2013/03/24

جريمة تسميم الشباب الليبي بالميثانول


العقاب في جميع شرائع العالم يجب أن يكون عبارة عن وسيلة للوصول إلى الأحسن. لا يمكن إعتبار العقاب غاية على الإطلاق إلاّ أن يكون أحد أو جماعة تريد الإنتقام والفتك وهذا بكل تأكيد ما حصل في جريمة تسميم أكثر من 1000 من شباب ليبيا. الذي حدث هو شروع متعمّد في القتل بسبق الإصرار والترصّد بكل معنى الكلمة.

القصّة المتداولة تقول إنّ مجموعة من المتشدّدين قاموا بسرقة كميّات كبيرة من وقود الطائرات من قاعدة معيتيقة الجويّة التي يسيطر عليها "المتشدّدون" وهو كما يعرف بعضكم "سائل الميثانول" الذي يعتبر سامّاً جدّاً بالنسبة للبشر إن هم شربوه أو إستنشقوا كميات كبيرة منه ثم يقومون بعد ذلك بإضافته للخمر العادي (الإيثانول) بهدف الإضرار المتعمّد لأكبر عدد من الناس. كيف تمّت العمليّة وكيف شرب أكثر من ألف شاب جلّهم من طرابلس من هذا المخلوط؟.. تلك بدون شك تحتاج إلى بحث وتحقيقات جديّة هدفها الوحيد "الوصول إلى الحقيقة". هل يعتبر أيّ منكم أن تسميم 1064 شاب في منطقة واحدة يعتبر أقل من "جريمة ضد الإنسانيّة"، وهل قتل 101 شابّاً، وإصابة 15 آخرين بالعمى الكلّي.... هل يعتبر أيّ عاقل منكم وأي إنسان على وجه الأرض بأن هذا العقاب الجماعي الذي قصد منه الإنتقام مجاز بأية شريعة في العالم؟.

هل نبدأ في التفكير وإستخدام عقولنا بدل الإستماع إلى هؤلاء المنغلقين على أنفسهم الذين ينتهجون القتل والتفجيرات كوسيلة لفرض أجندتهم على الغير؟. علينا يا أيّها السادة دخول العصر الحديث والعيش بمعطيات هذا الزمان.

إذا كان رسول الله قد إجتهد في ذلك الوقت بجلد شاربي الخمر 80 جلدة كما يقولون، فلا يعني هذا أن ما طبّق في ذلك الزمان بالضرورة يصلح لعالم اليوم. فتلك يا سادة لم تكن واردة في القرآن الذي يصلح لكل زمان ومكان، وإنّما كانت إجتهاداً من رسول الله الذي بكلّ تأكيد لم يكن يقصد الإنتقام من أحد، لكنها كانت ثقافة ذلك الزمان بأن يضرب المذنب ويعزّر حيث لم تكن هناك مصحّات نفسيّة ولم يكن هناك أخصائيّون نفسانيّون، ولم تكن هناك مراكز تأهيل متطوّرة، ولم يبحث الناس حينها في العلاقة بين العقاب والجزاء.

لقد برهن علماء اليوم على أن الجزاء يعتبر أكثر تأثيرات إيجابيّة على المخالفين من العقاب. كان الشيخ يضرب الأطفال بعنف في "الكتاتيب" حيث يعلّمهم القرآن، وكان الأباء يضربون أبنائهم بعنف لتأديبهم، وكانت المدارس وحتى عقدين سابقين من الزمن تسمح لمدرّسيها بضرب التلاميذ؛ لكنّ كل ذلك تغيّر اليوم مع تقدّم العلم وتطوّر العقل الإنساني الذي إكتشف من خلال الأبحاث بأن "الضرب" ليس صحيّاً وخاصّة بالنسبة للأطفال حيث من شأنه أن يصيبهم بالخوف والإرتعاب والكآبة وفقدان الثقة بالنفس ممّا يؤثّر سلبيّاً في تكوين شخصيّاتهم عند الكبر. كذلك فإن العقاب لم يعد وسيلة رادعة للإصلاح، بل إنّ المصحّات العصريّة التي تديرها عقول متعلّمة ومتخصّصة هي الحل البديل لإعادة تأهيل المذنبين والجانحين والمدمنين على الخمر والعقاقير وغيرها. السويد ألغت السجون بكاملها، وبدأت الدولة هناك تدخل الجانحين في شقق سكنيّة وبيوت مؤثّثة تتوفّر لهم فيها كل وسائل الراحة مع السماح لأهلهم وذويهم بزيارتهم والبقاء معهم لساعات عديدة خلال اليوم وبعضهم يسمح لأفراد من أسرهم بالبقاء معهم لأيّام وليالٍ. الجانحون يسمح لهم بكل وسائل الترفيه والإتصالات والتواصل الإجتماعي بشرط أن يحضروا جميعاً جلسات نفسيّة وتأهيليّة خلال فترة بقاءهم في هذه الآماكن (مدّة العقوبة !). هل يا سادتي نفتح أنفسنا على العالم ونبدأ بالتفكير بمعطيات عصرنا بدل التشبّث بمعطيات الماضي السحيق التي ربّما كانت صالحة لذلك الزمان لكنّنا إنتقلنا لأكثر من 1000 سنة إلى الأمام بأجسادنا فهل ننتقل مثلها بعقولنا؟.

عقوبة شرب الخمر في القرآن 

ما هي عقوبة شارب الخمر في القرآن؟. أنا أتحدّاكم أن تأتوني بعقوبة لشارب الخمر في كانت قد وردت في القرآن الكريم. الله حرّم الزنا ونصّ له حكماً، وكذا تارك الصلاة وقاتل النفس البريئة بغير حق، لكنّه لم يحدّد عقوبة لشارب الخمر. حتى الجلد كان إجتهاداً من عند رسول الله، وهو إنسان يخطئ ويصيب (غير منزّه)، ولم يكن ذلك وحياً من عند الله وإلّا لكان وصل إلينا على هيئة قرآن كما نعرف جميعاً.

قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وقال:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}.. هذا كل ماورد في القرآن عن الخمر والطريقة التي نهى الله بها الناس عن شرب الخمر. قال فيه منافع وفيه أضرار ( والكثير منها توصّل إليه العلم الحديث) والأضرار أكثر من المنافع، وقال:اجتنبوه، لماذا؟. لعلّكم تفلحون ليس إلاّ. أجتنبوه... أتركوه... تخلّوا عنه. والسبب الآخر أنّه يصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة.. ولذلك منعكم الله من شربه. قال الله تعالى وهو يعدنا بالجنّة ويرغّبنا فيها: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} في الجنّه يا من تتوقون إليها وتسعون لدخولها... فيها لكم أنهار من خمر.... وليس ذلك فقط، بل: لذّة للشاربين. ربّما عرفتم الآن مرتبة التحريم للخمر في القرآن.

السؤال الأهم من قوّة تحريم شرب الخمر من ضعفها هو: هل يجوز تسميم الناس وقتلهم بدم بارد إلاّ لأنّهم"شربوا الخمر"، ومن هو ذاك الذي قرّر قتلهم لمنعهم من العودة إلى شرب الخمر...وبأي حق؟. أقسم بالله لو حدثت مثل هذه الجريمة في أي بلد متقدّم لكانت قامت الدنيا وقعدت، ولكانت رؤوس كبيرة في الحكم قد سقطت، ولكانت قوانين جديدة وصارمة قد صدرت لمنع تكرار مثل هذا العمل الإجرامي .

هل سمع أحدكم - يا من قمتم بجلد الشباب - عن رابطة "تمكين الإقلاع عن شرب الخمر" Alcohol Abstinence Association . هذه الرابطة مهمّتها الأساسيّة تكمن في التعليم والتثقيف وحل مشاكل المدمنين على شرب الخمر (مدمنين) وليس متعاطين. مهمّة العاملين في هذه الرابطة (المؤسّسة الخيريّة) - وأغلبهم من إخصائيي الأمراض النفسيّة والإجتماعيّة - مساعدة المدمن على الإقلاع عن شرب الخمر حتى يتحوّل إلى مواطن منتج تستفيد منه البلد.

ولعلم من ربّما قد يقول أو يتقوّل... أنا طبيب وأخصائي في أمراض المخ والأعصاب، وبحكم طبيعة عملي فأنا أكره شرب الخمر لأنّه قد يتسبّب في إتلاف الخلايا العصبيّة وقد يؤدّي الإدمان عليه إلى فقدان الذاكرة، ومن ثمّ فأنا لا أشربه ولا أحب من يشربه... لكنّني فقط أستهجن الطريقة التي قتل بها هؤلاء الشباب، والطريقة المتخلّفة التي رأينا فيها وعلى مقاطع الفيديو مجموعة من الملتحين ذوي الكروش الممتلئة والأرداف المكتنزة وهم يضربون الشباب على ظهورهم بعنف ويقولون لنا بأنّهم إنّما هم "يقيمون عليهم الحد" !. من ذاك الذي فوضّهم، وبأي حق يعتدون على حريّة وأجساد الغير؟. هل يعرف أولئك المنغلقون على أنفسهم مضار الضرب على العضلات وبذلك الشكل المبرح؟. إنّه يتسبّب في تحطّم العضلات ممّا يؤدّي إلى إفراز مادة "الميوجلوبين" في الدم التي تدور مع الدم لتصل إلى الكلى وهناك تتسبّب في هبوط الكلى الحاد الذي يؤدّي إلى الوفاة في أغلب الحالات.
أضغط هنا لمشاهدة الفيديو 
هل ندخل العصر ونتحضّر ونحتكم إلى العلم، أم نستمر في جهلنا وتخلّفنا وإستهتارنا بحياة البشر التي قال الله في قاتلها: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، وقال: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، وقال: {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}... صدق الله العظيم

ضرب العضلات المتواصل (كما يحدث في الجلد) يؤدّي إلى تحطّم ألياف العضلات فتكثر كميّة البوتاسيوم في الدم وهو ضار، وتكثر كميّة إنزيم العضلات Creatine Kinas  وكذلك إنزيم LDH.
ضرب العضلات أيضاً يؤدّي الإصابة بتحلّل العضلات Rhandomyolysis الذي بدوره يؤدّي إلى تسرّب مادة Myoglobin لتيّار الدم بكميّات كبيرة فتسير هذه المركّب الضار مع الدم إلى الكلى وهناك لا تتمكّن الكلوة من تمريره في البول فيتسبّب ذلك في هبوط الكلى الحاد Acute Tubular Necrosis الذي بدوره يؤدّي إلى هبوط حاد بالكلوة ممّا يؤدّي إلى الموت المحقّق. كل تلك المواد المذكورة تظهر في تحاليل عاديّة للدم ويمكن إجراءها في أي معمل طبّي (يمكن البرهنة العمليّة وبالدليل). أمّا من يقول بأنّ معاقبة الإنسان في الدنيا تخفّف من عذابه في الآخرة... فأقول له: إسمح لي بأن أسالك سؤالاً بسيطاً ومتواضعاً: من أين أتيت بها... هل يوجد لديك دليلاً على ما تقوله؟. هل يقترح أحدكم مثلاً بأن نقوم بجلد كل مسلم 1000 جلده لنخفّف من عقابه في الآخرة؟!. أنا أقسم بالله سوف أرضى بعذابه في الآخرة لا أن يجلدني إنسان مازال يعيش في العصر الحجري.... فالله سوف يكون عادلاً معي، لكن هذا "الحاقد" سوف يؤذيني ويتعدّى على حقوقي بحجّة أنّه إنّما "يطبّق شرع الله" وهو يفعل ذلك بالطبع بدون محاكمة وبدون دلائل وبدون عدل.

أمنيتي بأن يحتفظ أهالي الضحايا ( وهم كلّهم من الشباب) بكل معلومة يتحصّلون عليها، وأن يسجّل أهالي الضحايا الآخرين الذين جلد أبناءهم الإسلاميّون في سرت كما ظهر في الفيديو... أن يسجّلوا كل ما يعثرون عليه من وثائق وبراهين بما فيها تسجيل نسخة خاصّة بهم من ذلك الفيديو - رابطه موجوداً أعلاه - لتكون كأدلّة قاطعة وبالصورة يستخدمونها لرفع قضايا جنائيّة على أولئك الذين إعتدوا على أجساد أبنائهم وأصابوهم بعقد نفسيّة جراء الضرب المبرح والتأنيب النفسي المذل والمحقّر.
ليبيا سوف تصبح دولة مدنيّة، وسوف تناصر حقوق الإنسان، وسوف تتحمّل مسئوليّاتها أمام دول العالم المتقدّمة... وحينها يتمكن أهالي الضحايا (الموتى والمضروبين بالجلد) من رفع قضايا أمام المحاكم الليبيّة فإن لم تنصفهم يرفعونها أمام المحاكم الأوروبيّة وحينها سوف ينال أولئك "الإرهابيّين" جزاء تعدّيهم على حرمة وكرامة أبنائهم وهم في ريعان الشباب.

وختاماً... أقول لأولئك المتشمّتين في الشباب الذين أصيبوا أو قضوا أو أصبحوا عمياً: لماذا هذه الكراهيّة ولماذا هذا الحقد على الناس؟. هل توجد رحمة في قلوبكم تجاه هؤلاء المساكين، وهل عرفنا طبيعة مشاكلهم وما كان قد دفعهم إلى شرب الخمر؟. أليس في ديننا رحمة، وأليس في قلوبنا إحساس، وأليس في عقولنا نزعة نحو فهم مشاكل الآخرين والسعي نحو تذليلها أو حلّها؟. هل العقاب في الإسلام غاية أم وسيلة؟.
العقاب هو وسيلة وليس غاية في أي ثقافة من ثقافات العالم، وفي الإسلام بكل تأكيد على وجه الخصوص. يقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }.. نحن هنا نتحدّث عن أكثر من 1064 شاب مازالوا في مقتبل العمر وقد أتى إليهم من قام بتسميمهم إجتهاداً منه بأنّها ربّما هي الوسيلة الوحيدة لإقناعهم بأن شرب الخمر ضار وممقوت. هل هذا ما نريده لمستقبل بلادنا؟. نسمّم من نختلف معه بهدف إصلاحه أو قتله؟!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك