في هذه الدنيا هناك من يحسب ويقدّر وهناك من يفسد ويتكبّر، لكن الحياة هي تسير إلى الأمام وسوف لن يوقف مسيرتها طاغ ولو تمادى في طغيانه. نحن صغار في عالم الرب، وإن ظننا بأنّنا عمالقة فإن مكاننا سوف لن يبرح الهوامش..
بغض النظر عمّن إنتصر في عمليّة القسورة، وبعيداً عن المزايدات الجوفاء والعقليات الصبيانيّة التي صاحبت هذا العملية، فإن العاقل والناضح والوطني الحقيقي هو بكل جدارة ووضوح من كان يدافع عن مطار طرابلس من التابعين الرسميّين للجيش الوطني والذين كما نعرف كان أغلبهم من ثوّار الزنتان الأصليّين والذين إستماتوا في الذود عن مطار العاصمة وكذلك حماية مناطق أخرى في طرابلس ومحيطها.
دافع المنتمون إلى الجيش الوطني عن حمى الوطن بقدر ما إستطاعوا إلى أن توصّلت قيادتهم إلى قناعة مفادها أن الإستمرار في الصمود لم يعد مجدياً، ذلك لأنّ ميليشيات قسورة كانت قد قرّرت الإستيلاء على العاصمة وبأي ثمن حتى وإن أدّى ذلك إلى تحويل العاصمة إلى ركام وتحويل أهلها إلى لاجئين أو مشرّدين أو مقتولين وهم في بيوتهم.
أيقن المنتمين إلى كتائب الجيش من الزنتان بعد 42 يوماً من الصمود أن مليشيات القسورة تمتلك أسلحة فتّاكة وبأن مخازن الأسلحة بالنسبة لهم مفتوحة على مصارعها كي يأخذوا منها ما يريدون متى شاءوا وأينما شاءوا في مقابل شح كبير كان يعاني منه الجيش الليبي نتيجة لترتيبات وعوامل سابقة يعرف أغلب الليبيّون حيثياتها حين كان المؤتمر الوطني يدعم الميليشيات على حساب الجيش الليبي، وشعروا بأن تلك الميليشيات هي مصمّمة وبأي ثمن على حسم المعركة لصالحها وبذلك قرّرت كتيبة الجيش المرابطة في المطار والكتائب الأخرى في المعسكرات المحيطة وفي غرب طرابلس الإنسحاب المنظّم من مواقعها تاركة المجال أمام ميليشيات القسورة لتستولي على ما تريد بدون قتال فعسى ذلك أن يقلّل من مقدار الدمار في العاصمة ويقلّل من عدد الضحايا، ويبقي بقية سكّان العاصمة في بيوتهم.
شاهدت كتائب الجيش والتي يشكّل ثوّار الزنتان الحقيقيّون أغلب عناصرها... شاهدت مطار العاصمة وهو يتحوّل إلى حطام وركام، وشاهدوا خزّانات الوقود وهي تحرق عن بكرة أبيها، وشاهدوا آماكن كثيرة في غرب العاصمة وهي تدمّر من على بعد عن طريق صواريخ الغراد، وشاهدوا النساء والأطفال وهم يعيشون حالة من الرعب والخوف ولا يعرفون كيف يقون أنفسهم، شاهدوا العائلات الطرابلسية وهي تحاول الفرار من العاصمة إلى أي مكان يأويهم ويحمي أطفالهم من الموت المحقّق تاركين وراءهم كل ممتلكاتهم حفاظاً على أرواحهم، كما شاهدوا زرافات الأسر لليبيّة وهي تحاول عبور الحدود مع تونس الشقيقة باحثة عن بعض من الأمان في وقت بدأت فيه السلطات التونسية والشعب التونسي يتبرّمون من عودة الهجرات الليبيّة إليهم في وقت هم أنفسهم يعانون فيه من ضيق ذات اليد.... كل هذه المشاهد المؤلمة أقنعت قيادة كتائب الجيش المرابطة في ضواحي طرابلس وحول المطار بأنّه لا جدوى من إستمرار هذه الحرب المجنونة، وبأن المنتصر فيها هو منهزم، وبأن هذه الحرب هي بين أطرف ليبيّة ولا وجود لعدو خارجي واضح فيها حتى يتطلّب الشرف الوطني الصمود من أجل هزيمته وبأي ثمن ولو كان بكل المهج.
من هنا قرّرت قيادة الجيش أمر الكتائب التابعة لها بالإنسحاب في جنح الليل حتى لا يسبّب إنسحابها إحساس الطرف الآخر بنشوة النصر مما قد يدفعه إلى التهوّر والتغوّل، فكان القرار من وجهة نظري جريئاً وشجاعاً وحكيماً، لكنّه ربما كان متأخّرا بعض الشئ.
قرّر شرفاء الوطن الإنسحاب من ميدان المعركة حتى لا يكونوا سبباً في إراقة المزيد من الدماء وحتى لا يكونوا دافعا للمزيد من الدمار للبنية التحية لأرزاق الليبيّين كان قراراً وطنيّاً بإمتياز وليتقوّل المتقوّلون كما يشاءون.
أنا أرى في ذلك القرار قمة الرجولة وقمة الشجاعة، فليست البطولة أن تموت من الضمأ وليست البطولة أن تعب الماء، وإنما البطولة هي أن تحسب الخسارة والربح وأن تنظر إلى ما هو أبعد من أطراف اصابع قدميك.
طرابلس كان ينتظرها المحق من مراهقي القسورة الذين لم يسعفهم إدراكهم لمعرفة قيمة الوطن ومعنى الحفاظ على ممتلكاته، حيث كانت التعليمات الصادرة إليهم من قياداتهم بأن يحقّقوا النصر وبأي ثمن، وبأن تدمير كل ما يقف أمامهم يعتبر من بين وسائلهم "المشروعة" لتحقيق النصر.
كان النصر بالنسبة لميليشيات القسورة أمراً لامفر منه على إعتبار أن الهزيمة في هذه المعركة تكون عواقبها عليهم وخيمة حيث تعتبر خسارة هذه المعركة بالنسبة للإخوان ومن والاهم هي بمثابة إنتكاسة كبرى قد تؤدّي إلى نهاية هذه الميليشيات على إعتبار أن الجيش الليبي لو إنتصر فإنّه قطعاً سوف ينهي دابر هذه الميليشيات من على وجه الأرض.
إنسحبت كتائب الجيش الليبي من مواقعها تاركة وراءها المجال على رحبه لميليشيات القسورة كي تتقدم بدون عوائق فعسى ذلك أن يمنعها من إطلاق الصواريخ على الآمنين، وعساه أن يحافظ على ما تبقّى من بنية العاصمة التي إعتبرها الجيش الليبي ثروة لكل الشعب الليبي، فلا يعقل أن يتم تدمير العاصمة في إقتتال بين طائفتين من الليبيّين يخرج الفائز منهما منهزماً وذليلاً في نهاية المطاف.... فما قيمة الإنتصار حينما تحوّل الأرض من تحتك إلى حطام كما حدث من قبل في عاصمة الصومال مقديشو؟.
بكل تأكيد كانت نتيجة ذلك الإنسحاب شعور مليشيات القسورة بالنصر ممّا أحسسهم بالفرحة العارمة التي فقدوا معها السيطرة على تصرّفاتهم وفقدت قيادات القسورة السيطرة على أتباعها من المراهقين الذين أقحموهم في هذه المعركة البذيئة فتمددت الميليشيات بكل سلاحها الفتّاك إلى كل أطراف ووسط العاصمة بدون أن يجدوا أمامهم أية مقاومة على الإطلاق ممّا زادهم غروراً وإختيالاً معتقدين بأنّهم أصبحوا قوة لا تقهر فعبثوا ودمّروا وإعتدوا وسرقوا ونكّلوا وحرقوا ما طاب لهم ولم يجدوا رادعاً يردعهم بعد أن ترتكتهم قياداتهم يفعلون ما يريدون بدون واعز ضمير أو أي إحساس بمآسي الغير.
الآن ومليشيات القسورة أصبحت تسيطر على كل أحياء وشوارع العاصمة إتجه مقاتلوها نحو مؤسّسات الدولة السياديّة مثل الوزارات ومقر البريد المركزي والسفارات الأجنبية وربما غد إلى مصرف ليبيا المركزي، وهمّمهم الوحيد هو البرهنة لأنفسهم على أنّهم هم من يحكم ليبيا وهم من يسيطر على كل شئ فيها متبجّحين في واقع الأمر بقوّتهم حينما قالوها بكل تكبّر وتعال بأنّهم يدعون مجلس النوّاب للعودة إلى طرابلس تحت حمايتهم وعلى أنّهم يضمنون لأعضاء المجلس الحماية الشخصية وفي هذه بكل تأكيد رسالة ماكرة مفادها بأنّنا نحن من سوف يسيّر الأمور في البلاد، وبأنّكم سوف تصبحون مأمورين تعملون فقط ما نطلبه منكم مثلما كان الحال في أيّام المؤتمر الوطني.
مشلكة قيادات القسورة ومقاتليها الكبرى أنّهم لا ينظرون بعيداً عن أصابع أقدامهم، وهم ربما لا يحسبون كثيراً ولا يفهمون كثيراً في السياسة. مشكلة قيادات القسورة أنّهم تجاهلوا العالم من حولهم وتلك في حد ذاتها سوف تمسح كل إنتصاراتهم الميدانية وقد تحوّلهم مع قياداتهم إلى مطلوبين للعدالة الدولية، أضف إلى ذلك بأن مؤتمرهم وحكومتهم وقراراتهم كلّها سوف تكون صيحة في واد حينما يكون العالم ... كل العالم ضدّهم ولا يعترف بهم. ما قيمة النصر إن كان العالم كلّه لا يعترف به؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك