّ النظام الحاكم في السعوديّة هو نظام حكم عائلي متخلّف ومتهالك بجميع المعايير، وهذا النظام المنغلق على نفسه يعشعش فيه الفساد وتغيب فيه الشفافيّة. كما أن طبيعة العقليّة الدينيّة المتكلّسة التي يفرضها السلفيون في السعوديّة تفرض على الناس عدم الخروج على الحاكم بإعتباره "ولي الأمر" الذي تجب إطاعته مهما عمل، ويحرّمون على الناس إنتقاد العائلة الحاكمة في حين يسكت اولئك السلفيّون على مفاسد ومظالم هم يعرفونها جيّداً وهي تقترف يوميّاً في تلك المملكة المنغلقة على نفسها؛ لكنّهم يسكتون على كل تلك المفاسد لأسباب يعلمها الله... وربّما يعلمونها هم أيضاً.

العلمانيّون... هم من يصنع الحياة
كما سبق لي تعريف العلمانيّة بأنّها تعني الإحتكام إلى العلم والتقنية لصنع التقدّم ( صنع الحياة) فإنّني هنا سوف أتعرّض لمثالين غاية في الأهميّة حيث يحاول أصحاب العقول والأفكار النيّرة صنع الحياة من أجل البشريّة جمعاء:
1- تمكّن العلماء في جامعة نوتنجهام ببريطانيا من توضيح الكيفيّة التي بواسطتها تستطيع الدودة الشريطيّة من تجاوز عملية الشيخوخة بطريقة تتمكّن خلالها هذه الدودة من البقاء على قيد الحياة إلى الأبد.


نتائج هذا البحث تم نشرها في الأكاديميّة الوطنيّة للعلوم البريطانيّة، وهذه النتائج العلميّة قد تسلّط الضوء على إمكانيّة القضاء على عوامل الشيخوخة في خلايا جسم الإنسان ومردود مثل هذا العمل على الكثير من وظائف جسم الإنسان بما في ذلك موت الخلايا الدماغية الأمر الذي يؤدّي إلى فقدان الذاكرة. كذلك يمكن الإستفادة من نتائج هذا البحث في تمكين أعضاء الإنسان من إعادة تخليق نفسها من جديد بحيث تساعد كل هذا العمليّات في المستقبل على منع حدوث الشيخوخة في الجنس البشري، ومنع الخلايا من التشيّخ بما في ذلك خلايا الجلد.

العلماء أنفسهم قالوا إنّهم لو عرفوا السر الذي به تتمكّن الدودة الشريطية من إعادة تخليق نفسها عن طريق دراسة حامضها النووي فإنّهم سوف يستطيعون في المستقبل الإستفادة من هذه المعلومة من أجل الجنس البشري. أحد هؤلاء العلماء هو عربي ومسلم لمن يريد أن يعرف.

2- الخبر العلمي الثاني يقول بأن العلماء تمكّنوا من إنتاج هجين من حبوب القمح بإمكانها النمو والتكاثر في الأراضي الملحيّة، وهذا بدوره سوف يعمل على إطعام بلايين من البشر خاصة وأن هناك تناقص في المياه ومساحات الأراضي الصالحة للزراعة نتيجة لعوامل التصحّر وإرتفاع نسبة الملوحة في الآراضي الزراعيّة .


الأنواع المهجّنة من القمح ليس فقط أنّها تنمو وتثمر في أراضي السبخة المالحة، لكنّها أيضاً تعتبر أكثر إنتاجاً بمقدار 25% من مثيلاتها السابقة.

 الجين الوراثي المطوّر إسمه TmHKT1;5-A وظيفته تكمن في مقدرته على إزالة الأملاح من الماء الممتص بجذر النبات وتمنع تسرّبها إلى ورقة النبات مما يساعدها على النمو ومن ثمّ إنتاج حبوب القمح. هذا البحث قام به العلماء في جامعة أديلاد الأستراليّة. 
هذا النوع من بذور القمح المهجّنة نحن في أمسّ الحاجة إليها نظرأ لكثرة الأراضي السبخويّة في ليبيا من زوارة غرباً وحتى بنغازي شرقاً مروراً بتاورغاء.

هؤلاء هم العلماء الحقيقيّون الذي يشحذون عقولهم من أجل سعادة ورخاء البشريّة بدون تمييز؛ بدل علمائنا (علماء الدين) الذين لا يفقهون في غير قصص وسير السابقين بدون تكليف أنفسهم عناء عقد الندوات فيما بينهم بهدف تجديد التراث الذي يتوارثونه منذ أكثر من ألف سنة بما فيه من تضارب وإضافات وآكاذيب أضيفت إلى الدين الإسلامي البعد أن أكمله الله للناس في قرآنه المقدّس.

لماذا لا يجتمع كل علماء المسلمين في جميع بلاد العالم في ندوات تشاورية بغرض طرح كل ما هو متداول من كتب وسير وآحاديث وفتاوي ومذاهب والقيام بتمحيص كل شئ للخروج بخلاصة عصريّة موحّدة يتفق عليها كل المسلمين في العالم مما قد يؤدّي إلى توحدهم؟.

هل يستطيع علماء المسلمين أن يجتمعوا ويتفقوا على الخروج بمذهب موحّد لدين واحد يتبعه جميع المسلمين بدل هذا التطاحن فيما بينهم؟. أنا متأكّد بأنّهم سوف لن يفعلوها على الإطلاق، فأغلبهم هم ليسوا صادقين فيما يدعون إليه، ولا يوجد عندهم إخلاص في أيمانهم بالله؛ وإلاّ كيف يقبل العقل أن يقتل المسلم ( في العراق والصومال وباكستان وأفغانستان وقبلها الجزائر ومصر والمغرب) أخاه المسلم وهو في المسجد يصلّي؟. ألم يقتل عثمان وهو يصلّي؟.

وعودة لأهلنا في ليبيا
الدين الإسلامي كان الله قد أكمله قبل وفاة الرسول عليه السلام، وقال ربّنا ذلك بكل وضوح: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } فلماذا نحن نحاول في كل مرّة الإضافة إليه حتى أصبح معظم ديننا يأتينا من آحاديث بعضها منتاقض، وبعضها غير متفق عليه، وبعضها ملفّق ولا علاقة لرسول الله به أبدأً.

قال الله تعالى: { ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } لماذا إذاً أيّها الإخوة ينصّب بعضنا من أنفسهم أوصياء على الدين ؟.

الإسلام دين الحياة، وهو يعني العلاقة بين الخالق والمخلوق؛ فإن صلحت علاقة المخلوق بالخالق صلحت علاقة المخلوق بأخيه.. تلك هي رسالة الإسلام بنقائها وبساطتها وعدلها.

قال الله تعالى في كتابه العزيز: { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ }. إذاً... هذا هو الله خالق الكون ومن عليه يقول لنا من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر... فلماذا نحن نرغم الناس على الإيمان، ونكرههم على فعل ما نريدهم أن يفعلوه؟.

أنا أرى بأن الإخوة الذين تعمّقوا في الدين، ونهلوا من علومه وأدابه عليهم ألاّ يفرضوا أنفسهم على الناس، وعليهم ألاّ يجبروا الناس على فعل ما يؤمنون به هم. يقول الله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }. نعم... قالها الله تعالى لنبيّه عليه السلام... وما أنت عليهم بوكيل. دعهم يا محمد في ضلالهم إن هم لم يريدوا الهداية. الذين أتخذوا من دونه أولياء فليستمرّوا في طغيانهم ولا تهتم بشأنهم... تلك هي أوامر الله للنبي؛ فأين أنتم يا من تفرضون على الناس ما تعتقدون، وتقومون بنبش القبور، وتهديم الأضرحة، وتسعون للهجوم على مدينة جامعيّة في زليتن بحجة أن تلك المعالم تعتبر حسب فهمكم دواع للشرك بالله. قال الله تعالى لنبيّه: والذين إتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل... فكيف بكم يا إخوتي يا أبناء ليبيا الحبيبة تتحوّلون إلى وكلاء على من أتخذ من الشيخ عبد السلام الأسمر وليّاً؟.

أنا أرى أن من أهم واجبات رجل الدين هو تبصير الناس وتوعيتهم والدعوة إلى سبيل الله بالتي هي أحسن، أما موضوع تهديم الأضرحة ونبش القبور فتلك الأعمال تعتبر تخريبيّة ومن واجب الدولة حماية أمنها من الخارجين عن القانون والنظام.

أنا طبيب متخصّص مهمّتي في الأساس هي الإستماع إلى شكاوي الناس بكل هدوء وإنصات بهدف جمع المعلومة السليمة، وبعدها أقوم بالكشف على مرضاي وفق مقتضيات تجميع المعلومات التي تساعدني على تشخيص العلة؛ وبعدها عليّ أن أصف العلاج بناء على التشخيص الذي توصّلت إليه. من واجباتي كطبيب أن أتحدّث إلى مريضي وأشرح له بإفاضة عن مرضه، وأجيب على أسئلته، ثم بعد ذلك أعرض عليه علاجاً مناسباً أشرح له الكيقية التي يعمل بها وأذكر له قائمة المضاعفات المرتقبة من هذا العلاج.. وبعد ذلك أترك له الخيار. لا يحق لي مطلقاً فرض العلاج على المريض الذي بإمكانه إتخاذ القرار أو التصرّف بعقلانيّة.

دعيت في نهاية الأسبوع الماضي لفحص مريضة في قسم الولادة كانت قد حدثت لها نوبة صرع بعد إنجاب طفلها. بعد أخذ المعلومات اللازمة، وبعد الفحص السريري المناسب، وبعد توفّر نتيجة التخطيط المخّي تبيّن لي أن هذه السيّدة تعاني من صرع شمولي ( كلّي) وهي تحتاج إلى علاج.

شرحت للمريضة في وجود زوجها عن نتيجة التحليل، وذكرت لها بأنها تعاني من حالة صرع، ونصحتها بأخذ العلاج. بكل تأكيد حدّثتها عن العلاج المقترح لحالتها، ولماذا إخترت لها هذا النوع من الدواء. ذكرت لها كيقية العمل، والطريقة التي تعدّل بها الجرعات في المستقبل القريب، ثم ذكرت لها المضاعفات المحتملة.

بعد حسن إستماع، وبعد الإجابة على أسئلتها وأسئلة زوجها قالت لي بأنّها لا ترغب في أخذ العلاج الآن. لم أغضب منها، ولم أنهرها، ولم أجبرها بل إنني قمت بشرح المشاكل المتوقّعة عليها وعلى رضيعها إن هي لم تأخذ الدواء؛ لكنّها أصرت على أنّها لا ترغب في أخذ الدواء الآن، ووافقها زوجها على ذلك. القصة لها توابعها، لكنّني لم أفرض على هذه المريضة أخذ العلاج مع أنّني أعرف بأنّه يتوجّب عليها أخذ الدواء للتحكّم في نوبات الصرع. تركتها لشأنها كي تفكّر في الموضوع لتعود إليّ متى قرّرت تغيير موقفها.

هكذ نحن الأطباء.. نعرف الكثير من الممارسات الخطأ في المجتمع، ونعرف بأن الناس تتداوى أحيانا بالأعشاب، وأحياناً بالكي، وأحيانا بالكتاتيب وأحياناً بالتسبيب، وأحيانا بالحضاري، وأحياناً بالتبرّك بالشيخ (الولي) وغيرها من الممارسات الغير مجدية والغير نافعة والتي لا نرضى نحن معشر الأطباء عنها بأي شكل من الأشكال؛ لكن لا أحد منا على الإطلاق يخرج ليلاً فيقوم بتحطيم مزار الولي، أو بيت التقازة، أو زاوية الشيخ الذي يكتب، أو عيادة الفقيه الذي يقوم ب"التعزيم" وطرد "الجن". نحن دورنا لا يتعدى التوعية والنصح والتنوير؛ أما عدا ذلك فللناس أن تختار ما يناسبها. لماذا لا تفعلون مثل ذلك تماماً يا من تسمّون أنفسكم بالسلفيين؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك