2011/06/05

ليبيا تفخر بتلاحم أبنائها

ترتفع من حين لآخر أصواتا تنادي بمعاملة من كانوا موظفين في نظام حكم القذافي على أنّهم جزء من ذلك النظام، ويجب الحذر منهم؛ بل إن هناك من يدعو إلى عزلهم والتبرئ منهم ربما على فكرة "إجتثاث البعث" التي طبّقت في العراق وبرهنت الأيام على غباء تلك الفكرة وقصر نظر أولئك الذين نادوا بتطبيقها، والذين وافقوا على تطبيقها.
علينا أن نكون حذرين حينما نتحدّث في مثل هذه الأمور من وجهة نظري، وعلى كل منّا أن ينظر إلى الأشياء بمنظار واسع وبتفكير أكثر واقعية.
الحياة لاتسيّرها المثاليّات؛ وإنّما كل شئ في عالمنا يعتبر نسبيا وإلا لكنّا حققنا أشياء أكبر مما نطمح إليه.
الشعب الليبي كما نعرف جميعا لا يعتبر شعبا مسيّسا، وهو بطبيعة الحال لم يمارس السياسة بمعناها الحقيقي ربما طيلة مدة وجوده على هذه الأرض..... بالطبع الحديث في السياسة هو ليس كممارستها.
عندما تم تغيير نظام حكم الطاغية "صدّام حسين" في العراق حدث كل ذلك على أيدي الجنود الأمريكيين مع وجود صوري لدول أخرى كان الغرض منه إعطاء الصفة ( الشرعية) الدولية لتلك الحملة (التحالف الدولي، أو المجتمع الدولي) ولكن كل الذي حدث أثناء وبعد الإطاحة بنظام "صدام حسين" كان صناعة أمريكية 100% بما في ذلك أولئك الذين جاءوا مع الأمريكيين من أفراد المعارضات العراقية التي لم تتمكن من لملمة امورها بعيدا عن التدخّل الأجنبي ( مؤتمر لندن).
بمجرّد إستلاءهم على العراق قام الأمريكيون بإلغاء كامل للجيش العراقي، وإلغاء كامل لأجهزة الشرطة والأمن، ثم ألحقوا ذلك بقرار "بريمن" الشهير: إجتثاث البعث..... وماذا كانت النتيجة؟
فشل العراق كدولة بالكامل؛ بل إن أغلب العراقيين الآن من وجهة نظري يبكون على نظام "صدام حسين" ليس حبّا فيه؛ وإنّما هروبا من الوضع المزري الذي يعيشه العراقيّون الآن، وكذلك رغبة كل العراقيين في العيش بأمن وسلام في بلادهم.
إنّ المعنيّين بالشأن الليبي يعرفون بأن الذي حدث في ليبيا منذ 15 فبراير عام 2011 وحتّى الآن يعتبر مختلفا تماما عن ذلك الذي حدث في العراق عام 2003 مع تشابه كبير في شكل ونظام الحكم في كلتى الدولتين، وفي شخصيّة الحاكم الطاغية مع التأكيد على أنّ طاغية ليبيا يعتبر أكثر شراسة ودمويّة من طاغية العراق المشنوق "صدام حسين".
حدثت ثورة ال 17 من فبراير في ليبيا من داخل ليبيا، وبشباب ليبي توّاق للحرية يحبّ بلده، ويكره الظلم. لم تكن هناك أيدي أجنبية على الإطلاق في الإنتفاضة الليبية، ولم تحدث الإنتفاضة الليبية بإيعاز من أية جهة خارجيّة، بل لم يكن هناك أيّ إشتراك مباشر من المعارضة الليبية في الخارج في الأيام الأولى للثورة الشبابية اللّهم إلا ذلك الدور الإعلامي والتحريضي الكبير الذي قام به أبناء الشعب الليبي المقيمين في الخارج سواء كانوا أفرادا أو منظويين تحت تنظيمات معارضة معروفة.
من هنا يمكن القول إن بدايات الثورة في ليبيا كانت مختلفة تماما عنها في العراق؛ ولكن بعد فترة قصيرة جدا من مسيرة إنتفاضة الشباب في ليبيا إنحرفت هذه الثورة ـ مرغمة ـ عن مسارها السلمي مع أنّها ظلّت محتفظة بنفس الأهداف التي تفجّرت من أجلها وكان الطاغية القذافي هو من دفع إلى كل ذلك؛ لأنّه كان يعرف يقينا بأنّه لم يكن بمقدوره مقاومة الغضب الشعبي في ليبيا الذي وصل إلى درجة الغليان التي أدّت إلى تلك الإنتفاضة السلميّة العارمة في كل ربوع ليبيا في الأيام الأربعة الأولى من الإنتفاضة؛ ذلك لأن الشعب الليبي ربما في كليّته ( مع إستثناء ما يقارب من 3% من المستفيدين من نظام القذافي) كان يكره القذافي، ويكره نظام حكمه المهلهل الذي كانت تعشعش فيه وتسيّره عصابات النفاق الثوري.
دُفع الشعب الليبي إلى إنتهاج طريق الثورة المسلّحة لإسقاط نظام حكم الطاغية القذافي ولم يكن ذلك من ضمن حساباته؛ بل إن أغلب أبناء الشعب الليبي لم يكونوا مستعدّين مما إضطرّهم للخضوع لسلطة الطاغية القذافي ولو إلى حين ( طرابلس، الخمس، ترهونة، زليطن، بني وليد، سبها، غريان، صبراته، وبقية المدن التي لم تنتفض بعد أو تلك التي أجّلت إنتفاضتها)؛ غير أن ابناء وبنات الشعب الليبي لن يخيفهم القذافي بكتائبه المسلّحة ولا بكتائب أمنه، ولا بلجانه الثورية التي نعرف عمق ولائها (المصلحي الزائف)  للقذافي. لم يتوقّف أبناء الشعب الليبي عن تحقيق هدفهم في الحرية والتغيير..... ذلك فقط لأن عزم هذا الشعب على التغيير كان جديّا، وكان يقينياّ.
عندما وصلت قوات الطاغية القذافي إلى منطقة قاريونس وبلغت مشارف منطقة البركة وهي تسابق الزمن متسارعة نحو بنغازي بهدف تدميرها على ساكنيها بدون رحمة ولا هوادة كما أمرهم بذلك "سيف" إبن الطاغية القذافي؛ عندها..... كان الوقت يمرّ بسرعة، وكانت الأحداث تتصاعد بشكل مضطرد يصعب معه التفكير في شكل ونوعية؛ بل وحتى زمان ومكان ردة الفعل.... عندها أغلقت الأبواب، وشحّت الخيارات أمام شباب ليبيا المتفض فلم يكن أمامهم وقتها من خيار غير الإستعانة بالأجنبي لأجل حماية بنغازي في الدرجة الأولى، ولأجل حماية الليبيين من حاكمهم الذي كان يتصرّف كالثور الهائج.
في تلك اللحظات الحرجة والأجواء المشحونة تلاحم أبناء ليبيا في الداخل والخارج عفويّا، وتجمّعوا كلّهم على كلمة واحدة عنوانها "الحرية". شعر الليبيّون والليبيّات بمختلف إنتماءاتهم المكانيه والثقافية والعرقية بأنه لا مناصّ من التخلّص من هذا الطاغية مهما كانت الوسائل ومهما كانت التضحيات، وعلى أنّه لا رجعة عن تحقيق الهدف. 
حدثت في تلك الأثناء ـ كما نعرف ـ إنشقاقات كبيرة في داخل ضبّاط الجيش الليبي، ومن بين رجال السلك الديبلوماسي، وإمتدّ ذلك ليشمل أقرب المحيطين بالطاغية القذافي وحتى من بين المقرّبين منه.... ولم يفعل كل أولئك ما فعلوا إلا لإيمانهم الحقيقي بالحريّة لليبيا ولأهلها، وكذلك لقناعة الجميع بأن إنتماءاتهم كانت بالكامل لليبيا (الوطن) ولأهلهم (الشعب) ولم تكن إنتماءاتهم بأي شكل من الأشكال للطاغية القذافي أو لأفراد أسرته مع أنّهم عملوا معه، وتعاونوا مع أبنائه؛ إذ لم تكن أمامهم حينها أية خيارات متاحة اللهمّ إلا شدّ الرحال وترك البلد له ولأولاده ليعبثوا بها كما شاءوا.
إلتحم أهل ليبيا في الداخل وفي الخارج مع بعض ككيان واحد وموحّد، وإصطفّوا وراء المجلس الوطني الإنتقالي؛ وبذلك فقد تمكّنوا من تشكيل جبهة وطنية قوية صامدة إستطاعت الوقوف في وجه كتائب الطاغية المدجّجة بأحدث أنواع الأسلحة الفتّاكة والتي يعرفون بأنّها لم ولن تتردّد في إستخدام أسلحتها لحرق كل ليبيا، وقتل أهلها بدون رحمة أو شفقة في سبيل بقاء "سيّدها" في السلطة؛ وقد إتّضح ذلك جليّا أمام كلّ الليبيين ـ وأمام بقية شعوب الأرض ـ من خلال خطاب القذّافي الأب، وخطاب إبنه "سيف" في الأيّام الأولى لإنتفاضة 17 فبراير حين شرع كل منهما يتوعّد الليبيين بالحرق والدمار والإفناء إن هم واصلوا مطالبتهم بالتحرر والإنعتاق من القهر والطغيان. 
إن الدور الفعّال الذي لعبه السيّد "عبد الرحمن شلغم" في مجلس الأمن كان عظيما، ومؤثّرا، وعلينا أن نعترف بأنه كان حاسما جدا مع بالطبع التذكير بدور السيد "إبراهيم الدبّاشي" الذي كما نعرف كان الدافع القوي ـ بل يمكن القول بأنه كان المحرك الأساسي ـ في مواقف السيد شلغم المشرّفة حينها في مجلس الأمن وفي أروقة الأمم المتحدة.
كما يجب علينا تذكّر ذلك الإنشقاق المهم للسيّد "علي الأوجلي" عن نظام حكم القذافي والذي أخذ من حينها يصدر التصريحات الداعمة لثورة الشعب الليبي والكاشفة لفساد نظام حكم الطاغية القذافي من خلال معرفته لكثير من أوجه ذلك الفساد. بدأ السيّد "علي الأوجلي" في التحرّك الديبلوماسي الفوري على أرض الواقع بمّا أقنع أمريكا للوقوف وراء فرنسا وبريطانيا من أجل دعم ثورة التحرر في ليبيا.
علينا أيّها الإخوة ألّا نكون ناكرين للجميل مهما كانت تبريراتنا لذلك، وعلينا أن نعترف بأننا كلّنا صبرنا على نظام حكم القذّافي - الذي أقلّ ما يقال عنه بأنه كان نظام حكم غريب وشاذ وحقير بكل المعاني والمفاهيم؛ بل وأعمق من ذلك بكثير - لأكثر من 40 سنة ومن ثم فنحن جميعا بطريقة أو بأخرى ساهمنا في تمديد عمر نظام حكم الطاغية القذافي وعلينا أن نتحمّل جماعيّا كليبيين كل المسئولية عن ذلك إن كنا بالفعل نحلم بليبيا مختلفة عن تلك التي رسم معالمها لنا الطاغية القذافي على هدى نظريته المتخلّفة.

وختاما أقول .... إنّ الذي أخّر إعتراف أمريكا بالمجلس الإنتقالي ليس له علاقة مطلقا بالأفراد وإنما بالمواقف، وكذلك علينا ألّا ننسى حسابات أمريكا وموازنات الربح والخسارة في عقول ساستها.... ولهم أن يفكّروا كما شاءوا؛ فهم على حقّ في التفكير والإهتمام بمصالح بلادهم قبل أيّ شئ آخر فتلك هي بلدهم وهم من حقّهم أن يخلصوا في خدمة مصالح شعبهم.
إنّ الذي شوّش على قرار الإعتراف الأمريكي بالمجلس الإنتقالي من وجهة نظري هو وجود أعداد لابأس بها من المنتمين للتنظيمات الدينية مثل "الإخوان المسلمين"، وكذلك "الجماعة الليبية المقاتلة"، ولربما أيضا بعض المنتمين ل"حزب التحرير" وهؤلاء أبحث عنهم من بين ثوار 17 فبراير فسوف تجد منهم الكثيرين في بنغازي، وفي إجدابيا، وفي مصراته، وفي منطقة جبل نفوسة، وفي غيرها من المناطق الثائرة على نظام الطاغية القذافي. نعم إنه يوجد من بينهم أعضاء في المجلس الإنتقالي أيضا ( أبحث عن "اللّطع الحمراء" على جباه ثلاثة من الأعضاء)؛ ولكن يجب التأكيد على أن ذلك لايمنع مطلقا أيّ من الليبيين من المساهمة في بناء ليبيا بغض النظر عن إنتماءاتهم الفكرية، الروحية، المكانية، أو العرقية. إن ليبيا بفضل إنتفاضة 17 فبراير المنتصرة بإذن الله سوف تصبح وطناً لكلّ الليبيين بدون إستثناء أو إقصاء أو تهميش؛ فولائنا من الآن فصاعدا يجب أن يكون لليبيا فقط إن كنّا بالفعل نسعى صادقين بلناء ليبيا الزاهرة المتقدّمة التي توفّر الأمن والآمان لكل مواطنيها.