2012/01/03

الدعوة لإنشاء مجلس للإفتاء

التفكيربعقليّة الماضي لا يصنع المستقبل، والنظر إلى الغد لا يعنى مطلقاُ قطع العلاقة مع الماضي... لكن التقدّم لا تصنعه العواطف.

من طبيعة البشر البحث عن أسباب البقاء كضرورة، والعمل على الإنتقال من هنا إلى هناك كنتيجة حتميّة لسعي الإنسان نحو إكتشاف المجهول؛ فالبشر كانوا قد خلقوا وخلقت معهم ملكة "حب الإستطلاع" التي دائماً تنتهي إلى مفاجآت بعضها حميد وبعضها مضر، غير أن ذلك لم يمنع البشر من الإستمرار في البحث عن المجهول من أجل إكتشاف "الغير معلوم" بغية الإنتقال إلى الأمام (التقدّم).

طبيعة البشر هذه مكّنتهم من الإكتشاف والإختراع والتعلّم، وكلّما إكتشف المرء شيئاً كلّما بحث عن خفاياه، وكلّما إخترع شيئاً بحث عن روافده وتتبّع مآلاته؛ الأمر الذي زاد من عبء المسئوليّة على كاهل هذا الإنسان فلم يقف عاجزاً بل إنّه إهتدى إلى "التخصّص" في مكوّنات الحياة المختلفة بما مكّنه من التعمّق في الجزئيّة على حساب الكليّة وهذا بدوره خلق الكثير من المشاكل التي عمد الإنسان إلى إبتكار الحلول العمليّة لها بما مكّنه الله من ملكات ذهنيّة، وقدرات حركيّة قابلة للتكيّف والتطوّرحسب مقتضيات الحاجة.

كان العلماء القدامى يفقهون في كل شئ – أو كما كانوا يتوهّمون – فنجد مثلاً أن "إبن سينا" كان طبيباً، وكان يتخصّص أيضاً في الفلسفة، والرياضيّات، وعلوم الطبيعة، وفي الموسيقى، وغيرها من التخصّصات في وقته، ويقال بأنّه كان قد ألّف 200 من الكتب في مواضيع مختلفة.

 
كذلك كان "الفارابي" متخصّصاً في الطب، والفلسفة، والطبيعة، والموسيقى، وغيرها من إهتمامات زمانه. كان العلماء في ذلك الوقت لايجدون حرجاً في التخصّص في أكثر من مجال.... فتلك كانت ثقافة عصرهم.

الحياة تطوّرت عبر العصور، ومتطلبات الإنسان أيضاً إزدادت تنوّعاً وإزدادت تكيّفاً وهذا فرض التخصّص على العلماء من البشر حتى يتسنّى لنا اليوم أن نجد علماء متخصّصين في جزء من الذرّة أو إحدى مركبّات الحامض النووي على سبيل المثال وهذا بدون شك كان إستجابة طبيعيّة لمتطلّبات الحياة العصريّة.

وحيث أن الطبيعة التي نعيش فيها خلقها الله ملوّنة ( والتلوّن هنا يعني التنوّع أيضاً) فإنّها تحتاج إلى تمازج عدة ألوان للظهور إلينا بذلك الجمال الخلاّب الذي يسرّ النظر ويبعث الإرتياح في مشاعرنا؛ فإنّه ونتيجة لذلك أصبحت حياتنا ملوّنة ( تحصيل حاصل) وحركيّة (ديناميكيّة)، وحتماً هذا يحتاج إلى تكامل في مختلف تخصّصات الحياة، وهو ما يعني تعاون العقول وتمازج ملكات التفكير من أجل رسم صور جميلة ومتنوّعة تحسّسنا بالسعادة والإرتياح عندما ننظر إليها وحين نعيشها بدل تلك الرتابة والبؤس والكآبة التي تنتجها "الأحاديّة" في التفكير، والجمود ( الستاتيكيّة) في العمل.

من هنا أستطيع القول بأنّنا في حاجة إلى تمازج العقول، وتكامل الأفكار حتى تمتلئ حياتنا بالإبداع وتصبح جديرة بالعيش فيها بكل سعادة وإرتياح. حياة ملوّنة هي حديقة غناء تجلب السعادة، وتفتح أفق التفكير، وتدفع نحو الإبداع والمضي قدماً بتسارع يتوافق مع دوران ساعة الزمن التي تسير إلى الأمام، ولا تعرف الإنتظار أو الدوران إلى الخلف.


خلاصة القول .. إن عالم اليوم ليس هو بعالم الأمس، وإحتياجات الحياة في عصرنا الحاضر ليست هي إحتياجات الحياة في عصر "السلف"؛ ومن ثمّ فإنّ "المفتي" يجب أن يتحول من فرد إلى أفراد، وبدل أن "عالم دين" يرى الحياة بمنظاره، نحن في أمسّ الحاجة إلى عالم علم، وعالم إقتصاد، وعالم فضاء، وعالم سياسة، وعالم علاقات دوليّة ليفتئ لنا كلّ حسب تخصّصة في المجال الذي نحتاج فيه إلى فتواه. لايمكن في عالم اليوم أن يفتئ عالم الدين في الإقتصاد، ولا في التجارة، ولا في السياسة، ولا في الديبلوماسيّة، ولا في المواصلات، ولا في الزراعة لأن المعايير تغيّرت، ولأن المفاهيم تغيّرت، ولأن متطلّبات حياتنا العصرية هي نفسها تغيّرت بتلك السرعة التي لم يتمكّن معها عقل "رجل الدين" من محاكاتها أو الإلمام بكل أطرافها وتشعّباتها.
من هنا فإنّني أطالب بأن لايتحكّم في حياتنا رجل دين بمرتبة "مفتي"؛ وإنّما أنا أدعو إلى تأسيس مجلس للإفتاء يمثّل أعضاءه كل مشارب الحياة وتشعّباتها حتى تكون "الفتوى" أو "الفتاوي" التي نبحث عنها بمثابة "إستشارة" متخصّصة تفيد الجميع ولا تتعارض مع مفاهيم وتفكير الباحثين عنها.

أنا شخصيّاً أرى أنّه من مصلحة بلادنا، ومن أجل جيل الشباب الذي يعيش الواقع، ويتعامل مع آلة العصر ومعطياته... علينا أن نتحرّر من عقليّة "الفقيه"، وأن ننقل مهمّة الإفتاء في بلادنا من شخص واحد إلى "مجلس إفتاء" عصري ومتنوّع تتماشى عقليّة وثقافة أعضائه مع ثقافة العصر الذي نعيش فيه؛ حتى لا يحسّ الناس بأن الدين يقبع في أبراج عاجيّة معزولة عن حياة الناس، أو أنّه مخزّن في قوالب جامدة تفتح فقط للأخذ منها عند الحاجة إليها بدون أية محاولة جديّة لتجديد محتويات هذه القوالب أو ذلك القمقم الذي يربض هناك بعيداً عنّا ولا يستطيع التواصل معه إلاّ شيوخ الدين أو كما يفضّل هؤلاء أن يشار إليهم به "معشرالعلماء". 
علينا كمواطنين عاديّين أن نكون قادرين على التواصل مع ديننا الإسلامي بدون وسطاء حتى نحسّ بأنّه جزءً من حياتنا، وبأنّنا بالفعل في حاجة إليه فلا نضطرّ لفصل دنيانا عن ديننا كما فعل المسيحيّون من قبلنا في القرن الخامس عشر حين كان القساوسة يتحكّمون في حياة البشر بإسم الكنيسة، ويحتكرون العلوم على أنفسهم حماية للدّين.... حيث كانت العلوم عندهم هي فقط "علوم الكهنوت". ثارالمجدّدون في أوروبّا على الكنيسة، وتجافوا مع علماء الدين "القساوسة"، وهجروا الكنيسة تاركين إيّاها ل"رجال الدين" فتقدّم الأوروبيّون وتمكّنوا من صنع الحضارة الأوروبيّة التي يتنعّمون الآن بنتائجها بحيث أنّهم أصبحوا يتحكّمون بكل ثقة في إقتصاد وسياسة العالم. علينا أن نتعلّم الدرس بأن نزاوج بين الدين والدنيا حتى لا تخرج علينا أصواتاً من بيننا تطالب بفصل الدين عن الدولة بحجّة أن الدين يقف عائقاً في سبيل تقدّم الدولة.

أنا أعود هنا فأقترح للمرّة الثالثة بأن يتشكّل في ليبيا مجلساً للإفتاء يتكّون من 100 عضو يتوزّعون على الوجه الآتي ( وهذه مجرّد فكرة وهي بطبيعة الحال مفتوحة للنقاش والتعديل والإضافة حسب رأي المهتمّين في هذا الشأن) :

10 عضوا من رجال الفقه وعلوم الدين.
10 من رجال القانون والقضاء.
10 من كبار ضبّاط الجيش.
10 الإقتصاد والعلوم السياسيّة.
10 من رجالات العلاقات الدولية والسلك الديبلوماسي.
10 من علماء النفس وحقوق الإنسان.

10 من آساتذة الجامعات والتعليم.

10 من الأطباء والصيادلة.

05 من رجال التقنية والصناعة.

05 الأعمال الفنيّة والإبداعيّة.
05 من رجال الأعمال والتجّار.
05 من الفلاّحين والمزارعين.

ويجب أن تكون المرأة ممثّلة في هذا المجلس بشكل قوي، وذلك بما يتناسب وتمثيلها في المجتمع الليبي ( أي ما يقارب 50% من عدد السكّان) بحيث يمثّل عدد النساء في هذا المجلس ما بين 40 - 50% من مجموع أعضائه حتى لا يتحدّث أحد بإسم المرأة، وحتى لا يقوم الرجل بالتشريع لها نيابة عنها في غيابها.

مجلس إفتاء بهذا التنوّع المهني لا يمكنه أبداً أن يرى الأمور من زاوية ضيّقة، أو من خلال عيون وتفكير "رجال الدين".
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك